سبعون عاماً على الإعلان الطوباوي لحقوق الإنسان .. بقلم د/ أحمد الصعدي
في العاشر من الشهر الحالي، بلغ الإعلانُ العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الجمعيةُ العامة للأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر 1948 السبعين من العمر، لم يخدم خلاله غيرَ الأقوياء الذين وضعوه وكانوا أكبرَ منتهكيه ومتجاهليه، مؤكّدين في القول وفي الممارسة نبوءةً قديمةً لثيريماخوس أحد المتحاورين في ((جمهورية)) أفلاطون التي قال فيها إن العدالة هي في مصلحة الأقوى.
في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تجسّدت في صيغة شكلية (صورية) أكملَ المدن الفاضلة التي عرفها الفكرُ الطوباوي منذ أفلاطون إلى الفارابي وتوماس مور وتومازو كمبانيلا، ومملكة الغايات الحقوقية التي حلم ويحلُمُ بها الإنسانُ منذ رأى الظلم والقهر وكل أشكال استغلال وفتك الإنسان بأخيه الإنسان، غير أن هذه الصورةَ المجرّدة بقيت كما هي مجرّدة، ولم ((تُلَوَّثُ)) بالممارسة الملموسة التي تخدم الناس الذين وضع الإعلان من أجلهم كما زعم واضعوه ودأبوا على التغنِّي به إلى اليوم.
ليس الإعلانُ العالمي لحقوق الإنسان الذي بقي صورةً طوباوية جميلةً على مستوى النصوص هو أولَ وثيقة من هذا النوع تتضمن الحقوق المقدسة للإنسان وتُستخدم في تبرير أغراض مدنسة. فإعلان ((حقوق الإنسان والمواطن)) الذي كان من ثمار الثورة الفرنسية العظمى في القرن الثامن عشر، والذي أقرّته الجمعيةُ الوطنيةُ لحقوق الإنسان في الأول من أغسطس عام 1789 تضمّن الاعترافَ بأن الناس يولدون أحراراً ومتساوين في الحقوق، وأن من حقوق الإنسان الطبيعية حقَّ الحرية والملكية والأمن ومقاومة الظلم، وأن الحريةَ تتمثل في حق الفرد بأن يفعل ما لا يضُرُّ الآخرين، وعدم جواز أن يضار أي فرد؛ بسببِ آرائه مهما كانت. إلا أن هذه الحقوق بقيت مُجَــرّدةً ونظريةً، وباسمها استفحل الإرهاب ونصبت المشانق، وصولاً إلى مطالبة وزير الداخلية دانتون في عام 1792 إعطاءَه صلاحيات ((تفتيش البيوت)) في باريس؛ للبحث عن أعداء الثورة.
من المصادفات التي يجبُ أن تُذكَرَ أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وُلد في عام ميلاد الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين، ومنذ ذلك العام لم تمنع الحقوقُ المقدسة في الإعلان هذا الكيان العنصري من هدم بيت واحد من بيوت الفلسطينيين أَوْ اقتلاع شجرة زيتون تنتفعُ منها أسرةٌ فلسطينية، لا بل إن شعوباً كثيرةً حوصرت ودولاً هوجمت بقرار منفرد من الإمبريالية الأمريكية أَوْ بقرار أممي، وكل تلك الجرائم كانت ذريعتَها حماية حقوق الإنسان.
ومن المفارقات أن تحتفيَ الأممُ المتحدة من خلال ممثليها في صنعاء بالذكرى السبعين لإعلان حقوق الإنسان تحتَ ظل حصار خانق لم يشهد له العالَمُ مثيلاً وبتغاضٍ وتيسير من طرف المنظّمة الأممية التي تكثر التغنّي بحقوق الإنسان الطوباوية المُجَــرّدة وتتجاهل كثيراً وتساهم أحياناً في انتهاك حقوق الإنسان الملموسة، وتلتزم ضوابطَ حُسن السيرة والسلوك فلا تجرح مشاعر مجرمي الحرب لا سيما إذا كانوا يملكون المليارات ويقودُهم طاغيةُ البيت الأبيض.
في الذكرى الستين لإعلان حقوق الإنسان، امتدح بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة في حينه الإعلانَ واستشهد على أهميته للإنسانية كلها ولكل إنسان بمفرده بكون الإعلان يُطبَعُ بأكثرَ من ثلاثمائة وستين لغة، وقال -لا فض فوه-: إن الإعلانَ يشكّلُ المقياسَ الذي نحكم بموجبه على الخير والشر. وقد عشنا ورأينا كيف ارتجف وتلعثم هذا الحارسَ الأممي على حقوق الإنسان عندما أدرج مملكةَ الإرهاب السعوديّ في القائمة السوداء لمنتهكي حقوق الأطفال ثم عاد بعد ساعات فألبسها ثوب الطهر والبراءة.
لسنا نقصُدُ من هذا الحديث عن الإعلان الطوباوي لحقوق الإنسان أن نقفَ موقفاً عدمياً منه وإنكار ما له من فوائد أقلها معرفة ما هي الحقوق التي ينتهكها طغاةُ ومجرمو هذا العالم فنشهرها في وجوههم ليظهروا على حقيقتهم أمام شعوبهم التي يوهمونها بأنهم يؤدون دوراً رسالياً متحضراً في العالم ولو عبر الأساطيل وشحنات أسلحة القتل والدمار.
في الذكرى السبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وللحقوق التي خبرناها بالدم والألم، يجدر بنا أن نتخذَ الموقفَ الذي قال به الفيلسوف سبينوزا: لا حزن ولا فرح بل فهم، وقد فهمنا أننا لا نستطيعُ أن نَثْبُتَ على حقوقنا الأصلية إلا بقدر ما نضحي ونعمل من أجلها، وقد أثبتت مشاوراتُ السويد هذه الحقيقةَ ورأينا كيف تعامل طغاةُ العالم مع وفدنا الوطني الممثل لشعبٍ ثبت على حقوقه وخطّها بدماء أشجع وأشرف رجاله ومستعد للدفاع عن كرامته بأسنانه وأظافره.