الشهيدُ القائدُ يحذر من العلاقة النفعية مع الله وينبّه إلى آثارها
تتواصَلُ الأُطروحاتُ التي يقدِّمُها الشَّهِـيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- في دروس معرفة الله، وتواصلاً مع الحديث عن وعد الله ووعيده الذي كانت البداية في الحديث عنه في الدرس السابق لهذا الدرس، يأتي هذا الدرس في ذات السياق، ويتضمن عدداً من القضايا الإيمانية المهمة، المتصلة بواقعنا، حيث يبتدئ الشَّهِـيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- بتناول موضوع الحكمة من إنزال القُـرْآن الكريم، ليخلُصَ من خلال هذا المدخل إلى عدد من التأملات والمناقشات التي تدرس علاقة الإنسان بخالقه -سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى-، حيث يستفيضُ في هذا الجانب كما سنرى في هذه القراءة، ومن خلال ما سيطرحُه سيضعُ أمامنا تفسيرات واضحة لكثير من الأمور التي باتت ظواهر مألوفة في حياتنا مع أنها مظاهر تجسد الفساد في الحياة.
دلالاتُ سورة السجدة
كان الشَّهِـيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- قد انطلق في الدرس الماضي (الدرس الحادي عشر) من سورة الزمر، وفي هذا الدرس لم يواصل في السورة نفسها، بل توجه نحو سورة السجدة، وهي السورة التي ركزت في عمومها على قضية الخضوع لله، ابتداءً من الحديث عن تنزيل القُـرْآن الكريم، ومروراً بالحديث عن الخلق والبعث ويوم الدين والجزاء فيه، مع تفاصيل أُخْــرَى.
وكما هو بناء سورة السجدة وتسلسل طرحها مضى الشَّهِـيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-، وطرح قضية إنزال القُـرْآن الكريم بالحق، وأكّد على حكمة إنزال القُـرْآن بقوله: “فهو كتاب لإنذار الناس، إنذارهم ليهتدوا”، وربط القُـرْآن الكريم سبب الإنذار بالهداية هو ما يتسق مع سياقات القُـرْآن التي بنت التوجيهات الإلهية على أساس الرحمة.
الرعايةُ الإلهية تحيط بالإنسان
يبدأُ الشَّهِـيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- في توضيح الرعاية الإلهية التي تحيط بنا، حيث يمضي مع الآيات القُـرْآنية في سورة السجدة حين تنتقل من موضوع إنزال القُـرْآن الكريم بالحق إلى موضوع الخلق، يقول -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: “فإذا كان خلق السماوات والأرض يستتبعه تدبير ممن خلقه، كذلك أنت أيها الإنسان الذي خلقك وبدأ خلقك من طين لا بد أن يدبر شؤونك”، وهنا يحاول الشَّهِـيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- أن يربط بين تتابع الآيات القُـرْآنية، ويستخلص منه بعض الفوائد، فهذا الترتيب كما يقول: “ليس هكذا: آية جنب آية لا علاقة لهذه بهذه، هو يريد أن يقول لنا -حسب ما نفهم وهو أعلم -سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى–: أنه كيف تنتظر أيها الإنسان أن يكون الواقع هكذا: أن الذي خلقك يهملك.. هل يمكن أن يهملك؟ هو خلقك والذي خلقك هو حكيم، هو رب العالمين، وأنت كبقية مخلوقاته، ألا ترى تدبيره لمختلف مخلوقاته ماثلًا أمامك”.
ومن هنا تبدأ الأطروحة الأساسية التي تناقش علاقة الإنسان بربه، فإذا كانت من جهة الخالق مبنية على الرحمة كما أسلفنا فكيف هي من الطرف الآخر؟ لا سيما والإنسان ينظر إلى نفسه على أساس أنه المخلوق الرئيسي في هذا الكون، والعنصر المهم في هذا العالم، ومن هذه النقطة ينطلق الشَّهِـيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- ليقول لهذا الإنسان: “أتستنكر من الله أن يدبر شأنك؟! أتستغرب أن ينزل كتبًا إليك وأن يبعث رسلًا إليك؟”. ومن هنا ينبغي على الإنسان أن يستشعر أنه أكثر المخلوقات حاجة إلى رعاية الله وتدبيره، وبالمقابل فإن الله الذي يدبر شؤون النملة الضعيفة ذات المسؤولية المحدودة لا شك أنه لن يهمل تدبير المخلوق الرئيسي في هذه الأرض.
علاقةُ الإنسان بخالقه
ومن هذه النقطة يدخُلُ الشَّهِـيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- إلى الموضوع الأساسي هنا وهو علاقةُ الإنسان بربه وخالقه، واقعها، وما يفترض بها، وآثار ذلك في واقعنا اليوم، حيث انتقد بناء الإنسان علاقته مع خالقه على أساس الجانب الخدمي والنفعي فقط، فالإنسانُ يلجأُ إلى الله ويدعو الله ويرجو الله فيما يرتبط بتلبية رغباته، وتلبية حاجاته، وتأمينه من المخاوف، وإبعاده من المخاطر المحدقة به، ولكنه حين يتوجه إلى واقع الحياة يحاول أن يستقل بنفسه، فيتهرب من الالتزام بشرائع الله، ويحاول أن يستقل بنفسه في تنظيم حياته، ضاربا عرض الحائط بكل الإرشادات التي امتلأت بها كتب الله وبيناته؛ ظناً منه بأنه بهذه الطريقة يحقّق مصالحه، ويلبي حاجاته، وكأنه يتهم الله دون أن يعي ذلك أحيانا بأنه لا يحسن التدبير؛ ولذلك سوف يلجأ إلى ما مكنه الله من نعمة العقل والاختيار ليحث بنفسه عما يحقّق مصالحه في هذه الحياة، وهو ما تسبب ظهور الفساد في هذه الحياة الدنيا.
الآثارُ السيئةُ للعلاقة النفعية بالله
طبعاً قد يظن القارئ للوهلة الأولى بأن هذا الحديث مبالغٌ فيه، ولكنه يتجلى في الواقع بوضوح، وله انعكاسات عديدة، وليست الأنظمة الديموقراطية إلا وجهٌ من وجوه تجليات استقلالية الإنسان بإدارة شؤونه بمعزل عن الهداية السماوية، مع أنها لا تتعارض في سياقها العام عما تريد الدولة المدنية الوصول إليه، ولكن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقال، حيث باتت دعوى إقامة دولة مدنية أَوْ علمانية أَوْ تحت أي مسمى وجهاً من وجوه تغييب جانب التشريع الديني الذي لديه وحده القدرة الحقيقة الكاملة على تحقيق العدالة والمساواة، وتمكين كافة أبناء المجتمع من المشاركة الفاعلة في الحياة العامة، ضمن فرص متكافئة، ودون تمييز على أي أُسُس فاسدة.
ومن هذا المنطلق نفهمُ سببَ تحذير الشَّهِـيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- من قضية التسميات البديلة عن شرع الله ودين الله كأسس لتنظيم الحياة، فباتت القوانين والدساتير هي المصطلحات الرائجة، حيث أنه يرى أن ثمة إيحاءً يستشفه من هذه التسميات بأن للإنسان منهجية أُخْــرَى وتنظيم آخر لشؤون حياته من غير الشريعة، حتى وإن قيل بأن القوانين هي تقنين لأحكام الشريعة، فمن حيث المصطلح لا بد من اختيار مصطلحات توحي بأن ثمة ارتباطاً بين هذه الأنظمة وبين شريعة الله، بدلا من ترديد المصطلحات التي لا تشير إلى هذه الأبعاد المهمة، وهو ما يعده الشَّهِـيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- مما يمهد لإبعاد الناس عن القُـرْآن، وعن الإسلام، وعن شريعة الله، ومن ثم ترويض هذه الأمة بالتدريج، حتى تصل إلى واقع البعد التام عن الله تعالى.
وصَفَ الشَّهِـيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- الموقفَ الذي اتخذناه تجاه تدبير الله لحياتنا بالموقف الغريب، حيث أن فساد الإنسان في هذا الجانب كان سبباً لفساد الحياة كلها، ولم يقتصر هذا الفساد على حياته فحسب، بل عم حتى المظاهر الطبيعية، والبيئة المحيطة، ولا يمكن أن تستقيم الحياة إلا بتسليم الإنسان لله تسليما مطلقا مبنيا على ثقة بحكمة تدبير الله وأفضليته المطلقة، فمن يدبر أمر السماوات والأرض وهما أكبر من الإنسان لن يعجز عن تدبير هذا المخلوق أبدا.
وحذر الشَّهِـيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- من آثار هذه العلاقة النفعية مع الله من خلال تنبيهه إلى آثارها، التي باتت واحة متوحدة مع اليهود والنصارى، والوثنيين، وليس من المسلمين فحسب، فهذه النظرة النفعية باتت متجذرة في المجتمعات البشرية قاطبة، ومن هذه الآثار السيئة أنك ترى أن الكثير من المقدرات المادية كالنفط مثلاً باتت تستخدم في غير ما يخدم الناس، وفي سياق إفساد الحياة بدلاً عن إصلاحها، فبات أصحاب الثروات يعيشون نفسية قارون المغرور بما في يديه من الثروة، وليس الأمر مقصورا على ذلك فسحب، بل حتى في شؤون بني الإنسان الأقل بسطة في القدرات المادية، وقد ضرب الشَّهِـيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- المثل بالمزارع الذي يتضرع إلى الله كي يحفظ له زرعه، حتى إذا ما تحصل على ثمار ما زرع تهرب من الزكاة، أَوْ تصرف فيما كسبه من محصوله في غير مرضاة الله تعالى.
الحلُ الوحيدُ لإنقاذ العالم
إن واقعَ البشرية جميعها يشهد أن الإنسان لا يستغني عن نظام يعيش به في هذه الحياة، ولذلك اندفع كُـلّ بني البشر ليضعوا لأنفسهم التشريعات والأنظمة التي تمكنهم من العيش المشترك في مجتمعات متنوعة، وعلى هذا يقول الشَّهِـيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: “فلماذا لا نرجع إلى الله، أليس الله هو أعلم بنا وأعلم بهذا الكون كله من رجال القانون، من القانونيين، من الاقتصاديين، من فلاسفة القانون، من فلاسفة الاقتصاد، من فلاسفة النظم السياسية؟”
ومن هذه الحقيقة نجد أن الخضوع لله هو المخرج من الواقع الفاسد الذي بات فيه الظلم هو السائد، والتظاهر على الإثم والعدوان أمرا مشروعا حتى على مستوى الدول والحكومات الرسمية، وليس العصابات واللصوص فحسب، في واقع صارت العدالة فيه غائبة، والنظام مُجَـرّد مساحيق تجميلية لوجه السلطات القبيح التي سحقت المستضعفين، واستعبدت البسطاء، واستغلت حاجة الناس، المخرج من كُـلّ هذه التفاصيل المؤلمة لا يتأتى إلا بما نادى إليه الشَّهِـيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- من العودة إلى تصحيح هذه العلاقة الفاسدة مع الله، بحيث تصير علاقة تسليم تام، يستمد منها الإنسان الهداية في كُـلّ تفاصيل حياته، وليس مُجَـرّد علاقة نفعية مؤقتة، تحصل مع الحاجة وتنعدم مع إشباع تلك الحاجة، وهو ما يتجسد بالرجوع إلى تطبيق شرائع الله دون استثناء في واقعنا العملي، كمحاربة الربا في الجانب الاقتصادي مثلاً، إلى غير ذلك في كُـلّ تفاصيل الحياة اليومية.
وللدرس بقية.