آثار الفصل بين الشريعة السماوية والقوانين الوضعية
المسيرة/ خاص
كان للشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- نظرةٌ ثاقبةٌ نابعةٌ عن البصيرة الوقادة التي صقلها بالقُـرْآن الكريم، حين ذكر أن عملية تطويع وتدجين للأمة تتم بشكل متدرج من خلال ربطهم بالقوانين بعيداً عن شرائع الله، ولو كانت مستمدةً من الشريعة كما يقال، لكنه رفض ابتعاد المصطلح من أي إيحاء بارتباط بين هذه الأنظمة وبين شريعة الله، مما يمهد الطريق عبر الدعوة إلى احترام القوانين بغض النظر عن تمثيلها لشرع الله، مما يتيح المجال إلى أن “نتروض قليلًا قليلًا في أذهاننا على الارتباط بالقانون والقوانين”، وفي رؤية استباقية لواقع الأمة إذَا واصلت السير على هذه الطريقة يرى الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- أنه إذَا ما قيل لنا في يوم من الأيام: هذا القُـرْآن إرهابي، فسنرى أنفسَنا لا نحتاج إلى القُـرْآن في أي شيء، وقد استشرف هذا من خلال واقع نعيشه اليوم، ففي الحج الذي قال الله فيه لنبيه إبراهيم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} وهو سبحانَه يعلم أن المكان الذي يدعو عباده إلى الاجتماع فيه سيكون كافياً متسعاً لهم، ولكن جاء تحديد عدد الحجاج كُـلّ عام من النظام السعودي ليضرب هذه الدعوة الإلهية للناس بالحج، ويصبح لكل شعب ولكل دولة عدد محدود جداً من الحجاج المسموح لهم بأداء فريضة فرضها الله عليهم، وجاءت النظام السعودي ليقيد الناس ببعض القوانين، التي فرضها على الآخرين، وتقبلها الجميع، وبات تقليل أعداد المسلمين القاصدين للحج أمراً مقبولاً مع مخالفته لظاهر الدعوة الإلهية التي تجسدت في أذان إبراهيم للحج.
ومن هنا نقدر ما ذهب إليه الشهيد القائدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- من تنبيه جاد لنا بعدم الفصل بين شريعة الله وبين أنظمتنا وقوانيننا بأي شكل، حتى نقطع الطريق أمام بعض أدوات المشروع اليهودي الرامي إلى تغريب الأمة وتدجينها، ونحن اليوم قد وصلنا إلى مراحل متقدمة في هذا الجانب، وبات الأمريكي قادراً على فرض أشياء لم يكن ليفرضها علينا من قبل، كاعترافه بالقدس عاصمة للعدوّ الإسرائيلي، وفي المقابل يأتي المبرّرون من الإعلاميين والخطباء والوعاظ ليقولوا: علينا احترام القانون الدولي الذي يمنع من التدخل في القضايا الداخلية لأية دولة، ولكل دولة حق اتّخاذ أي قرار أَوْ موقف تجاه أية قضية، بما يوافق مصالحها، ومن هذا المنطلق تراهم يشجبون أي اعتراض على مثل هذه الخطوات الأمريكية التي تمثل انتقاصاً بل عدواناً على حقوق أمتنا الإسْلَامية، وشعبنا الفلسطيني.
ومن هنا يعود الشهيدُ القائدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- ليؤكّد على قضية التسليم لله، كونها المخرج، لا سيما وأنه لا مبرّر للكفر بالله بعد أن وضح تمام التوضيح كُـلّ ما من شأنه أن يضع الناس في المسار الصحيح، يقول الشهيدُ القائدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- معلقا على القائلين {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}: “المسألة ليست مسألة غامضة، أَوْ أن الأدلة عليها ليست كافية، فيكون هذا التساؤل وجيهاً نوعاً ما، إنه جحود إنه كفر إنه كلام الذي لا يريد أن يصدق بالقضية، لا يريد أن يؤمن بها، هو رافض لها، لا يريد لا أن يقبل الإيْمَـان بها، وإلا فهي واضحة جداً، أدلتها فوق الكفاية، أدلتها تدمغ، تدمغ كُـلّ مدارك الإنْسَان ومشاعره ووجدانه”.
قضية الموت والبعث في القُـرْآن الكريم:
كثيرٌ من الناس يغالط نفسَه ويظن أن ثمة ما يُعفيه عن المسؤولية حين يتهرب من الحق، ولكن حين تأتي قضية الموت والبعث ماثلة أمامه يعرف أنه سيسقط حتما أمام كُـلّ جريمة ارتكبها، وباعتبار أن “الموت هو الخطوة الأولى في الرجوع إلى الله في العالم الآخر” كما ذكر الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- بحسب مفهوم القُـرْآن الكريم، ومن هذا المدخل توسع الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- في قضية خطيرة كان ولا يزال لها من الأبعاد في واقع الأمة ما جنى عليها جناية بالغة، فمفهوم الموت حين قدمه بعض المتحدثين باسم الدين في قالب التخويف البعيد عن السياقات القُـرْآنية، وحشروا له الكثير مما وصفوها بأحاديث الترغيب والترهيب، والتي تساهلوا في قبول الغث منها والسمين، بحجة أن المهمة الوعظية لها لا تحتاج إلى عظيم تدقيق، فكل ما يؤدي إلى الموعظة مقبول ولو كان قصة مصطنعة، وهذا بات هذا الباب المفتوح على مصراعيه مدخلا واسعا أمام اليهود من خلال العديد من أدواتهم ليحرفوا مفاهيم القُـرْآن، ويقدموا للأمة مفاهيمَ جديدةً تحرفهم عن منهج الله بما يصُبُّ في مصالح ما يسمونه بـ “شعب الله المختار”.
الموت كما يقول الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- في تخليصٍ لنظرة القُـرْآن إلى قضية الموت والبعث: “ليس من الوسائل التي يأتي التخويف بها للناس، ليس من وسائل التخويف إطلاقاً داخل القُـرْآن الكريم؛ ولهذا لا تجد الحديث عن الموت إلا خاطفا وبسرعة ينتقل إلى اليوم الآخر؛ لأنه اليوم الشديد الأهوال، هو ما يجب أن تخافه، هو ما يكون الحديث عنه هو الذي يصنع الخوف في النفوس، هو الذي يملأ القلوب خوفاً ورعباً، أما الموتُ نفسُه إنما هو الخطوة الأولى، وهو قضية عادية، قضية عادية، هو بداية الرجوع إلى الله”، وهذا هو ما يعزز الاستعمال الرادع لمفهوم البعث، بحيث يسعى المرء إلى إحسان العمل، والابتعاد عن واقع الإجرام، كونه لا محالة مسؤولة ومحاسب عن كُـلّ ما صنع.
ومن هنا انتقد الشهيدُ القائدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- ما وصفه البعض بـ “عذاب القبر” و”حياة البرزخ”، وغير ذلك مما لم يرد في القُـرْآن الكريم، والملاحظ أن المضامين التي قدم بها الموت في سياق التخويف، والمضامين التي اشتمل عليها الحديث عن البرزخ والقبر كلها تصب في سياق تنمية الشعور في وجدان المسلم بكراهية الموت، والتمسك بالحياة، أية حياة، وهي الروحية اليهودية التي وصفها الله تعالى بقوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ}. أما الروحية الإيْمَـانية التي تنشأ من تربية القُـرْآن فهي روحية تستهين بالموت، إذ إنه أمر عادي، وحدث لا بد منه، كمرحلة انتقال إلى الحياة الخالدة، وما دام المرء حريصا على السير في سبيل الله فلا مسوغ للخوف من الموت، القُـرْآن الكريم لا يخوف إلا بيوم الدين، بالحساب والمؤاخذة في يوم القيامة، ولذا كانت هذه الثقافة القُـرْآنية دافعا للانطلاق في ميادين الجهاد والفداء، متجاوزة الموت كحالة مخيفة في الثقافة الموروثة، ذات الأصل اليهودي، كما حكى الله عنهم، يقول الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: “إنه الذي يربي هذه الأمة تربية جهادية، الذي يربيك لتكون مجاهدا، هل ينطلق ليخوفك من الموت نفسه، وهو يريد منك أن تستبسل وأن تبذل نفسك في سبيل الله! لا يمكن هذا حتى ولا لقائد عسكري أن يعمله”.
هذا الطرح هو الذي ينسجم مع القُـرْآن الكريم وتربيته الجهادية، حين يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}، التربية التي أفرزت شجاعة علي بن أبي طالب الذي كان يأنس بالموت كما يأنس الرضيع بثدي أمه، يقول المتنبّي:
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ *** فمن العجز أن تموت جبانا.
فما سوى هذه الثقافة القُـرْآنية مجرد إسفاف فكري، يرتكز على أقصص العجائز، وخيالات المرجفين، وسجع الوعاظ، وكلما أبكى الواعظ جمهوره ظن أنه قد أدى مهمته على أتم وجه، ولو توصل إلى ذلك بغرس القيم اليهودية في نفوسهم، متوصلين إليها بأساطير منكر ونكير، ومطرقة لا تستطيع أن تحملها ربيعة ولا مضر سوف يضرب بها شخص عادي جداً، وكثير من التفاصيل التي ضحك من جهلها الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-.
وقف الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- أما تسمية القبر بالمرقد في قوله تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}، فهي ذات دلالة على مماثلة حالة الموت لحالة النوم في غياب الإدراك، وليس على حصول العذاب فيها، فليلة واحدة من النوم تماثل في الإدراك شهراً أَوْ سنة أَوْ ألف سنة كما هو معلوم، والموت في القُـرْآن الكريم مجرد محطة انتقال إلى الحياة الآخرة، يقول الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: “أليس هذا هو من الخطأ في التربية، ومن الخطأ في المنهجية مع أنفسنا أَوْ مع الآخرين {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْت الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} وبسرعة ينتقل إلى اليوم الآخر {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} ويتحدث عن تفاصيل اليوم الآخر”.
وفي ربط رائع بين كُـلّ ما سبق أن طرحه الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- في هذا الدرس يحدّد ما يجب أن نخاف منه بحسب رؤية القُـرْآن الكريم، ويربط ذلك بالواقع السيء الذي نعيشه حين نرفض التسليم لله والخضوع له لا سيما في تدبيره لشؤون حياتنا، وسعينا كبشر إلى الاستقلال عن شريعة الله لنجد أنفسنا في الأخير في خانة المفسدين في الأرض، يقول -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: “إنما يجب أن نخافه هو هذا {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}، {وَلَوْ تَرَى} ذلك الهول الشديد {إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} خاشعون، أذلاء، يقولون لله: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} الآن اتضح لدينا كُـلّ شيء وأصبحنا موقنين {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} أولئك المجرمون الذين كانوا يستبعدون البعث، أولئك الناس الذين كانوا يرفضون أن يتولى الله هو هداية عباده، وأن يكون التقدير له في شأن عباده فيرفضون دينه، ويقولون لا علاقة له بالحياة.. هم مجرمون سينكسون رؤوسهم بين يدي الله سبحانَه وتعالى يوم القيامة”، ومن روحية سورة السجدة يستمد الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- المخرج ببصيرة الخاضع لله الخاشع له، المسلم لشريعته.
وللدرس بقية.