التأريخ يصنع وعينا (32): من الفيشيين الفرنسيين والحرَكيين الجزائريين إلى الدنابيع اليمنيين.. تطويراً للذاكرة الوطنية .. بقلم/ حمود عبدالله الأهنومي
في بداية الحربِ العالمية الثانية احتلت ألمانيا النازيةُ فرنسا، وقسَّمَتْ اتفاقيةَ الهُدنة الفرنسية-الألمانية الموقّعة في بلدة (فيشي) عام1940م فرنسا إلى منطقتين، الأولى خاضعة للسلطة العسكرية الألمانية المباشرة، وأبقت المنطقة الثانية للحكم الفرنسي ولكن بشكل اسمي تحت ما سُمِّيَ آنذاك بالنظام الفيشي، وفي اليوم التالي لتوقيع الهدنة انضم المارشال (بييرلافال) للحكومة الفرنسية العميلة، وصوَّتت الجمعية الوطنية الفرنسية لإعطاء الحاكم الفرنسي العميل (بيتان) الصلاحيات اللازمة لإصدار دستور جديد ينسجم والاحتلالَ الألماني لفرنسا والهيمنة على قرارها.
غير أن النازيين الألمان لم يُرضِهم ذلك، بل في نوفمبر 1942م احتلوا كامل أجزاء فرنسا، وحلوا اتفاقية الهدنة مع الحكومة الفيشية العميلة، شأنهم في ذلك شأن أي احتلالٍ في أيِّ زمان ومكان، فصاحب الوادي منهم يريد واديَين، وهكذا، ولا يملأ أجوافهم إلا الترابُ وبارودُ المقاومة والثورة.
تصاعدت حركة المقاومة الفرنسية من خلال الأعداد الضخمة من الشبان الفرنسيين الذين كانوا يلجؤون للتلال والأرياف، وعاشوا في الريف باعتبارهم خارجين عن القانون، وخاضوا حربا أهلية ضد رجال الحكومة الفيشية العميلة، وهيأوا الظروف لتتمكن قوات الحلفاء بعد ذلك من دخول فرنسا وطرد القوات الألمانية، وعودة حكومة فرنسا الحرة برئاسة (شارل ديغول) إلى البلاد، وتتحرر باريس وفرنسا عام1944م.
بعد ذلك سُنَّتِ القوانين التي تعاقب كُلّ أولئك العملاء والمتعاونين مع الألمان، وألقي القبض على (لافال) وأعيد إلى فرنسا، حيث حوكم وأُعْدِم عام 1945م، أما (بيتان) فقد أُخِذ قسراً إلى ألمانيا، ولكنه عاد طواعية إلى فرنسا للمحكمة حيث أدين وحُكِم عليه بالإعدام، ولكن تدخل ديغول خفف الحكم إلى السجن الانفرادي المؤبد، ومات بيتان في المعتقل عام 1951م.
والشيء بالشيء يذكر، فقد كانت فرنسا تحتل الجزائر، وتشرَّف التأريخ بذكرِ أبطال حركة التحرر وثورة المليون شهيد، ولكن مما يؤسف له أنه كان هناك من الجزائريين مَن خان بلده، وخدم الأجنبي المستعمر، وقاتل تحت لوائه، وكانوا ضمن أعداء جيش الغزاة، وهم مَن كان يطلق عليهم بـ(الحرَكيين) الذين بلَغَ تعدادُهم مئاتِ الآلاف، فماذا كان مصيرهم بعد انتصار الثورة الجزائرية؟
لقد لفظتهم أرضُ الجزائر، ومعظمُهم جُرِّدوا من أسلحتهم، فلقوا مصرَعَهم على يدِ الثوار، وبعضُهم هرب إلى فرنسا، فاستقبلهم الفرنسيون في مراكزِ إيواءٍ مُهينة، وقد باتوا اليوم هم وعائلاتهم بأعدادِ مئات الآلاف في فرنسا.
ومع مرور الوقت انخرط أولئك العملاء ليكونوا جزءا من الفرنسيين، ولكن الفرنسيين لم ينسوا أنهم عملاء، وأبناء وأحفاد العملاء؛ لهذا لا يفتأون من تذكيرهم بين الحين والآخر بحقيقتهم المهينة، وبضرورة إعادة توطينهم في الجزائر، لكن الجزائريين دولة وشعبا قرروا رفض هذه الفئة من العملاء، وعدم السماح لهم حتى بزيارة الجزائر، فضلا عن الإقامة والتوطُّن فيها.
في يوليو الماضي 2018م جدَّد وزيرُ الخارجية الفرنسي الإهانةَ لأولئك العملاء حينما أجاب على سؤالٍ في البرلمان بشأن السماح لهم بزيارة بلدهم الأصلي، فقال: “السلطات الفرنسية تعمل منذ مدة طويلة من أجل مساعدتهم للعودة إلى بلدهم الأصلي”، وهذا ما أثار حفيظة الجزائر الدولة والشعب؛ فأصدرت (منظمة المجاهدين الجزائرية)، وهم من قدماء الثوار والمحاربين، بيانا قالت فيه: “إن فرنسا تمارس ضغطا بشان الملف على السلطات الجزائرية”. واعتبرت أن “ملف الحركى العميل بالنسبة للدولة الجزائرية طُوِيَ بصفة قطعية، ولن يكون تحت أي ظرف محلَّ مساومة، فهو شأن فرنسي لا علاقة لدولتنا به”.
وكان أفضل ردٍّ أجابت به المنظمة (المقرّبة من الحكومة) هو قولها: “لماذا يتعرض الفرنسيون الذين اختاروا غداة احتلال بلدهم من قبل النازية، التعاونَ مع المحتل، للملاحقة، وإنزال أقسى درجات العقوبة بهم، وحرمانهم من كافة الحقوق المدنية؟، في وقتٍ تريد فرنسا عودة عملائها إلى الجزائر؟!”.
أليس هذا الدرس جديرا بالوقوف عنده مليا من كُلّ أولئك المنافقين العملاء الذين رضوا لأنفسهم خدمة عبيد الأمريكان والصهاينة في اليمن؟!
لستُ بحاجة إلى التذكير الإضافي لهم بنهاية جيش (أنطون لحد) العميل لإسرائيل في جنوب لبنان، ولا بنهايات العملاء في فلسطين المحتلة، ولا بسواهم، وهم كثير في هذا العالم.
على أولئك المنافقين العملاء من أبناء جلدتنا أن يوقنوا بأن العار سيلاحق كُلّ من صار (خدام خدام الأمريكي)، وأنه سيكون أتبع لهم من ظلهم؛ لأن هذه هي سنة العالمين، ولن يجدوا لها في اليمن تبديلا ولا تحويلا.
وبهذا يتبين:
-أنه يجب على الساسة وصناع القرار أن لا ينسوا تضحيات الشهداء والجرحى والمجاهدين والأحرار من أبناء هذا الشعب، بفتح شيك على بياض لأولئك المرتزقة المنافقين العملاء، ممن تلطخوا بعار الانضواء تحت راية المعتدين، وتورطوا بقتل الأبرار من أبناء وبنات هذا الشعب، وتدميرِ اليمن إنْسَاناً ودولة وحضارة.
-كما يجب على المجتمع نفسه أن يبادِر لاتخاذ الموقف الفاعل في محاصرة عملاء العدوان، وعزلهم شعبيا، ومجتمعيا، والنظر إليهم باعتبارهم ناقصي رجولة، وضعيفي إيمان، ومنعدمي وطنية، ويجب وضعُ قوائمَ عارٍ بأسمائهم وعناوينهم، والتواصي بأن لا يذكر أحدهم إلا ويتبع بالقول: (صانكم الله).
-أما المرتزِقة المنافقون فإن عليهم أن لا ينتظِروا أن يعودوا بأيديهم الملطّخة بالدماء الطاهرة والبريئة كما لو أنهم كانوا في نزهةٍ عابرة ليومٍ أو بعض يوم، بل عليهم أن يتوقعوا كُلّ شيء مكروه، وأقل ذلك أن يوقِنوا أن هذا الشعب في أقل الأحوال سينظُر إليهم كما نظر الفرنسيون إلى (الفيشيين) العملاء، وكما نظر الجزائريون الأحرار إلى (الحركيين) العملاء، ومن الخير لهم أن يُرتِّبوا أوضاعَهم اليوم بعيدا عن هذا البلد الطاهر وأبنائه الأبرار، حتى لا يصطدموا بنتائج غير متوقعة على المستوى الشعبي.
آن الأوان لتفعيل الذاكرة الوطنية، وتمتينها، وتزويدها بجميع مقومات الحصافة، والشعور الحي، والمناعة ضد الغفلةِ والنسيانِ وضعفِ الذاكرة والتهاونِ، فليس علينا أن نعز مَنِ اختار طريق الهوان، وصدق الله القائل: (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [الحج:18].