التاريخ يصنع وعينا (33): عن الأطباء الملائكة والشياطين
ذات محاضرة قلْتُ لجمهرة كبيرة من الأطباء والممرِّضات في أحدِ أهمِّ مشافي العاصمة: إنه من الصعب جداً أن يُخَيَّر الإنسانُ بين سلوكِ الملائكة المقرَّبين، أو سلوك القتلة المُجرمين، فخيار الملائكة يتطلَّب ثمناً باهظاً، وكُلفة شاقة، والتزاما راقيا، بينما خيار القتلة له تبِعاتٌ خطيرة، ونتائجُ وخيمة، قد يهوي إليها كثير من الناس حين لا يأخذ نفسه بالخيار الأول.
ولعل فئة الأطباء والجراحين والمُسعفين والممرضات وكل مَن يشتغل بهذه المهمة الإنسانية الخطيرة هم من هذه الفئات التي تحصُرُ أصحابها في هذين الخيارين، مثلُهم مثلُ الحكّام، والقادة، الذين لا يمكن أن يكونوا خيارا ثالثا، وهو الخيار العادي، من فئة المؤمنين الطيِّبين، الذين لا يتحمّلون هذه المسؤولية ذات الحَدِّية المُفْرِطة.
وضربْتُ لهم على ذينك السلوكين مثالَين:
الأول: الدكتور عَبدالرحمن عَبدالرب محمد، من مديرية سامع، الذي ولد قبل 45 سنة، ومرّ به في صباه، وعمره 12 سنة، حادثٌ أجبره على أن يقرِّر بأن يصبح طبيبا؛ ذلك أنه رأى شقيقته الصغرى نائلة، ذاتَ الربيعين، وهي تبتلِع بالخطأ عملة معدنية، سدّت جهازَها التنفُّسي بغيابِ أيِّ طبيب ينقذها، فتوفِّيَت أمام ناظريه عاجزاً أن يفعل لها شيئاً، وبالفعل حصل على منحة دراسية في (المجر)، ولكنه لما عاد إلى اليمن للقيام بمهمته الإنسانية التي تاق إليها، لم يجد البيئة التي تحتضنه، وتساعده على تقديم رسالته الإنسانية في هذه الحياة.
لهذا قبل عشرين سنة، عاد إلى (المجر)، التي فتحت له ذراعَيْها مُرَحِّبةً به للعمل على أراضيها، وقبل عشر سنوات تقريبا منحته جنسيَّتَها، لتختطف على اليمن أحد عقولها اللامعة، والذي كان يجب أن يكون أحد أبنائها البررة، على أن قضية النزيف العلمي، وهجرة الأدمغة اليمنية إلى الخارج قضية مؤلمة من المهم أن نُعَرِّج عليها ولو لاحقا.
في عام 2016م صحى العالم على نبأ ظفر ذلك الطبيب اليمني، والمتخصِّص في الأطفال الخُدّج، بلقب “أفضل طبيب لذلك العام”، بعد حصوله على أعلى نسبة من الأصوات المجرية، إثر تصويتٍ تمّ على شبكة الإنترنت، بمشاركة حوالي 12 ألف مريض منافسا 100 طبيب مرشّح، معظمهم من المجريين.
تحدثت الصحافة المجرية أن الطبيب اليمني مثالٌ ناجح لاندماج المهاجرين داخل المجتمعات الأوروبية، وهو رجلٌ دمث الأخلاق، ولا يتوانى عن مساعدة المرضى، ويقطن في مدينة (جيولا) التي تضمّ حوالي 30 ألف نسمة، حيث يدير قسم الولادات في أحد مشافيها، ويلقّبه الجميع هناك بـ(العمّ عبدو)، ويعتبره الجميع هناك “رجلا استثنائيا”، وحين يعالج مرضاه ينحني للطفل ليُحَدِّق في عينيه بكل رأفة ومحبة، لهذا منحوه أفضل لقبٍ طبي وفضلوه على من سواه.
شركة صناعة الأدوية اليابانية “أستيلاس فارما المساهمة”، تقدِّم سنويا جوائر لأطباء يتمتعون بكفاءة مهنية عالية، وخصالٍ حميدة، وبالتعاون مع كلّ من كلية الأطباء وجمعية المستشفيات في المجر، أجرت ذلك التصويت؛ بهدف تشجيع الأطباء على البقاء في البلاد وعدم الهجرة إلى أماكن أخرى، وفاز الطبيب اليمني بتلك الجائزة.
طفلُ صديقي وليد طلحة ذو العامين، هو بطل المثال الثاني.
لقد سقط من شرفة الطابق الثاني في منزلهم بصنعاء، فأُسْعِفَ إلى أحد مشافي العاصمة الكبار، مغربَ شمس يومٍ من أيام شهر الرحمة، والمغفرة، والرضوان، والإنسانية، شهر رمضان.
غير أن المصيبة أن أحدا من العاملين في ذلك المشفى الكبير لم يكلف نفسه عناء النظر إلى هذه الحالة الطارئة والخطيرة، وبينما كان أبوه وعمه يوزِّعان نظرات الاستعطاف يمنة ويسرة، وهما يحاولان إبعاد شبح الموت عن ذلك الطفل، لكن الإناث من عاملات المشفى كنَّ مشغولاتٍ بالحَملقة في تلفوناتهن (اللمس)، بينما كان الذكور يستعدون للإفطار والصلاة، ولما ألح على أحدهم والدُ الطفل لينظر في حالته، أجاب بأنه لا يُمكن أن يُفرِّط في صومه وصلاته، من أجل حالة مريض؛ لأن المرضى كثيرون.
غادر أبو الطفل وعمُّه به إلى مشفى خاص، ظنوا أن في أطبائه بقية إنسانية، لكن الموت كان أسرع إليه من آمالهم، فقد أنشب أظفاره بقوة في روح ذلك الطفل البريء، وقد ساعده أولئك القتلة الشياطين في ذلك المشفى.
ذهب كُلٌّ لحاله، وأذّن المغرب، فصلى الطبيب صلاته تلك التي حرص أن يضحي من أجلها بحياة طفل رضيع، وأكملت المُمرّضات دردشاتهن التي كانت أغلى من روح برعم وفد إلى الحياة ضيفا، ثم غادرها وقد رأى من قسوة أهلها وفظاظتهم ما يكفي الملايين من أمثاله لأن يحملهم على المغادرة أيضا بلا أسف.
من المؤكد أن تديُّن ذلك الطبيب على شاكلة تدين الطيارين السعوديين الذين لا يقصفون الأحياء المدنية، ولا يقتلون الأطفال والنساء في ليالي القدر المباركة في شهر رمضان، إلا وقد نالوا أجر صلاة التراويح جماعة، وربما في المسجد الحرام، وخلف إمامه السديس.
وعلى شاكلة تديُّن ذلك الطبيب، تحضرني فتوى المفتي العام الأسبق للسعودية، عبدالعزيز بن باز، لتكون شاهدا على هذا التديّن الصحراوي، الذي لا يقيم للإنسانية معنى، لقد حرَّم أن يُطْلق على (الممرّضات) لقب (ملائكة الرحمة)، بحجة أن الملائكة ليسوا إناثا، ولكنهم ذكور، جريا منه على التزام الحقيقة القاسية، التي لا تعرف للمجاز طريقا، كما هو دأب شيخِهم ابن تيمية في إنكار المجاز.
بلى لا يجوز تسمية ممرِّضات وطبيبات التلفون اللمس في ذلك المشفى سيء الصيت بذلك اللقب، بل بلقب (القاتلات النواعم)، أو أي شيء من هذا القبيل، أما صاحب الصلاة فإن صلاته باطلة، واكتسب بها الإثم؛ لأن فقهاء المسلمين يعتبِرون صلاة مَنِ استمرَّ في صلاته وهناك مَن يجب إنقاذه، غريقا، أو جائعا، أو مريضا، صلاةً باطلة، وليست صلاتُه فقط التي بطلت، بل ودينه أيضا تعرض لخلل خطير، وإنسانيته انحدرت إلى مستوى سحيق من الحيوانية المتوحشة.
لقد كنَّا إلى طبيبٍ لا يُصلِّي ولا يصوم أو من ديانات أخرى أحوجَ منا إلى طبيب يتديّن لله عز وجل على الطريقة الوهابية البشعة والمعوجة، والتي لا تقيم للإنسانية معنى!!.
وصدق الله إذ يقول: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة:32].
وبهذا يتبين:
-أن مهمة التطبيب والجراحة والإسعاف والتمريض مهمة إنسانية نبيلة، وخطيرة، ولا تدع صاحبها من سلوك أحدِ طريقين لا ثالثَ لهما، إما أن يكون ممن يُحيي الناسَ جميعا، أو ممن يقتلُهم جميعا.
-وأن أي تأخر أو تلكؤ أو إهمال في الإسعاف والتطبيب والمعالجة والتمريض يؤدي إلى موت المريض، يُعتَبر قتلا، وإجراما، وللناس جميعا، ويتضاعف الذنب إذا كان ذلك بحق أفضل الخلق، وأنبل الرجال، وهم الجرحى الأبرار، من المجاهدين الأطهار.
-وأنه يجب على كل من يحمل الثقافة الوهابية من الأطباء أن يراجع تدينه على ضوء مفاهيم الإنسانية، ومقاصد الشريعة، وفقه الإسلام المحمدي الأصيل، وأنه بحاجة في أقل الأحوال لأن يراجع (قَسَم أبقراط) بالإخلاص لمهمته، أكثر من الاستماع لمواعظ وخطب ابن باز، والسديس، وابن عثيمين.
وللحديث بقية..