الفصل الختامي في الأزمة السورية: الرابحون والخاسرون .. بقلم/ عبدالله السناوي
ما حدودُ التغير في موازين القوى وقواعد الاشتباك؟ هذا سؤال أول. وعلى أيِّ وجه سوف تستقرُّ حقائقُ الصراع؟ هذا سؤالٌ ثانٍ. ومَن الرابحون والخاسرون في نهاية المطاف؟ هذا سؤال ثالث. لكل تطور جوهري مقدمات تومئ إليه وتداعيات تترتب عليه. لم يكن قرار الانسحاب ــــ بذاته ــــ مفاجئاً، لكن توقيته بدا مربكاً للحلفاء والخصوم على قدم المساواة.
أثناء حملته الانتخابية، تبنى المرشح الجمهوري ترامب هذا التوجّه، فهو يعتقد بأن أي دور عسكري أميركي لا بد أن يدفع ثمنه.
وفي 29 آذار/ مارس الماضي، أعلن التوجهَ ذاتَه للانسحاب في أسرع وقت، لكنه أرجأه بضغوط من «البنتاغون» والاستخبارات الأميركية، وهو غير مستعد ــــ الآن ــــ لأي إرجاءٍ جديد. ليس هناك سِرٌّ كبير في أسبابه، فبتصاعد أزماته الداخلية مع «الكونغرس» والميديا والمنظّمات الحقوقية والمجتمع الأكاديمي تأكدت رغبته في مخاطبة جمهوره المحافظ المتشدد الذي انتخبه على قاعدة أن «أميركاً أولاً» والتخلص من صداع المهاجرين والأقليات بقدر ما هو ممكن واتباع سياسة اقتصادية حمائية، وألا يكون هناك دور عسكري بلا أثمان تدفع.
بتعبيراته: «هل تريد الولايات المتحدة أن تكون شرطي الشرق الأوسط؟ وألا تحصل على شيء غير خسارة أرواح غالية وإنفاق آلاف تريليونيات الدولارات لحماية أشخاص لا يثمنون في معظم الأحوال تقريباً ما تقوم به».
بالمخالفة لأوضح الحقائق على الأرض، أعلن أن مهمة الحرب على «داعش» تمت، ونسب إلى نفسه الفضل الأول في حسمها. لم يكن أحداً مستعداً لأن يصدق أن الحرب على الإرهاب انتهت، أو أن يستسيغ ما قاله من أن «روسيا وإيران وسوريا وغيرهم هم الأعداء المحليون لتنظيم داعش وكنا نقوم بالعمل نيابة عنهم»، ولا هو كان يعنيه كثيراً أن يتسق كلامه مع حقائق الأدوار. بكلام آخر، فإن قراره سحب القوات الأميركية، التي تبلغ حوالي ألفَي ضابط وجندي أغلبهم من القوات الخاصة، يدخل في سياق محلي لا دولي، انتخابي لا استراتيجي. وقد كان من تداعيات الحجج التي ساقها لتبرير قراره ارتفاع منسوب الاحتجاج عليه في دوائر المؤسسة الأميركية، نسبة كبيرة من أعضاء مجلسَي الكونغرس دعوا إلى مراجعته، ووزير الدفاع جيمس ماتيس أعلن استقالته وتبعه بساعات المبعوث الأميركي للتحالف الدولي بريت ماكغورك، وخرجت انتقادات حادة من داخل الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة. هكذا أدخلت على خطة ترامب تعديلات جديدة لتخفيف وطأتها على المعسكر الذي يفترض أنه يقوده. في البداية، تحدث عن «انسحاب كامل وسريع» في فترة لا تزيد على مئة يوم لإعادة كل الجنود، غير أنه تحت الضغط أعاد صياغة قراره بأن يكون الانسحاب تدريجياً من دون التزام قاطع بجدول زمني معلن، معترفاً بأن الحرب على «داعش» لا تزال جارية.
الأخطر أنه أحال ملف استئصال «داعش» إلى الوكيل التركي، رغم التوترات والمشاحنات التي جرت معه واستدعت عقوبات عليه في وقت سابق. يصعب نسبة أي دور جوهري للقوات الأميركية في الحرب على «داعش»، باستثناء تدريب وتسليح وتوفير الغطاء الجوي لـ«قوات سوريا الديموقراطية» ذات الأغلبية الكردية في معركة الرقة.
كان الهدف قطع الطريق أمام الجيش السوري قبل أن يحكم قبضته على عاصمة الخلافة السابقة واستخدام الورقة الكردية في أي مشاريع محتملة لتقسيم سوريا. بدا ذلك مزعجاً لتركيا التي تهيمن عليها خشية تأسيس «دويلة كردية» بدعم أميركي على حدودها الجنوبية تفضي إلى تفكيك دولتها التي توجد فيها أقلية كردية كبيرة. أضيفت إلى مصادر الإزعاج خطط التقسيم التي تبنتها الإدارة الأميركية في الشمال السوري رهاناً على تمركزات «وحدات حماية الشعب» الكردية.
كالعادة، يدفع الأكراد ثمن الرهان على الحليف الأميركي حيث يجري التخلي عنهم وتركهم لمصائر غامضة في منتصف الطريق. كانت تلك النقطة ــــ بالذات ــــ محلاً لتساؤلات ومساجلات تحذّر من مذابح متوقعة للأكراد السوريين عند اقتحام منبج وشرق الفرات بعد انسحاب القوات الأميركية. بتعبير منسوب لـ «قوات سوريا الديموقراطية»، فإنه «طعنة في الظهر».
أحد الاحتمالات الماثلة أن تحاول القوات الكردية مد جسور جديدة مع دمشق والاعتراف بولايتها السيادية على كامل التراب السوري مقابل الدفاع عنها أمام أي تغوّل تركي. ما مصير الرقة؟ وكيف تستعيدها دمشق؟ باليقين فإنها مسألة وقت… بالتفاهم أو بالسلاح. قواعد الاشتباك اختلفت والحسم عنوان الفصل الختامي مهما تكن طريقته. ما مستقبل «تحالف الضرورة» الذي جمع طهران وموسكو مع أنقرة في مسار أستانا؟ وإلى أي حد يختلف الدور التركي عما كان عليه قبل قرار الانسحاب الأميركي الذي يوافق مصالحها وتصوراتها؟ يصعب الحديث عن صدامات متعجلة بين أطراف أستانا، لكنه لا يمكن غض الطرف عن قواعد الاشتباك الجديدة. إذا ما كان الكلام جادّاً حول الإرهاب والحرب عليه، فإنه لم يكن هناك أي دور تركي يعتدّ به، بل إن أنقرة ساعدت بجهد وافر لفترات طالت على إيواء الجهاديين وتمويلهم وتسليحهم قبل إمرارهم إلى ميادين الدم. كما أن التعريف التركي للجماعات الإرهابية يتصدرها «حزب العمال الكردستاني» و «وحدات حماية الشعب» القريبة منه قبل «داعش» و«النصرة» التي ترتبط بعلاقات وثيقة حتى الآن مع استخباراتها.
هل هناك تفاهمات غير معلَنة وصفقات مضمرة تحدث الآن في كواليس العلاقات الأميركية التركية بخصوص إدارة الملف السوري بالوكالة؟!
حسب ما هو معلَن، فإن هناك اتصالاتٍ تجرى لمنع حدوث أي فراغ في السلطة بالتزامن مع انسحاب القوات الأميركية.
تعبير فراغ السلطة نفسه غريب على قوتَي تدخّل من دون أي غطاء شرعي أممي أو سوري. وحسب ما هو معلن، فإن هناك تفاهماً ما على سحب تدريجي للقوات الكردية من منبج لتجنّب أي مذبحة محتملة. تقليص نفوذ الجماعات المسلحة الكردية نتيجة مباشرة لقواعد الاشتباك الجديدة. التعويل على «الجيش السوري الحر» كـ «حصان طروادة» للقوات التركية نتيجة مباشرة ثانية، لكنه يظل تابعاً لا شريكاً في إدارة الملف السياسي. إرباك مسار أستانا نتيجة مباشرة ثالثة، فالصدام مستبعد والتفاهم ملغم. توتر اللاعب الإسرائيلي الذي يجد نفسه أمام حقائق جديدة نتيجة مباشرة رابعة قد تدفعه إلى مغامرات وحماقات، وكان لافتاً ما تكشف من أن بنيامين نتنياهو أبلغ بالقرار قبل إعلانه.
تصاعد الضغط على السعودية لتمويل إعادة إعمار سوريا الذي تبلغ قيمته حسب أرقام الأمم المتحدة 400 مليار دولار، من دون أن يكون لها دور سياسي في إدارة ملف الأزمة نتيجة مباشرة خامسة. ترامب اتخذ القرار وأعلنه، كأنه يتحدث عن أمواله الشخصية. حتى تتضح الصورة الكاملة عن حدود العلاقات وتعقيداتها بين أطراف صيغة أستانا، يصعب التعويل على تسوية سياسية قريبة، تظل محتملة لكنها ليست مؤكدة في أي مدى قريب.
* نقلاً عن جريدة الأخبار