اتّفاق الحديدة في اليمن.. المعطيات التي أوجدته وأسباب تَعَثُّرِه .. بقلم/ شارل أبي نادر
لم يشهدِ التأريخُ الحديثُ أَوْ القديمُ حرباً مماثلةً للحرب على اليمن. لا في غرابتها لناحية تكتُّل أَكْبَــر عدد من الدول القادرة ضد دولة فقيرة وضعيفة، ولا في ظُلامتها وعدم قانونيتها حيث لا سببَ منطقياً أَوْ طبيعياً أَوْ قانونياً أَوْ عملياً يدعو لهذا التحالُفِ ضد دولة لم يعتدِ شعبُها على أيِّ طرف من المعتدين، ولا في استهتار المجتمع الدولي بنتائجها وبفظائعها وفي تقاعسه عن إيجاد حل عادل ومنطقي لها.
على المقلب الآخر، أيضاً لم يشهدِ التأريخُ الحديثُ أَوْ القديمُ شعباً قاوَمَ وصمَدَ في هذه الطريقة الغريبة مثل الشعب اليمني، في ظل ما يملكُ من إمكانيات متواضعة بسيطة، لا يمكن مقارنتُها بمجموع ما يملك تحالُفُ قوى ودول العدوان من أسلحة وتجهيزات وقدرات متطورة.
أمامَ الفشل والعجز عن الحسم ضد شعبٍ أثبت أنه لا يرضخُ وأنه يقاتلُ حتى النفَس الأخير وباللحم الحي، كان لا بد لهذا العدوان من مناورة تكسرُ هذا الجمود في الميدان، وتجد حلاً لهذا العجز في إحراز أي تقدم يسمح له بأحداث تغيير ولو بسيطاً في الستاتيكو، الذي اكتشف أنه لن يستطيعَ الخروجَ منه إذَا سارت الأمور كما هي الآن، فاختار الرضوخ للتفاوض وبشروط الجيش واللجان الشعبيّة التي طالما كان يرفضها، فكانت مفاوضات السويد وكان اتّفاق الحديدة.
إضافةً للمأزق الذي وصل إليه العدوان والذي دفعه للسير باتّفاق الحديدة، كانت لدى هذا العدوان أهداف ميدانية واستراتيجية أخرى لهذا الاتّفاق وهي:
– محاولة عزل الحديدة عن الجبهات الأخرى؛ بهدف إبعاد تأثير الجيش واللجان الشعبيّة عن البحر الأحمر، حيث استطاعت وحدات هؤلاء (الجيش واللجان) أن تخلقَ، وعبر قدراتها الصاروخية الباليستية، نقطةَ تأثير استراتيجية على الممر الحيوي لأغلب دول العدوان ولغيرها.
– انتزاع الميناء أَوْ على الأقل تحييده، لنزع نقطة التواصل الأخيرة للجيش واللجان الشعبيّة مع الخارج، ولحرمانهم من مميزات الميناء الوحيد، والمحرّر نسبياً من حصار العدوان المفروض على كافة معابر اليمن.
– فصل ترابط وتماسك الموقعين الأقوى ميدانياً واستراتيجياً وشعبياً واقتصادياً لدى الجيش واللجان الشعبيّة: الحديدة ومينائها عن العاصمة صنعاء ومحيطها.
– التركيز على جبهات الداخل ودعمها بالقوى وبالقدرات العسكريّة، بعد تحرير قسم كبير من جهود العدوان التي سُخِرَت لمعركة الساحل الغربي وللحديدة خَاصَّــة، والمؤشر لذلك الضغوط الواسعة التي يمارسها هذا العدوان حالياً على أَكْثَــر من جبهة داخلية أَوْ حدودية شمالاً.
أما لناحية الأسباب التي دفعت بالجيش واللجان الشعبيّة للسير بمفاوضات السويد والتي أنتجت اتّفاق الحديدة فهي:
– إظهار حُسن النية الدائمة نحو التسوية السياسية، حيث كانوا دائماً يعبّرون عنها في أغلب مناسبات مشاريع التفاوض، والتي كان يقابلها العدوان بالرفض والتعنت، فكان استعداد هذا العدوان لذلك مؤخراً فرصة أرادوها دائماً، المهم أن تبدأ هذه المفاوضات من أي مكان.
– سحبُ الذريعة التي كان العدوان دائماً يتمسّكُ بها ويستغلُّها في الإعلام وفي الديبلوماسية وفي الميدان أَيْضاً، من أن ميناءَ الحديدة يشكِّلُ ممراً أساسياً لإدخال الأسلحة والصواريخ وجزئياتها للجيش واللجان ولأنصار الله، وبأن هؤلاء يسيطرون على أغلب مساعدات الأمم المتحدة التي تدخل للشعب اليمني.
– تخفيف الضغوط الميدانية والعسكريّة الكبيرة عن وحداتهم التي بذلت جهوداً ضخمة للدفاع والصمود في الساحل الغربي وفي الحديدة تحديداً، أمام جحافل العدوان ومرتزِقته المدعومة جواً وبحراً وبراً بشكل عنيف ومتواصل، مع الوصول ميدانياً لوضع يسمح بتحرير بعض تلك الوحدات والجهود لصالح المدافعة على الجبهات الداخلية والشمالية.
تضمنت المرحلة الأولى “العملية” من اتّفاق الحديدة بدايةً، بندَ تبادل لوائح الأسرى والمعتقلين، والتي تبين عند التدقيق فيها، أن العدوان ومرتزِقته لا يملكون لوائحَ محدّدة بشكل تفصيلي واضح عن معطيات الأسرى والمعتقلين في سجونهم، وظهرت الفوضى وعدم التنسيق والضعف في آلية ضبط هؤلاء المعتقلين، لناحية عدم تحديد الجهة التي اعتقلتهم ومكان وجودهم، ناهيك عن أخطاء لا تحصى بأسماء مكررة وبأسماء من المحكومين بتهم إرهاب أَوْ بتهم جنائية كانوا حُكِمُوا بها سابقاً قبل الحرب.
البند الثاني من الاتّفاق، والذي كان من المفترض أن ينفّذ بالتزامن بين نقطتين: الأولى تسليم الجيش واللجان الشعبيّة ميناء الحديدة لخفر السواحل اليمنية ولإدارة الميناء الرسمية، والنقطة الثانية كانت تقضي بانسحاب وحدات العدوان ومرتزِقته من مداخل ومحيط الحديدة الجنوبية والشمالية الشرقية، مسافة كافية لعودة الوضع الطبيعي إلى المدينة، ولإعادة تواصلها الطبيعي والضروري مع العاصمة صنعاء ومع المحافظات الشمالية.
بعد تعثر تنفيذ بند تبادل الأسرى بسبب أخطاء العدوان ومرتزِقته في تحديد المعتقلين لديه، المتعمدة أَوْ التي حصلت عن ضعف في السيطرة وفي الإدارة، لم ينفّذ العدوان بند إعادة الانتشار على محيط الحديدة، بحجة أن خفر السواحل الذين استلموا ميناء الحديدة هم من أنصار الله، في الوقت الذي أثبتت إدارةَ الميناء أن جميع عناصر خفر السواحل الذين استلموه هم من المسجلين على لوائح الميناء الرسمية والمعروفين لديها منذ ما قبل الحرب على اليمن.
صحيح أن الاتّفاق قد تعثر تنفيذه حتى الآن بمرحلته الأساسية الأولى، والسبب الاتهام المتبادل بين طرفيه بعدم تطبيق ما التزم به كُــلّ طرف كما ذكر أعلاه، ولكن يمكننا أن نستنتج من المعطيات والوقائع المتعلقة بعدم التطبيق، أن المشكلة الأساسية والعميقة التي تبعد الحل عن الحرب اليمنية وتجعل الأمور معقدة وبعيدة عن التسوية هي:
يعتبر العدوان ومرتزِقته أن “أنصار الله” هم مجموعة غريبة عن اليمن، وبأنهم غير مؤهلين لا قانوناً ولا شرعاً أن يتمتعوا بأية حقوق إدارية أَوْ سياسية في الدولة، وحين اعتبروا أن خفر السواحل هم من “أنصار الله”، أي من الحوثيين، وبالتالي يكون بندُ تسليم الميناء لم يطبّق، كانوا يقصدون أن هؤلاءِ غير مواطنين وغير جديرين باستلام أي مرفق في الدولة، وهذه هي مشكلةُ الحرب اليمنية والتي بدون اقتناع كُــلّ أطرافها في الداخل وفي الخارج، أن جميع المكونات اليمنية لها نفس الحقوق والواجبات، لن يكون هناك حلٌّ لهذه الحرب، حتى ولو امتدت مئاتِ السنوات.