الشهادة والشهداء (3-6) بقلم/ حمود عبدالله الأهنومي
أَكْثَــرُ ما يُقْلِق الإنْسَانَ العادي هو فقدانُ حبيبِه، وغيابُه عنه، وهذا أمرٌ مؤسِف بالفعل في حالاتِ الموتِ العادية، وفي حالات الموت بالقتل الذي ليس في سبيل الله، ولكنه بالنسبة للقتيل في سبيل الله أمرٌ مختلف تماما؛ فقد بيَّن القُــرْآنُ أن الشهيدَ لم يغِب، وأنه حيٌّ يُرزَق، وحاضِرٌ، شاهِدٌ، مطَّلع، يستبشر، ويفرح.
بل إن الشهيد حظي بمؤشرات الحضور، والشهادة المستمرّة، وتميز موته الاستثنائي، فشرع الإسْلَام بعض التشريعات التي نلمح من ورائها تثبيت هذه الحقيقة، حقيقة حضور ووجود الشهيد وعدم غيابه.
لماذا لا يُغْسَل الشهيد ولا يكفَّن إلا بثيابه التي استشهد فيها؟!
يأتي الفقهُ الإسْلَاميُّ ليؤكِّد أن هذا القتيل في سبيل الله شهيد أي حاضر متحمِّل للشهادة، وأنه سيُدلي بشهادته أمام الحَـقّ في يوم الحق؛ فالفقه الإسْلَامي يأمرنا أن لا نُغسِّل الشهيد (وهو القتيل في المعركة)؛ لأَنَّه لا يُغسَّل إلا ما كان نَجِسًا، لترتفع عنه النجاسة، أَو حكمُها، والميّت هو مَنْ يُغَسَّل؛ لأَنَّ الميتة معدودة في النجاسات، وإلى النجاسة يتوجَّهُ وجوبُ التطهير والغسل، لكن الشهيد لم يَمُت، وليس بميتة، بل هو حاضرٌ، وحيٌّ، وطاهِر، ومَن كان حاضِرًا وطاهرا فلا يُغْسَل.
إن المنعَ من غسلِ الشهيد إمعانٌ في تأكيدِ حضورِه وحياته، وهو الذي يحسبه الكثيرُ أنه غادَرَ الحياةَ، أَو أنه حلَّت به نجاسةُ الموت، والحقيقة أنه لا يزال حيا، والحيُّ لا ضرورةَ لغسله، وأنه اكتسب بالشهادة الطهارةَ التي ليس وراءها طهارة، ولا يجب غسلُ الطاهر، بل هذا الطاهر يحرُم غسلُه، إمعانا في تأكيد طهارته وحياته.
وأما أن يكفَّن في ثيابه التي قتِل فيها، وتُتْرَكَ آثارُ دمائه عليه، ليُبْعَث يوم القيامة كما هو حالُه حين مغادرته لتلك الحياة، فإن هذا أَيْضاً تأكيدٌ أنه بالفعل حيٌّ حاضر، وأن الله أراد أن يَبْقَى الشهيدُ على تلك الحالة من آثار الدماء والجروح، وكل تلك المظاهر التي توحي بما كان عليه في الدنيا من موقف حق، وحضور في المعركة المقدسة؛ ليظهر يوم القيامة فيؤدي شهادتَه أَيْضاً هناك قوليا، كما تحمَّلها في الدنيا عمليا، وإذا كان سيُدلي في المحكمة الإلهية الأخروية بشهادة المقال، فإن دماءه وجروحَه التي تشخَبُ دما، وتتضوّعُ مسكا، ستُدلي بشهادة الحال أَيْضاً.
إنها شهادة الحال حين تُظافِر شهادة المقال، لتؤدِّي مفعولَها في الوجدان، وتتأكّـــد الأحقية والمسؤولية، وتتبين عدالة القضية، التي انطلق فيها الشهيد ولقي الله بها.
ولا يبعد أن الشهيد سيظلُّ على تلك الحال حاضرا عند ربه، حيًّا خالدا، مرزوقا، مستبشِرا، مراقبا لما يجري وراءه من تطورات وأحداث، يبشِّر أهل موقفه بالأمن والسرور، ثم سيقدِّم شهادتَه أمام المولى تبارك وتعالى محدِّثا بكل التفاصيل.
لقد شدّد القُــرْآن الكريم أن الشهيد حيٌّ، فنهى عن القول بأن الشهداء أموات، وأكّـــد أنهم أحياء وإنْ بدونِ شعورٍ حِسِّيٍّ منا بحياتهم، قال تعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) [البقرة:154]، وفي الآيات الأخرى نهى الله تعالى عن حسبانِهم أمواتا، وأكَّد أنهم أحياء، بل عدَّد بعض مظاهر الحياة التي يَحيونها في مستقرِّهم الذي اختص الله به؛ إمعانا في تأكيد هذه الحقيقة التي يتجاهلها الكثير؛ قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران:169- 171].
الآيات تبيّن:
– أن الشهيد لم يمُتْ، بل هو حاضِر وشاهد، والحضورُ هو معنىً من معاني الشهادة؛ وعليه فإن على أحبَّاء الشهيد وأقارِبِه أن لا يَحزنوا؛ بسببِ فقدانه؛ لأَنَّه في حقيقة الأمر حاضِرٌ شاهِدٌ لهم، مُطّلِعٌ على أخبارهم، ومراقِبٌ لكل أعمالِهم، التي تتَّصِلُ بقضيتِه العادلة التي قُتِل من أجلها، هذا من ناحية.
– من ناحية أُخْرَى بيَّنَتِ الآياتُ أنهم (أي الشهداء) عند ربهم، وهو أعلى وأجمل وأقوى وأفضل حضور، يمكن للمرء أن يتمناه، أَو يرجوَه، وهو أَيْضاً مظهرٌ آخَرُ يؤكِّدُ شهادةَ وحضورَ وعِلمَ هذا الذي قتِل في سبيل الله، فإذا كان قد قُتِل حين شهد الموقفَ الحَـقّ، فقد أكرمه الحَـقّ تبارك وتعالى بأن جعله حاضرا في حضرة الحَـقّ، وعلى مقرُبةٍ معنوية منه، ومن علمه، وآياته، واطلاعه.
– وبسبب قربهم من الله فإنه من المؤكّد أنه ستنالُهم بركة ذلك القرب، ومن مصاديق القرب أن ينال القريب من فواضل مُقرِّبِه، فالله هو الحي الذي لا يموت، لكنه ميز الشهيد بأن لا يموت كما يموت الآخرون، إلا ريثما ينتقل من هذه الدار إلى دار أخرى، والله على كُلّ شيء شهيد، (إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) (النساء:33) وهو الذي يمنح هؤلاء المقرَّبين منه شيئاً من تلك الشهادة على الأشياء، ولعلها الشهادة لمَن وراءهم من رفقاء جِهَــادهم، والماضين على دربهم، حيث يمكنهم الاطلاعُ على مستجداتها، يدُلُّ على ذلك ما ذكرَتْه الآيةُ المباركة أنهم (يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم).
-وأنهم (يُرْزَقون) يضيف اللهُ ذكرَ نوعٍ من مظاهر الحياة التي يحياها الشهداء، حيث يبيّن أن حضورهم حضور مبارك متجدِّد بتجدُّدِ أنواعِ الرزق وأوقاته وظروفه، تجري عليهم الأرزاق، ومن المعروف أن الأرزاق لا تجري إلا على من كان حيا، حاضرا، وشاهدا.
-وأنهم (فرحين بما آتاهم الله من فضله)، وهنا جاءت (فرحين) حالا من واو الجماعة في (يرزقون)، والحالُ مبيِّنة لحال وهيئة صاحبها، أي أنهم تجري عليهم الأرزاق حال كونهم فرحين، وأن يرزق المرء وهو في حالة الفرح دائماً فتلك هي قمَّةُ الحياةِ المطمئنَّة، وأوفاها، وأعظمُها، وأجملُها، وأصدقُها.
-وأنهم (يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم)، حيث أثبت الله لهم خاصية الاطلاع والنظر إلى ما وراءهم في الدنيا، فهم يعرفون ما الذي يحدث وراءهم، ويستبشرون، والاستبشار هو حصول البشارة لهم، أي أنهم فرِحون بانتصارهم الانتصار الشخصي، وهو الشهادة في سبيل الله، وهم أَيْضاً مسرورون بحسن طريقة المجاهدين من خلفهم، وبأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
– ومعروفٌ – نحوياً – أن جملة (أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) بدلٌ من (الذين) الاسم الموصول في قوله: (الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم)، فكأنه قال: ويستبشرون بأن لا خوف على أولئك المجاهدين الذين خلَّفوهم وراءَهم على نفس الخط وذات المسار، ولا هم يحزنون، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وهذا يبين أنهم في أقوى حياة، وأقربها، حيث يطَّلِعون على ما بَعُد على كثير من أبناء الدنيا، فها نحن في الدنيا ممَّن نَغيب عن المعركة وعن المجاهدين، لا نعلم بكثيرٍ من المعارك، ولا بتفاصيلها، ولا بمآلاتها، لكن هؤلاء الشهداء الأحياء يطَّلعون على مُجْرَيات الأمورِ وتطوُّراتها.
وربما فَتَحت لهم يدُ العنايةِ الإلهية قنواتٍ مباشرةً يشاهدون من خلالها كلَّ تفاصيلِ ما خلَّفوه وراءهم، وهل ذلك إلا الحضور القوي والشهادة الفاعلة؟!
-كما بيَّنتِ السنةُ النبوية الصحيحة أن الشهيدَ أَيْضاً حاضر، وقريبٌ من الحَـقّ تبارك وتعالى، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه الإمام زيدُ بنُ علي عن آبائه عليهم السلام في فضل الشهيد ودرجاته: (أنه ليس أحدٌ أقرب منزلا من عرش الرحمن من الشهداء)، وهذا أَيْضاً يعزِّز ويؤكِّد حضورَ هؤلاءِ الكرامِ الحضورَ المعنويَّ لله الحَـقّ تبارك وتعالى، الحضور الذي سينعكس على نشاطهم، وأدائهم، فهم قريبون منه، مطَّلعون على تفاصيلِ ما خلَّفوه من جِهَــادٍ ومجاهدين وأعداء، مراقبون لكل شيء.
وبهذا يتبين:
-أن الشهيد هو الميّت في ظاهر الأمر، والحاضِر في الحقيقة، الذي يختلف عن كُلّ الأموات.
-وأنه لا يغسَّل؛ لأَنَّه لا يغسَّل إلا الأموات، أما هو فهو حيٌّ يرزق، ولا يغسل إلا الميتة النجسة، وهو حيٌّ طاهر، كريم، حظي بمقام القرب من الله، والحضور لديه، والشهادة عنده.
-وأنه يُكَفّن بثيابه التي استُشْهِدَ فيها، لكي يتسنى له أداء الشهادة بلسان الحال، مع شهادة المقال، على واقعه، وعلى قضيته، وعدالتها، وظلم المعتدين، والطاغية، ومسلك المقصِّرين والمُفرِّطين في المحكمة الإلهية.
… وللموضوع بقية..