الشهادة والشهداء (5-6) .. بقلم/ حمود عبدالله الأهنومي
“أكبر معاجز الشهادة هي إيصالُ الحياة والدماء إلى الأجزاءِ الميِّتة من ذلك المجتمع من أجل ولادةِ جيلٍ جديدٍ، وإيمانٍ جديد”.
هكذا قال المفكِّرُ الإسلاميُّ الشهيدُ الدكتور علي شريعتي.
دماءُ الشهداء تعيدُ نفخَ الروح في هذه الأمة
في تأريخنا المعاصر، وبالتحديد عقب استشهاد الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي، رضوان الله عليه، جاء أحدُ المجاهدين إلى القائد والسابق بالخيرات السيد عبدالملك الحوثي ليُثْنِيَه عن مواصلة مسيرة الجهاد والقتال في سبيل الله، وكان ذلك المجاهد قد أُحْبِطَ في تلك الظروف، التي بَدَت وكأنَّ كلَّ شيء من حركة الشهيد القائد قد انتهى.
لقد قال للسيد القائد: أرأيتَ كيف خذل الناسُ أخاك الشهيد حسين بدر الدين، وهو من أعظم القادة، وله شهرة أكثر من شهرتك؟ فكيف ترجو منهم أن ينصروك وأنت صغيرُ السن؟ ولسْتَ في مقام الشهيد أخيك؟.
ردَّ عليه عَلَمُ هذه الأمة رد الواثق بما عند الله، والعالم بسننه الإلهية، قائلا: “إنني أثق في الله بأن يُحْيِيَ من دماء الشهيد القائد ومن دماء رفقائه الأبرار أحرارًا آخَرين، يرفعون لواءَ هذه المسيرة، فدماءُ الشهداء هي وقود لإحياء الأمة”، غير أن ذلك المجاهد كان قد وصل إلى حالةٍ خطيرة من الإحباط، لهذا قرر التواري خلف مشهد الجهاد.
ترجل المجاهدُ المحبَط عن قطار الحرية والكرامة برهة من الوقت، ومضى السيِّدُ القائد حفظه الله في مشروعه، فشنَّتِ السلطة الظالمة الحربَ الثانية، ويسَّر الله بمجاهدين، واستُشْهِد فيها العشرات، وكان في ذلك رسالة لذلك المحبط، تقول: من أين أتى هؤلاء المجاهدون والشهداء؟؟
ثم في الحرب الثالثة، تكاثرت أعداد المجاهدين الصادقين، وتغيرت بعض المعادلات، وأصبح المجاهدون يحققون الانتصارات، ويغنمون الغنائم، وإذا بالسيد القائد يتَّصل لذلك المجاهد ويُخبِرُه بتحسُّنِ الأوضاع، وتغيُّرِها عما كانت عليه، وأن ذلك هو تحقُّقٌ لوعد الله بأن لا تذهب دماءُ الشهداء هدرا.
ثم مضت المسيرة قدماً قدماً، وإذا بها اليوم حديث العالم..
إن لدماء الشهداء أثراً عجيباً وكريماً وعظيماً..
في صدْر الإسلام، في عهد الأمويين خيَّم الظلمُ القبيحُ على الأمة الإسلامية جمعاء، وازدادت نسبة الانحراف عن الإسلام إلى درجةٍ لا تمنح لأي مسلم حق السكوت، ونفَّذَتْ الجاهليةُ ثورةً مضادة على ثورة الإسلام بنسبةٍ خطيرةٍ، لقد آذَنَت بوصول أمثال يزيد إلى سُدَّة خلافة الإسلام، وولاية أمره.
حينها كانت الأمة بحاجة إلى أن تنتَصِر لدينها على هذا الوضع المنحرِف عن الإسلام، وكان هناك في ذلك العالَم رجلٌ عظيم، هو ابنُ رسول الله، وسيدُ شباب أهل الجنة، لكنه لم يكن لديه عدة وعتاد بما يكفي للنصر مادِّيًّا على أولئك، ولكن ليس بالضرورة أن يكون النصر بأدواتِ الغلبة المادية، إذ هناك أدوات معنوية، يمكن الانتصار بها على مرِّ الزمن.
كانت الأمة ودين الإسلام بحاجة إلى (شهادة) بحجم شهادة الإمام الحسين عليه السلام، لإيقاع صدمة عنيفة في وعي الأمة، وثقافتها، ولإدانة الأوضاع الدينية والفكرية والثقافية المنحرفة، وهتك أقنعة الزيف والخداع والمكر والظلم.
شهادة تحيي موات المسلمين، وتبعث فيهم حياة الحرية والكرامة والعزة من جديد..
كان الإمام الحسين (سيد الشهداء) بين خيارِ السكوت والبيعة ليزيد، والذي يعني الإقرارَ بأوضاعٍ غير إسلامية، ويعني إضفاءَ الشرعية الدينية من مرجعية الأمة على حكمٍ منحرفٍ ووضعٍ فاسد ومُنقلِب على الإسلام، أو الخيار الثاني، وهو الثورة، وإيقاد شعلة الحرية، وإعادة الضوء في مصابيح الدين، الذي بات طقوسا جامدة لا تعكس الدين الحق، وأشكالا قشورية اختزلت الدين واجتزأته كمنظومة خاوية من دون روح، وجسدٍ أثخنه الأعداء بالجراح والآلام.
وهناك جاءت (شهادة) الإمام الحسين عليه السلام، فكانت ضمانًا لإعادة بعث الحياة الكريمة في الأمة بكاملها، وكانت أساسا لتجديد عقيدة، أوشك غبار الانحراف على دفنها، وإهالة التراب عليها.
وهنا تكمن عظمة الشهادة وعظمة أصحابها أنهم لا يكتفون باستثمار موتهم في سبيل الله، وحيازة مقام الخلود، والحياة، والحضور، بل إنهم أيضا يبعثون ذلك الحضور في قضاياهم التي انطلقوا من أجلها..
علام يشهد الشهداء وبم؟
وبقدر ما يتجسَّد الحضور الكامل والحقيقي في الشهيد؛ ولهذا يفوز بهذا اللقب العظيم (الشهادة)، فإنه تتجسّد في سعيه وآثاره تكاملية الشهادة أيضا.
شهادة الشهيد في آثارها ونتائجها وحضورها تتحرك في أكثر من اتجاه، وتلبي أكثر من حاجة، وتقيم أكثر من مجال، وتفضح أكثر من ممارسة.
يشهد الشهيد على عدالة القضية التي قتل في سبيلها، وبالتالي فهي شهادة لكل من يمضي خلفه أنهم في الطريق الصحيح والآمن والمرضي لله تعالى، وهي مؤشر يعطي ضمان الوصول إلى رضوان الله تعالى..
وتُؤتي الشهادة – التي هي الحضور والخلود – خلودا للقضية، واستمرارا لها، وتنفخ فيها روح البقاء، والصمود، والثبات؛ ولهذا نحن على يقين أن قضيتنا كيمنيين مظلومين قضيةٌ منصورة، وثابتة، وخالدة، ليس لأن القضية قضيةُ حق فقط، ولكن لأنها سُقِيَت بماء الخلود الأحمر، ونفخ فيها من أرواح الأبطال الأحرار الذين تسابقوا على الفوز بالشهادة حولها.
ويشهد الشهيدُ أيضا على قوة الحق في مواجهة الباطل، ونحن في عصرنا هذا رأينا آيات الله ووعوده للشهداء تتحقق أمام ناظرينا، فهذا دم الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه، ودماء أصحابه المستضعفين، وقد تكالب عليهم الطغيان والخذلان، بينما كان الطغاة يضعون رجلا على رجل مطمئنين، إذا بمكر التأريخ وحيوية الشهادة يتجليان ليظهر بعد مرور سنين معدودة أن معظم المجرمين الذين نفّذوا تلك المجزرة قضوا قصاصا على ما ارتكبوا، وأن صيحات الحق التي كانت تملأ أرجاء مران باتت مسموعة في مُختلَف مناطق اليمن، بل والإقليم، والعالم.
وما من شكٍّ فإن الشهداء اليمنيين مثلما شهدوا على قوة الحق، فإنهم يشهدون على ضعف وهوان وبطلان موقف المعتدين، وأنهم يمضون في طريق الشيطان.
في المحكمة الإلهية الأُخرَوية يوم تُنصَب الموازين، وتُعقَد جلساتُ المحاكمات، ويأتي فريقُ الادِّعاء، وهم الشعب اليمني، ليرفع دعواه ضد فريق المُتَّهَمين، وهم قادة هذا العدوان، وأحزابه، ومُكَوِّناته، (ترامب)، و(نتنياهو)، و(سلمان)، وابنه (المعتوه)، و(ابن زايد)، وعشرات الآلاف من فصيلة (خَدّام خَدَّام الأمريكي) من المرتزِقة، وعبَدة الريال السعودي، والدولار الأمريكي، ويأتي ليشهد في هذا البعد فريقان من الشهود، هم شهداء المسؤولية، وهم شهداء الجبهات، وشهداء المظلومية.
شهداء المظلومية – كما يذكر السيد القائد سلام الله عليه – هم أولئك المستضعفون الذين قضَوا شهداء ظلما وبغيا، ومنهم أولئك العجَزة، الطاعنون في السن، والنساء، والأطفال، الذين قتلهم العدوان وهم آمنون في بيوتهم، ومزارعهم، ومساجدهم، ومدارسهم، ومشافيهم، وطرقاتهم، هؤلاء سيشهدون على أن هذا عدوانٌ ظالمٌ باغ، وأنه لم يَدَّخر وسعا في استهداف المدنيين، والمساكين، والأبرياء، والمسالمين.
وما أسوأ الموقف الذي يقف فيه هذا الطابور الطويل، الذي يبدأ من (ترامب) مرورا بكبار الطغاة والمجرمين إلى رؤساء الأنظمة، والأحزاب، والجماعات، وشيوخ الدين الضالين، وأهل اللحى المزيفين، فيوضعون في قفصِ اتهامٍ واحدٍ، ويأتي الآلاف من أطفال اليمن، وهم بثيابهم الملطَّخة بالدماء البريئة، ليقولوا: يا رب سل هؤلاء لم قتلونا بينما كنا نغص في نومٍ عميق، آمنين، مطمئنين؟!.
أما شهداء المسؤولية فإنهم يشهدون على قوة الحق، وبطلان الباطل، وعلى إجرام المجرمين، وعدالة القضية، وأحقية الموقف، وواحدية المعركة، ودوامها، ويشهدون لمن خلفهم أنهم ماضون في الطريق الحق، وهم حاضرون في مقام الإكرام والتعظيم عند الله عز وجل.. إلخ.
وعلى هذا يظهر أن شهيد المظلومية أقلُّ شهادة، وبالتالي أقل فضلا وأجرا ومنزلة من شهيد المسؤولية؛ لأنه لا يَشْهَدُ إلا في هذا البُعد، بُعْدِ الظلم والبغي الذي وقع عليه من قبل تحالف المجرمين في هذا العالم.
لكنَّ شهيدَ المسؤولية سيجد نفسه شاهدا على جميع أبعاد القضية، على موقفه الحق، وعلى عدالة القضية، وواحديتها في اليمن وفلسطين، وفي حسين مران، وحسين كربلاء.
ويشهدون على بطلان اعتقاد وشعور بقية أبناء الشعب اليمني والأمة العربية والإسلامية بعدم إمكانية مواجهة القوى العظمى.
ويشهدون على سقوط معاذير كل القاعدين وأصحاب التبريرات وأدعياء الحياد، وأنه لا عُذْرَ لأي أحد ممن لديه القدرة على حمل السلاح والقتال والجهاد في سبيل الله لهم أولاد ولهم أموال ولهم بيوت وزوجات وبنات ومشاغل وفقر وأنهم بشر.
ويشهدون على النصر الاستراتيجي القادم؛ كونهم مضوا على خط الإيمان الحقيقي، وقد قال الله تعالى: (وكان حقا علنيا نصر المؤمنين).
ويشهدون على أن المستقبل لمن يتحرَّك ويُضحِّي ويُواجِه قوى الطاغوت والاستكبار حتى تجري عليهم سنة الاستبدال الإلهي في قوله تعالى (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)، (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).
سيشهد الغني من الشهداء الذي ترك ماله لله وانطلق معه شهيدا، أن الغنى ليس عذرا للأغنياء منا في ترك الجهاد، ويشهد الفقير أن الفقر كذلك ليس عذرا كافيا لترك الجهاد، ويشهد الكبير على نوعه، وأهل عمره، كما يشهد الشاب على أهل سنة، ويشهد الجميع على الجميع.
وبهذا يتبين:
-أن دماء الشهداء هي أمطارٌ غزيرة البركة، وغيوثٌ عظيمة الآثار، يُحْيِي اللهُ بها مُوَاتَ الأمة، ويخلُق منها أمما على أيديهم يَهْزِم الله الباطل، ويكسر جبروته، ويقيم دولة الحق، وإنصاف المظلومين.
-وأنه إذا كان شهداء المظلومية سيشهدون على فظاعة ظلم الظالمين، وعلى شدة مظلوميتهم، فإن شهداء المسؤولية سيشهدون على كلِّ ما يتعلق بهم، وفي مختلف الأبعاد، وفي شتى المجالات، يشهدون على قوة موقفهم، وبطلان موقف المعتدين، وعلى حضور قضيتهم، وحياتها، واستمرارها، ويشهدون لمن خلفهم بصحة طريقتهم، وكل يشهد على فئته، المبادر منهم يشهدون له بالنجاة، والمقصر، بأن لا عذر لأي واحد منهم يتنصل عن طريقهم، إلى غير ذلك من المِيزات والتفضيلات التي يَحْصُلون عليها.
… وللموضوع بقية