من الامبراطورية الأمريكية إلى الخلافة الأمريكية .. بقلم/ إيهاب شوقي
تبدو تغيراتُ التوازنات الدولية واضحة لكثير من مناطق العالم، ولكن وكالعادة يأتي الفهمُ العربي متأخراً، وهذا الفهم المتأخرُ ليس لغباء أَو قصور في العقل، وانما لسلاسة في الانقياد لأنْظمة تخلط بين شرعية حكمها وشرعيات أُخْــرَى مقدسة كامنة في جينات العرب عبر تراكمات التأريخ الطويلة.
فهناك حكوماتٌ تحكُمُ باسم الدين وتوظف فقهاء السلاطين لإسباغ شرعية إلهية على حكمها بدعوى عدم الخروج على الحاكم المتغلب بالسيف، وهي معظم الدول الرجعية التي عانى العرب والمسلمون من تسلطها وتحالفها مع العدو وعانوا من سيوف التكفير التي اجتزت رقابَ المخالفين، وهي الدول التي كانت مرجعية انبثقت منها الحركات التكفيرية بمختلف اسمائها ولافتاتها.
وهناك دولٌ تستفيدُ من ميراث التحرّر الوطني وذكرياته الناصعة في مقاومة الهيمنة، فتعتمد على مؤسّساته الوطنية وما لها من تقديس في وجدان الشعوب، للانقلاب على ميراث التحرّر، تماماً كما حدث في السبعينيات بمصر، عندما اعتمد الرئيس المصري الراحل أنور السادات على الانتصارات الميدانية في حرب أكتوبر لقلب المسيرة المقاومة رأساً على عقب وتنفيذ ثورة مضادة على ثورة التحرّر الوطني المصرية المجيدة.
وبين مواريث الدين والتحرّر ومكانتها في وجدان العرب، تسلطت أنْظمة بعضها انهزامي والبعض عميل، وقادت التحالفات وصاغت السياسات، ولا تزال الشعوب مكتفية بموقع المشاهد لفيلم درامي طويل، كلما ضجت أَو ملت علا صوتها للاحتجاج، وسَرعانَ ما يسكتها القائمون على الحراسة والأمن بدار السينما التي تحوّلت لسجن كبير.
وما يجعل الشعوبُ تضُجُّ وتمل أَنَّهَا ترى فواصل داخل هذا الفيلم تحمل مشاهد مغايرة، فترى دولا وحركات تستخدم الدين بطرق أُخْــرَى تقدمية ومقاومة، وترى دولاً تحترمُ التحرّرَ الوطني ولا تفرّط في ثوابته، وترى نتائجَ مغايرة للفزاعات المفروضة عليها بالفيلم الإجباري المراد لها رؤيته والتوحد معه والاستسلام له.
الولاياتُ المتحدة بشكل عام كغيرها من الدول الامبراطورية، في مرحلةِ تراجُع، ولم تصل إلى هذه المرحلة الامبراطورية إلّا بسقوط أقطاب موازية مما سمح لها بالتمدد، ولم تستطع أمريكا الحفاظَ على وضعها شبه الامبراطوري طويلاً، فسَرعانَ ما لملمت الأقطاب الأُخْــرَى أوراق قوتها، واستعادت عبر تحالفات وتنسيقات مع قوى صاعدة، مواقع جيواستراتيجية هامة، أجبرت أمريكا على التراجع؛ لتعود لاستراتيجيات سابقة، على رأسها سباق التسلح وحافة الهاوية والاحتواء، وغيرها من استراتيجيات الحرب الباردة.
لكن تعامل الأنْظمة العربية مع أمريكا يظل ثابتاً ومتوقفاً عند المرحلة الامبراطورية.
يعيشُ الخليج برمته تحت ظلال اتّفاق كوينسي الشهير، الذي بموجبه تقوم أمريكا بحماية العرش السعوديّ مقابل حماية مصالحها النفطية، والذي تطور مع الوقت ليشمل دول الخليج بشكل عام، وكذلك مصالح الطاقة وليس النفط فقط بشكل عام ايضا.
ومصر سلمت 99% من أوراق اللعبة لأمريكا، وِفْقاً لنظرية السادات، وما نتج عن ذلك بعد قطيعة ظاهرية في السبعينيات، هو تحالفٌ لاحقٌ يحترم المناخ الامبراطوري الأمريكي ويطرد النفوذ السوفياتي، إلى أن انهار الاتّحاد السوفياتي، وأصبحت أمريكا في أفضل حالاتها الامبراطورية وفي أفضل وضع تسيطر به على المنطقة وسط تحالف مصري خليجي يحترم الوجه الامبراطوري الأمريكي.
ربما يمكن تفهم ـ وعدم قبول ـ رؤية السادات لصعود أمريكي منتظر بعد الاطّلاع بحكم العلاقات مع كيسنجر وكمال أدهم وغيرهما على تدشين وصعود البترودولار، مما ولد يقيناً ساداتياً بانفراد مرتقب لأمريكا، مع تنامي الإرهاق السوفياتي بفعل سباق التسلح وبفعل التفاوت في طريقة السوفيات والأمريكان في التعاطي مع الحلفاء، والذي جعل السوفيات يغدقون على حلفائهم المساعدات بجميع أنواعها دون مقابل فوري وأحياناً دون مقابل، فيما كانت أمريكا تقبض أموالها ونظائر مساعداتها عينياً أَو مادياً.
ولكن ومع تنامي المقاومة واستعادة الروس قوتهم وتحالفاتهم مع الصين والمقاومة في مواقعَ استراتيجية هامة ومفصلية، ومع بروز التراجع العلني الأمريكي، ما هي إذاً الحُجة أَو النظرية التي تجعل هذه الأنْظمة تتعامل مع امبراطورية متراجعة، وبذات النمط الامبراطوري؟!!!
ربما الإجابة هنا تخضع لنمط آخر، ليس هو القوة فقط، وإنّما العقيدة المعنوية.
فالسياسةُ تقول إن هناك نمطَين من الامبراطورية: الأول أقاليمي، يعتمدُ على الوجود المسلح والحكم المباشر.
والثاني: الهيمنة، عبر النفوذ والحكم غير المباشر والاعتماد على ظِلال القوة وإمكانية التدخل في أي وقت.
وهذان النمطان لم تعد أمريكا تتبعُ لهما، فقد تراجعت قواتها خارج أراضيها، ولم تتدخل بالقوة في محطات كثيرة اختبرت فيها.
ولكن هناك نمط آخر، هو الخلافة، وهو ربما يكون مفهوماً إسْلَاميا ولكن يمكن إسقاطه على الحالة الراهنة.
فالخلافة نمط من الامبراطورية ولكن من غير النوعين المعروفين، فهو ربما يعتمد على الوجود العسكري حيناً، وعلى النفوذ حيناً، ولكن الأَسَاس به هو العقيدة، فهناك حركات وقطاعات تعلن ولاءها للخلافة إيْمَانا منها بشرعية الخلافة وولاء منها لشخص الخليفة، حتى دون تدخل أَو طلب في بعض الاحيان.
وقد رأينا مثالاً لبعض الجماعات التكفيرية مثل ما تدعى “ولاية سيناء”، تعلن ولاءَها للخليفة “أبو بكر البغدادي”، وتعلن أَنَّهَا ولاية من خلافة “داعش”.
هذا الفارقُ المعنويُّ بين الامبراطورية والخلافة، ربما هو ما يسيطر على عقلية الأنْظمة العربية التي لا تزال تعيش في وهم الامبراطورية الأمريكية وتعلن ولاءَها لها وتتصرف وكأنها ولايات ضمن امبراطورية الولايات الأمريكية!
نظرةٌ بسيطةٌ على النصائح التي قدمتها العقول الاستراتيجية الأمريكية لوزير الخارجية الذاهب للمنطقة، تشي بنظرة أمريكا للمنطقة وانظمتها الحليفة، وسنذكر هنا عناوين النصائح الاستراتيجية فقط وِفْقاً لما جاء بمعهد واشنطن، والتي قدمها كُلّ من آنا بورشفسكايا، سونر چاغاپتاي، سايمون هندرسون، مارتن كريمر، ماثيو ليفيت، ديفيد بولوك، دينيس روس، دانا سترول، وبلال وهاب، وجاءت عناوين النصائح دون الدخول في تفاصيل كما يلي:
ـ الولايات المتحدة قلقةٌ بشأن روسيا. عليكم أن تكونوا قلقين أيضاً.
ـ قد لا نكون معجبين بأردوغان، لكن تركيا ليست روسيا، بل هي شريكٌ رئيسي.
ـ في مجال الطاقة، تحية إلى السيسي، فهو على الطريق الصحيح.
ـ مساندة حلفاء الولايات المتحدة هي جزء أَسَاسي من “أمريكا أولاً”.
ـ الإرهابيون في ورطة – الولايات المتحدة لن تغادر [المنطقة] إلى أن يتم إنجاز المهمة.
ـ شكراً لمصر على اضطلاعها بدور قيادي لإحلال السلام، وهو أبسط حقوق الإنْسَـان.
ـ لا تعبثوا مع الولايات المتحدة!.
ـ في زمن القادة الأقوياء، للشعوب أهميّة أيضاً.
ـ ما زالت المسألة تتعلق بالاقتصاد.
وكل عنوان من هذه العناوين بحاجة لمقال تحليلي، ولكنها بمجملها يمكن الخروج منها باستنتاج مفاده، أن التعامل الأمريكي يتخذ نزعة التعامل الفوقي الذي يوجه ويرشد ويمدح ويحذر دون حاجة لضغط وتدخل، ربما إيْمَاناً منه بولاء كامل وانصياع لا خوف من انحرافه أَو خروجه عن السيطرة!
هل من تفسير لهذا الانصياع والانقياد سوى أن هناك إيْمَاناً وقناعة تصل لدرجة العقيدة بأن أمريكا بيدها الأمر شاءت التوازنات الجديدة أم أبت، وأثبتت الأَحْـدَاث بُطلانَ ذلك أم لم تثبت؟
إنها عقيدة تشبه الإيْمَان بالخلافة والتطوع لإعلان الولاء لها، وبهذا تنتقل أمريكا في المنطقة، من زمن “الامبراطورية”، إلى زمن “الخلافة”!
* العهد الإخباري