المؤمن حقّاً مَن يجد ضالته في طيّات القُــرْآن الكريم وينطلق من مضامينه ودلالاته العميقة
المسيرة| خاص:
إن انفصالَ الإنْسَان في وجدانه وواقعه عن الهدي الإلهي، وعن المنهج الربّاني، يجعله عرضةً للكثير من المزالق، ويعيش تلك الحياة الضنكى، وإنْ بدا وكأنه يتنعم في شآبيب عيشها.. وخير نموذج لتلك الحياة الضنكى هو حياة المجتمع الغربي، تلك الحياة المزدحمة بصَخَب الماديات الخاوية من أي قيمة أَوْ هدف لهذه الحياة، والتي ترتفع فيها نسبة الجريمة بشكل جنوني، وتعيش حالة من التفكك الأسري والاجتماعي المتفكك أصلاً..!.
أما المجتمع الإسْلَامي – وإن ندرَتْ شواهدُه – ذلك الذي يجد ضالته في طيّات القُــرْآن الكريم، وينطلق من مضامينه ودلالاته العميقة، ويجعل منه منهج حياة، ويعيش القُــرْآنَ – كُلَّ القُــرْآن – في وجدانه وواقعه العملي، فإنه بذلك يكون وطيد الصلة بحبل الله، ويكون بعيدًا كلّ البعد عن التخبط في منزلقات الحياة..
أكثر الناس ينظر إلى ما بين يديه من النعم بأنها نتاج حنكته وشطارته:
من النماذج التي تعيش واقعًا منفصلاً عن الله، والتي وإنْ كانت تنتمي وتلتزم بالإسْلَام شكلاً، لكنها خاوية المضامين، ومتخلخلة الروحيات، أولئك الذين ينظرون إلى ما بين أيديهم من نعم، وكأنها نتاج جُهدهم الذاتي، وهذه الروحية من أخطر الحالات على نفسية الإنْسَان، ولها عواقب وخيمة جداً، ما لم يتم تلافيها..
وقد عرض القُــرْآنُ الكريم بعض النماذج للذين ينظرون لنعم الله باعتبارها نتاج شطارتهم، وأبرز هذه النماذج الخطيرة هو [قارون] الذي كان من قوم نبي الله موسى (عليه السلام) والذي أعطاه الله من الخير والنعم ما إن مفاتحه تنوء به العصبةُ أولو القوة.. يعني درجة كبيرة وواسعة جدًا من الغنى والسعة، للحدّ الذي أن مجموعة من الرجال الأقوياء لا يحتملون حمل مفاتيح مخازن أموال وكنوز [قارون]..!! ورغم ذلك كان هذا الأحمق يعتبر أن ما لديه من سعة، قد حصل عليه نتيجة لجهده، وشطارته، وخبرته في هذه الحياة..!! وهي حالة تتكرر بين أوساط الكثيرين، حتى أولئك الذين يتلون القُــرْآن ليل نهار، ويمرون على هذه الآية من [سورة القصص] ولا يتأملون في دلالتها، وخطورة الغفلة عنها..
وقد وصف الله هذه النعم وهذه النفسية توصيفًا دقيقًا وعجيبًا، حين قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}.. ولكن حماقة قارون وكفرانه بنعم الله، واعتباره أن ما لديه هو نتاج مجهوده الذاتي، جعله عرضةً للسخط الإلهي في الدنيا قبل الآخرة.. ومما قاله السيد حسين بدر الدين الحوثي (-رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-):
((هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكَّر بأسلوب آخر أولئك الذين يرون أن كُلّ ما في أيديهم، ينظرون إليه كنظرة قارون عندما قال:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}(القصص: من الآية 78) عندما قال له بعض قومه:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} (القصص: من الآية77) كان جوابه: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أنا ذكي وشاطر، وعندي خبرة في البيع والشراء، وعندي خبرة في الزراعة، وعندي خبرة في كذا، فهذا هو نتاج شطارتي، ونتاج حنكتي وذكائي. هكذا ينظر الناس ـ أَوْ ربما أكثر الناس ـ ينظرون إلى ما بين أيديهم.
ففي [سورة الواقعة] بأسلوب آخر يقول لأولئك الذين ينظرون هذه النظرة إلى ما بين أيديهم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} (الواقعة:63) هذه الأموال التي تحرثونها، هذه الأموال التي تجنون منها مختلف الثمار، فتحصلون من ورائها على أموال كثيرة، هذه الأرض التي تحرثونها، وهذا الزرع الذي ينبت بعد حرثكم {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (الواقعة:64) ما هذا سؤال؟ نقول لك: تذكر النعم العظيمة عليك، تذكر، إذا أنت لم تتذكر فسنذكرك نحن، فيأتي على هذا النحو من الاستفهام {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} كيف سيكون جواب كُلّ واحد منا؟ الله هو الزارع..)).
إلى آخر كلام السيد (-رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-) في إطلاق مساحة واسعة من الأسئلة التي عرضها القُــرْآن على الإنْسَان.. ومما قاله في ذلك: ((لاحظ مساحة الأسئلة كثيرة داخل هذه الآية:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} داخلها أسئلة كثيرة جداً، بدءاً من الأرض وانتهاء بالثمرة التي تجنيها، داخلها أسئلة كثيرة)).
الموقفُ الصحيحُ تجاه ما أعطانا الله من نِعَمٍ:
إذاً ما هو المطلوبُ من الإنْسَان تجاه هذا الكون المليء بالنعم، وما هو المطلوب تجاه تلك النعم التي حباها اللهُ للإنْسَان، سواء منها النعم المرتبطة بجسم الإنْسَان، كالبصر والسمع، والأطراف، وغيرها، أَوْ تلك النعم المادية الواسعة والمتعددة..
لا بدّ للإنْسَان تجاه هذه النعم أن يستشعر ويؤمن في قرارة نفسه أنها من الله وحده، وأن يعيش حالةً من الانكسار والتعظيم لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتكون حالة الإقرار والشكر والتعظيم حالة دائمة وملازمة بما ينعكس على واقعه تعظيمًا لله، وشكراً عمليًا، واستجابة لله في كافة ميادين دينه.. ومما قاله الشهيدُ القائد في ذلك:
((فما هو الموقف الصحيح بالنسبة لي منه تعالى أمام ما أعطاني، ما هو الموقف الصحيح؟ هل أرضى لنفسي أن أكون ممن قال الله عنهم:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(إبراهيم: من الآية34)؟.
أخرج من طرف السوق بعد ما بعت من [قاتي]، أَوْ [بنِّي]، أَوْ أي محصول زراعي بكمية كبيرة من المال، أخرج من طرف [الجِربة] وأنا محمَّل بما جنيته من تلك الأشجار التي زرعها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنا مدبر عن الله، ظلوم كفار، هل هذه من الناحية الإنْسَانية تليق بالإنْسَان؟ هل يليق بك أن تولي بوجهك عن الله, وتصم آذانك عن الله، وتعرض عن الله، فتكون ظلوماً كفاراً، هل ترضى؟ هل هذا هو ما يمليه عليك ضميرك؟.
أليس هذا من الجفاء؟ أليس هذا من السوء؟ أليس هذا من الحماقة؟ أليس هذا من الكفر؟ أم أن الذي ينبغي لك بعد أن تكون قد أجبت الإجابة الصحيحة على قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} فقلت: بل أنت يا الله أنت الزارع، فانطلقت أنت لتقدِّر نعمته العظيمة عليك، وتعترف بإحسانه الكبير إليك، فيخشع قلبك، ويمتلأ قلبك حباً له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتشعر كم أنت مدين له بإحسانه العظيم إليك، فتكون نفسك منكسرة أمامه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، منشدة نحوه انشداداً عاطفياً، وانشداد من يشعر بعظم وقع الإحسان عليه؟)).