بعد 40 عاماً.. ما أسباب قُــوَّة الثورة الإسْلَامية في إيران وأسرارها؟ بقلم العميد د/ أمين محمد حطيط
أن تصمد الثورة الإسْلَامية في إيران 40 عاماً، ثم تحتل مركزاً يشكل علامة فارقة في المشهد الدولي والإقليمي، ثم تنجح في إرساء مسار سلوك دولي يختلف عما سبقه من سلوكيات.. كُلّ هذا يسجل لهذه الثورة بإعجاب ويقود أحياناً إلى الذهول ويدفع للبحث عن سر القُــوَّة التي تتمتع بها هذه الثورة حتى تحقّق ما ذكر، خَاصَّـة أن كُلّ ما سبقها من محاولات تحرّر أَو نزعات تفلت من القيود الأجنبية فشل في الاستمرار في المواجهة واضطر في نهاية المطاف للتسليم بالواقع الدولي الذي يرفض الخروج عن نظام عالمي يقوده المنتصرون في الحرب العالمية الثانية. وكادت أميركا تتفرد بقيادته بعد أربعة عقود على انتهاء تلك الحرب.
لقد أكّـدت الثورة الإسْلَامية في إيران انها تقوم على مبادئ أساسية من أجل الشعب والامة، وبالتالي لم تكن مُـجَـرّد حركة لتغيير حاكم بحاكم ولم تكن انقلاباً عسكريّاً تحرّكه دولة أجنبية بل كانت فعل تحرّر من الاستعمار والتبعية وإرادة بناء الذات الوطنية والدينية المستقلّة المتمسّكة بمبدأ السيادة الشعبيّة في ظل الاعتقاد الديني الإسْلَامي. ولهذا سارت الثورة ومنذ البدء على مبادئ تؤكّـد الحق الشعبي في القرار وتتمسّك بالاعتقاد الديني الذي ترى فيه واحداً من مصادر القُــوَّة اللازمة لها في مواجهة مَن يرفض استقلالها.
لم يكن درب الثورة الإسْلَامية في إيران ـ بعد نجاح الثورة – مفروشاً بالورد، إذ إنها وما إن تحقّق أرباب النظام العالمي من نية حقيقية لدى الثورة تلك بالاستقلال وممارسة السيادة فعلياً، حتى بدأوا بالإعداد لإسقاطها ومنع تشكل ظاهرة دولية جديدة تخرج عما خطط ورسم للعالم بعد الحرب العالمية الثانية.
وهنا لا بُدَّ من التذكير بأن معسكر المنتصرين في الحرب الأولى ثم في الحرب الثانية تقاسموا النفوذ في العالم وأرسوا نظاماً عالمياً يثبتهم في مواقع السيطرة والاستئثار بالقرار الدولي، ويمنع دخول وافدين جدد إلى نادي السيطرة الدولية، ومن أجل ذلك صاغ أعضاء النادي قواعد أسموها القانون الدولي العام و«المجتمع الدولي» بما يعطيهم حَـقّ الاستئثار بالقُــوَّة ويمنع سواهم من امتلاكها وحتى ومن الدفاع عن نفسه في مواجهة الاستعمار والتبعية الخارجية.
لقد عانت إيران من ظلم هذا الواقع الدولي، وجوبهت بحرب عدوانية عليها حرب صدام حسين، حرب موّلتها دول إقليمية وسلّحتها دول غربية وحصنت المعتدي وحمته في مجلس الأمن مجموعة الدول المنتصرة في الحرب الثانية. كان كُلّ ذلك من أجل إطاحة الثورة التي ثبت انها ثورة شعب يريد الحرية والسيادة والاستقلال والتمتع بثرواته دون شريك أجنبي.
ولما فشلت الحرب في تحقيق أهدافها، وصمدت إيران وثبتت الثورة، اتجه الغرب إلى القُــوَّة الناعمة وابتدع سياسة الاحتواء المركب سياسيّاً واقتصادياً ومالياً، ومرة أُخْــرَى نجحت إيران في الصمود وأخفق الغرب بالقيادة الأميركية في النيل من ثورتها، ما يعني أن فشل القُــوَّة الناعمة مضاف إلى فشل القُــوَّة الصلبة في إسقاط الثورة.
لقد أدركت إيران منذ البدء مدى الأخطار التي تواجهها وأيقنت بشكل تتابعي تراكمي أن الغرب لن يتركها وشأنها حتى تستسلم له وتعمل بإملاءاته وتتخلى عن أهداف الثورة وتتنازل عن حقوق الشعب. وهنا كان القرار الاستراتيجي الكبير الذي اتخذته القيادة الإيرانية بدعم وتأييد شعبي، قرار «بناء الدولة القوية القادرة على حماية نفسها والدفاع عن شعبها وثرواتها». وأعتقد أن هذا القرار قرار بناء القُــوَّة الدفاعية الذاتية يعادل في أهميته إن لم يتقدم على قرار الانطلاق بالثورة ذاتها. واللافت في قرار حشد القُــوَّة هذا أنه كان قراراً نوعياً عميقاً ذا أبعاد علمية واستراتيجية متعددة لذلك اتجه إلى حشد مصادر القُــوَّة من اتّجاهات متعددة وأرساها على:
أولاً: القُــوَّة السياسيّة: عادة تتجه الانقلابات العسكريّة أَو الثورات إلى اعتماد منطق «شرعية القُــوَّة» والاتّجاه إلى إقامة الديكتاتوريات أَو الأنظمة الاستبدادية، حَيْـثُ تتجمع السلطة في يد واحدة تحت تسميات مختلفة لا يكون للشعب فيها دور أَو تأثير. اما إيران فقد اعتمدت النظام الجمهوري منذ البدء وطبقته نصاً وروحاً وبنت الدولة العميقة القائمة على المؤسّسات بقيادة رشيدة توجّه ولا تملك سلطات تنفيذية. وكان اختيار المسؤولين في السلطة على مختلف مستوياتها يتم دائماً بالانتخاب الشعبي المباشر أَو غير المباشر. ما جعل النظام السياسيّ مستجيباً لقاعدة «الشعب يحكم نفسه». وهذا منتهى القُــوَّة للنظام السياسيّ.
ثانياً- القُــوَّة العسكريّة الدفاعية: كانت الدولة التي تحاول أن تتحرّر من السيطرة الأجنبية تجد نفسها محكومة بواقع الارتباط بسوق السلاح والنظام الاقتصادي العالمي الذي تسيطر عليه القوى «الحاكمة عالمياً» وبالتالي تجد نفسها مكرهة على الخضوع، أما إيران فقد وعت هذه الحقيقة واتجهت لبناء القُــوَّة الدفاعية الكفؤة والقادرة على حماية الثورة وحماية الشعب وحماية الدولة وتقديم الدعم لحركات التحرّر العالمية عامة والإقليمية خَاصَّـة، وتوفير السلاح الكافي والملائم لكل ذلك عن طريقين: التصنيع العسكريّ المحلي الذاتي، والاستيراد من مصادر تسليح تتاح من دون شروط أَو قيود. وقد نجحت إيران في اعتماد هذين المصدرين إلى الحدّ الذي وصلت فيه الآن إلى تحقيق مستوى ردع فاعل يدخلها في دائرة الطمأنينة.
ثالثاً- القُــوَّة الاقتصادية: من المعروف أن الاقتصاد والمال هو عصب الحياة وأن مالك الرزق مالك العنق ومن تحكم بلقمة عيشك أخضعك لإرادته بسهولة، وقد وعت إيران كُلّ ذلك وجاءت سياسة الاحتواء والحصار والعقوبات الغربية لترفع مستوى الوعي الإيراني لهذه الحقيقة. ما جعل إيران تعتمد على نفسها بشكل أساسي وهنا نجد إيران رغم الحصار نجحت بامتلاك السيطرة على الثروات الوطنية واستعمالها لصالح الشعب الإيراني وفي خدمة الثورة التي قامت من أجله ووقف ظاهرة وضع اليد الغربية على هذه الثروة ثم القيام بثورة اقتصادية تحول الاقتصاد الإيراني من اقتصاد ريعي استهلاكي إلى اقتصاد إنتاجي استثماري، فحقّقت الاكتفاء الذاتي للدولة بنسبة عالية ندر وجودها في دول العالم الأُخْــرَى كانت ظروفها أفضل من الظروف الإيرانية.
رابعاً- القُــوَّة العلمية: ساد في القرن العشرين حتى وقبله مفهوم «تناقض الدين والعلم» أَو القول بأن الدين يمنع التطور العلمي، وفي منطقتنا ساهمت أنظمة تدّعي انها أنظمة إسْلَامية في تأكيد هذا المفهوم، حَيْـثُ وقع طلاق بين الدولة والانفتاح. أما إيران فقد فهمت الإسْلَام كما هو الإسْلَام دين للحياة والتطور والتقدم وقدّمت نموذجاً فذاً في مجال التقدم العلمي مع تمسكها العميق بالدين وضوابطه وحدوده، وخاضت بنجاح ميدان الذرة والفضاء والنانو ومختلف العلوم الحديثة. وهنا حقّقت كسبين: كسب ذاتي جعلها تستفيد من العلوم الحديثة وكسب للإسْلَام لتأكيد حقيقة أن الإسْلَام دين حضارة وحياة متطورة.
خامساً- القُــوَّة الاجتماعية: من المتواتر أن المجتمع يشكل في معظم الأحيان نقطة ضعف الدول، حَيْـثُ إن الحرب الناعمة عادة تعصف في الدول من أبواب مجتمعاتها. فإذا كان الوعي الاجتماعي ضعيفاً أَو متردياً أَو إذَا كان التماسك الاجتماعي واهناً أَو إذَا كان الحس الوطني في المجتمع مترهلاً، فإن المجتمع يكون عرضة للسقوط السهل بيد أجنبية، اما في الحالة العكسية، حَيْـثُ تكون المناعة الاجتماعية عالية فإن الحرب الناعمة تكون منخفضة الاحتمالات في النجاح. وهذا ما أكّـدته مسيرة الـ 40 عاماً من عمر الثورة الإيرانية، حَيْـثُ أثبت الشعب في إيران استعصاءه على التدخل الأجنبي لوجود مناعة لديها صنعها الإيْمَــان الديني والالتزام الوطني والحركية الفكرية وكانت أحداث سنة 2009 نموذجاً لإثبات فعالية هذه المناعة التي أسقطت كُلّ آمال الغرب في النيل من الثورة الإسْلَامية.
سادساً- القُــوَّة التحالفية الاستراتيجية: في عالم تحوّل قرية كونية كبيرة لا يمكن أن تدعي دولة مهما علا شأنها حيازة القُــوَّة المطلقة المنحصرة بقدراتها الذاتية. وفي هذا ورغم ضيق الخيارات وندرة المستعدين للتحالف الاستراتيجي مع إيران؛ بسبَـبِ الضغط الغربي تمكّنت إيران من نسج تحالفات هامة رفدت قوتها الذاتية وزودتها بشبكة أمان إقليمية ودولية ابعدت عنها صورة الجزيرة المعزولة السهلة المحاصرة والإسقاط، تحالفات تبادلية المنافع والمكاسب صاغتها مع دول كما هو الحال مع سورية، ومع كيانات غير حكومية كما هو الحال مع حزب الله وارتقت بالتحالف لتشكيل مجموعة استراتيجية هامة محور المقاومة في نظام عالمي قيد التشكل على أساس المجموعات الاستراتيجية، ما يمكن إيران رغم كُلّ أنواع الحصار والتضييق أن تحجز مع حلفائها المقعد الآمن في النظام العالمي المقبل.
* أُستاذ جامعي لبناني وباحث استراتيجي