حمايةُ «آل سلمان» إعلانٌ لوفاة الدور السعوديّ الإقليمي .. بقلم د/ وفيق إبراهيم
يواصِلُ الدورُ السعوديّ الإقليمي تراجُعَه السريع، مقدِّماً الرايةَ لتحالُف إسرائيلي ـ خليجي برعاية أميركية جعلته يبدو في مؤتمر وارسو الأخير مُجَــرّد «كومبارس»، يتساوى في الهزالة مع حجم البحرين. وتسبقه الإمارات.
أَسْبَـابُ هذا الانهيار مرتبطةٌ بالرهانات السعوديّة الخاسرة في الاستثمار بالإرْهَــاب التكفيري في ميادين سورية والعراق واليمن ومعظم البلاد العربية والعالم الإسْلَامي. وبتمويل بآلاف المليارات.
لكن استفادتَه الوحيدة تجلَّت في نجاح آل سلمان بتغيير قاعدة الوراثة الملكية التي كانت تقومُ على انتقال الملك من شقيق إلى شقيق.
وحدَه الأميرُ محمد بن سلمان ضرب هذه القاعدةَ بتأييد مباشر من الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي دعمه ليصبحَ ولياً لعهد أبيه سلمان، مقابلَ تورُّطه في حروب المنطقة وفق الخطة الأميركية وبحرفيتها مع تسديد إتاوة قدرُها 500 مليار دولار للأميركيين!
بالمقابل فإن خسائرَه كانت كارثيةً، وتظهرُ في انكفاء الدور السعوديّ من مدى إقليمي ودولي كبير إلى داخل المملكة، مع محاولة إضْفَاء صورة معاصِرة لدولة القرون الوسطى. فتبدو مجرياتُ الأَوْضَــاع على شكل وضعِ مساحيقَ ومعداتِ زينة؛ لتجميل عجوز بلغت من العمر أصعبه. والدليلُ أن السعوديّة تستحضرُ مطربين ومطربات وراقصات في حفلات فنية للمرة الأولى منذ تأسيسها في ثلاثينيات القرن الماضي، وسط استياء من عُلماء الوهّابية.
حتى وافق كبيرُهم على إحياء حفلات إنما بعد صلاة العصر وشرط أن لا تنقلَها محطاتُ التلفزة.
كيف كان الدورُ السعوديّ سابقاً؟
استفادت مملكةُ آل سعودة من ثلاثةِ عناصر قُــوَّة اقتصادية كبيرة من النفط ومكانة كبيرة في العالم الإسْلَامي لإمساكها بالحرَمين الشريفين وموسم الحج. مع التغطية الأميركية الكاملة لها. ما أَدَّى إلى حيازتها دوراً إقليمياً محورياً تقاطعُ مع سعي الغرب بكامله إلى كسبِ رضاها، هذا إلى جانب اهتمامٍ روسي وصيني وهندي.
كما تضخم دورُها بعد انهيار إقليمية مصر لتوقيعها على معاهدة صُلح مع إسرائيل في كمب دايفيد 1979 وسقوط العراق في 2003 وانهيار الاتّحاد السوفياتي.
لم يبقَ أحدٌ ينافسها في مداها الديني والعربي، فأَصْبَـحت مرجعية معتمدة، تستخدمُ كُـلَّ شيء في السياسة الإقليمية بما فيه موسم الحج ولخدمة الوصاية الأميركية.
ما الذي حدث إذَا حتى وصلت إلى هذا المستوى من التراجع؟
تورّط آل سعود بدعم المشروع الأميركي الجديد منذ 1990 وحتى تأريخه، بلعبة تفتيتية مكشوفة استعملوا فيها سلاحَ التمويل والفتنة السُّنية الشيعية والعربية ـ الفارسية. وشاركوا إلى جانب قطر والإمارات في تمويل أكبر حملة إرْهَــاب في التأريخ، بعناوينَ وهّابية تكفيرية، فاسهموا في تدمير ليبيا وتونس ومصر وسورية والعراق، وقادوا عدواناً كبيراً مستمراً على اليمن أَدَّى إلى عشرات آلاف القتلى. حتى أن الاضطرابات في الصومال ونيجيريا والسودان، مساهمون في أجزاء أَسَاسية منها.
بالنتائج، خسر المحورُ الأميركي السعوديّ حروبَه في العراق وسورية وغزة واليمن، عاجزاً عن الإمساك بليبيا وتونس وسط خلاف مع تركيا وتوتر كبير مع إيران إلى احتمال اندلاع حرب إقليمية.
لم تعد السياسةُ السعوديّة، بعدَ هذا التقهقر ناجحةً خصوصاً وأنها تواكبت مع ارتفاع إنتاج النفط الصخري الأميركي إلى مستوى أعلى من الإنتاج السعوديّ، وبدء عصر الغاز الذي تسيطر عليه روسيا وإيران وقطر والساحل السوري ومصر، فرحلت واشنطن إلى فنزويلا الأميركية التي تمتلكُ بمفردها 18 في المئة من احتياط النفط العالمي مقابل 13 في المئة للسعوديّة.
يتبينُ أن خسائرَ المراهنات السعوديّة على حروب التفتيت الأميركية بمواكبة الغزارة في إنتاج النفط في معظم بقاع الأرض وبدء عصر الغاز إنما هي أَسْبَـابٌ أَسَاسيةٌ لانكماش الدور السعوديّ، هذا إلى جانب ارتفاعِ أصوات إسْلَامية تعترضُ على التسييس السعوديّ لموسم الحج.. بما هو شعيرةٌ إلهية ليست من إبداعات آل سعود ولا يجوز دينياً استخدامُها لأغراض دعم سياسات المملكة والتفرقة المذهبية.
ويشملُ هذا الاعتراضُ المتصاعِدُ اتّجاه الدولة السعوديّة لتحويل آثار الأنبياء والأئمة مشاريع تستقطب السياحة لغايات اقتصادية صرفة.
إلى جانب هذا الانهيار السياسيّ، اغتال الفريقُ الأمني التابع مباشرة لولي العهد محمد بن سلمان وبأمر منه، الإعلامي جمال الخاشقجي في قنصلية المملكة في اسطنبول التركية.
فاستفاد من انكشاف هذه العملية ثلاثة أَطْــرَاف: الأميركيون الذين نجحوا بإلغاء آخر خصوصيات النظام السعوديّ متمكنين من تحويله دائرة أمنية أميركية تتلقّى ولا تسأل عن الأَسْبَـاب.
أمّا الطرفُ الثاني فهم الأتراك الذين وجدوا فيها فرصةً لإرغام السعوديّة على الاعتراف بقيادتهم للعالم الإسْلَامي وإلا فباستثمارها لإلحاق الهزيمة بالدور السعوديّ الإقليمي والخليجي.
لجهة الطرف الثالث فهم الأُورُوبيون والحزبُ الديموقراطي الأميركي الذين يستثمرون فيها للنيل من سياسات ترامب.
لجهة الخاسر فهو الخاشقجي الذي تحوّل نجماً عالمياً تفتقدُه «الديموقراطية» علماً أن الفقيدَ من الإخوان المسلمين الملتزمين بمفهوم «الحاكمية» المتحدرة من «الله فقط»، هذا ما جعل وزير الخارجية السعوديّة الجبير يبدو في مؤتمر وارسو الأخير مثل قِطٍّ مذعور يخفي رأسه داخل عباءته وقليل الكلام على غير مألوفة.
بالمقابل يجهدُ محمد بن سلمان في جولاته السابقة والحالية لتوزيع مساعدات أشبه بالرشى على دول آسيا الوسطى والأردن ومصر؛ لتأمين تغطية شخصية له، لإجهاض المحاولات التركية والأُورُوبية التي تنال من مكانته. فما يهمه هو التملص من الاتّهامات باغتياله الخاشقجي وحماية مشروع تنصيبه ملكاً على السعوديّة.
وبذلك يتحولُ الدورُ السعوديّ العالمي الحامي لآل سعود إلى مُجَــرّد وسيلة لحماية أمير سعوديّ اقترف عشرات آلاف الجرائم في العالم العربي إلى جانب قضية الخاشقجي.
هذا التحوُّلُ هو مثابة إعلان بانهيار الدور السعوديّ وموافقة أميركية على دفنه، مع الاكتفاء، بإدَارَة داخلية تنصاع لواشنطن كجاري العادة.
فهل لدى الأميركيين بديلٌ عن السعوديّة في قيادة العالم الإسْلَامي؟ تسعى واشنطن لإيلاء هذا الدور إلى التحالف الإسرائيلي ـ الخليجي بقيادتها.
وهذه هي الأَهْــدَاف الحقيقية لمؤتمر وارسو، فانتظروا العجائب.
* باحثٌ في الشؤون الإقليمية