الوصايا الأميركية بين مؤتمرَي وارسو وميونيخ .. بقلم/ محمد علوش
* معد ومقدم برامج سياسيّة في قناة الميادين
لم تكن الولايات المتحدة بهذا الوضوح في التعامل مع حلفائها يوماً بقدر ما تجلّى ذلك في مؤتمري وارسو وميونيخ الأخيرين. كان واضحاً نائب الرئيس الأميركي مايك بنس في نقل الأوامر والتوجيهات والتهديدات الأميركية لحلفائه قبل خصومه.
من هزيمة داعش إلى تهديد إيران إلى فرض صفقة القرن مسبوقاً بتطبيع موسّع بين العرب وإسرائيل. قضايا شائكة وشديدة الوَقْع في المؤتمرين الدوليين اللذين سيلتحق بهما عما قريب مؤتمر دبلن إتماماً أَو استئنافاً.
تُدرِك الولايات المتحدة أنها لن تستطيع الاستمرار في قيادة العالم وضبط نزاعاته بما يخدم مصالحها الخَاصَّـة إذَا ما استمرت على نفس الآليات العتيقة أَو المعهودة في إدارة الصراعات وتبايُن الإرادات، ولا سيما في علاقاتها مع حلفائها قبل خصومها ومنافسيها الدوليين.
الحمائية الاقتصادية التي يعتمدها ترامب في سياساته الخارجية هي على النقيض من العولمة التي اعتمدها سلفه من الرؤساء الأميركيين لعقودٍ خلت.
حماية شركات الإنتاج الأميركية على أنواعها وخَاصَّـة العسكريّة منها وتوفير أسواق جديدة لمُنتجاتها، وتجفيف منابع الهجرة لبلاده، وترشيد النفقات، وسحب القوات من مناطق النزاع في العالم للحدّ من النزيف المالي والعسكريّ لبلاده، أضحت سمات ومُحدّدات لطبيعة السياسة الأميركية، مصحوبة بعزم وإصرار على إشراك حلفاء واشنطن في المغرم كما في المغنم، فلا يعقل في عهد ترامب أن تقوم واشنطن بدفع الكلفة المالية الأَكْبَــر لحلف شمال الأطلسي طالما أن هناك أعضاء متموّلين كباراً في الحلف مثل ألمانيا وغيرها. الأمر عينه ينسحب على دول الخليج المدعوّة إلى مزيد من الدّفع المالي للولايات المتحدة نظير حمايتها من التهديديات الخارجية أَو المُلاحقات الدولية لبعض دولها بالإرهاب أَو الاستثمار في الأسواق الأميركية.
في العلاقة مع الاتّحاد الأوروبي، لا يقف التبايُن عند حدود كيفية التعامل مع إيران بل يمسّ طبيعة الحلف القائم بينهما. إضعاف الاتّحاد الأوروبي وتفكيك دوله عبر تشجيع بريطانيا ودول أُخْـرَى للخروج من الاتّحاد، توجّهات تهدف إلى الحيلولة من دون تحوّل الأوروبيين إلى منافس اقتصادي ضخم للولايات المتحدة في الأسواق التي يتشاركونها عالمياً. ومنعاً له من تحقيق استقلاله التام عن الوصاية الأميركية التي استقرّت خلال الحرب الباردة وما تلاها.
ربما في الملف الفنزويلي يكاد يكون الانصياع الأوروبي واضحاً للرغبة الأميركية. ولعلّ المخزون النفطي الهائل في تلك البلاد قد يكون السبب وراء الموقف الأوروبي المُساند لنظيره الأميركي بالاعتراف بزعيم المعارضة خوان غويدو باعتباره “الرئيس الشرعي الوحيد”. فنزويلا القابعة على محيط من الثروات وفي رأسها النفط والغاز، يسيل لعاب الولايات المتحدة لها غالباً. وقد تُحرِّر ثرواتها الغازية الأوروبيين من تبعات الحاجة إلى الغاز الروسي.
في مُقاربة أزمات الشرق الأوسط الأمر مختلف. ترامب يدفع عبر التشديد على إيران لإبرام اتّفاق جديد يوسّع من المصالح الأميركية على حساب الحقوق الإيرانية، إلا أن الأوروبيين يرون أن مزيداً من الضغط على إيران واستبدال الاتّفاق الحالي باتّفاقٍ آخر قد يُشعل المنطقة ويحمل إيران على تبنّي سياسات عدائية مع المصالح الأوروبية في المنطقة. ولهذا شدّد وزير الخارجية الألماني هايكو ماس في مداخلته في مؤتمر ميونيخ أنه من دون تطبيق كامل للاتّفاق الموقّع مع إيران، “لن تكون المنطقة في أمان وسنكون في الواقع أقرب إلى احتمال اندلاع مواجهة مفتوحة”.
الضغط الذي يمارسه ترامب على حلفائه الأوروبيين لا يرتبط بالموقف من إيران وحسب، بل يريد إعادة رسْم سياساتهم الخارجية إزاء كُــلّ مُهدّد أَو مُنافس للمصالح الأميركية في العالم من دون إعارة اهتمام للمصالح الأوروبية أصلاً. فمن بين تداخّلاته في أوروبا هو معارضة واشنطن لخط أنابيب الغاز “نورد ستريم2” الروسي الألماني الذي يجري بناؤه، أَو انتقاده صفقات شراء الأسلحة التي ينوي أعضاء في الأطلسي إبرامها مع “أعدائنا”، في إشارة إلى اتّفاق الروسي التركي حول صواريخ s-400.
أمّا عن إعلان ترامب بانسحاب قواته من سوريا، فقد وضع الأوروبيين في صدمة خَاصَّـة مع انتشار أَكْثَــر من 1200 جندي فرنسي في سوريا. فرنسا تنظر للأمر أن الولايات المتحدة تُخلي المنطقة لخصمها إيران، في الوقت الذي تحرّض فيه الاتّحاد الأوروبي على إلغاء الاتّفاق النووي المُبرَم مع إيران عام 2015 واتخاذ سياسات عدائية ضدّها. فلا يفهم الأوروبيون الذين غابوا عن مؤتمر وارسو كيف يوائم ترامب بين سياسة الانسحاب المُفاجئ من سوريا من دون تنسيق معهم، في الوقت الذي نسّق فيه لمؤتمر دولي في قلب أوروبا في محاولة منه لإعادة رسْم التحالفات الدولية وتشكيل أَكْبَــر تكتل دولي لمواجهة إيران، عبر تدشين شراكة جديدة بين دول الخليج العربي وإسرائيل. فمعادلة ترامب لحلفائه الأوروبيين في سوريا كانت الآتي: “نحن راحلون، أنتم باقون”.
وإذا كانت إسرائيل ودول خليجية عربية قد قطعت شوطاً في التطبيع العسكريّ والسياسيّ ضدّ إيران وحزب الله، فكيف لهذا الحلف الجديد أن يُمرِّر مشروع صفقة القرن على الفلسطينيين، حَيْــثُ لم يحصل في تأريخ التفاهمات الدولية أن فرُض اتّفاق لحل نزاع لم تُناقش بنوده أصلاً مع أطرافه الأساسيين!
وإذا كان الرِهان الأميركي ومعه العربي أن مزيداً من الضغط على الفلسطينيين عبر التهديد والترغيب قد يحملهم على القبول بما توصّلت إليه صفقة القرن، فهذا يعني منح أيّ سياسيّ فلسطيني يقبل بهذا الاتّفاق، جواز عبور نحو الانتحار السياسيّ في المجتمع الفلسطيني الرافض تماماً وغير المُستعد لحلّ مذلٍّ يجهض أغلب حقوقه السياسيّة. فرشوة الفلسطينيين بوفرة مالية في مناطق مُعطاة لهم لا تكفي لإقناعهم بالقبول أَو السير بهذه الصفقة مهما بدا أَو حاول بعض العرب إيهام الأميركيين أنهم قادرون على إقناع الفلسطينيين بذلك.