وارسو.. أي “أمن وسلام”؟!
حياة الحويك عطية*
قد يكون مؤتمر وارسو فاشلاً في ما يتعلق بإيران، على الأقل في المدى المنظور؛ لأَنَّ مصالح الدول الغربية باتت تصبّ في شاطئ غير الأميركي، لكن الموضوعية تقتضي القول بأنه كان ناجحاً في ما يتعلّق بالتطبيع مع “إسرائيل”، وبالأحرى في إخراج منطقة الخليج العربي – علنياً ورسمياً– من الصراع. وبهذا لم يكن اختيار المندوب اليمني للجلوس إلى جانب نتنياهو عبثياً، فاليمن هي الدولة الخليجية الوحيدة التي تدرَّب على أرضها الفلسطينيون طويلاً ودعمت نضالهم شعبياً ورسمياً. وعليه حاول محرّر لوموند، أن يوحي من خلال عبارة “أمن وسلام في الشرق الأوسط” بأن استراتيجية نتنياهو قد تحقّقت ووصلت مآلها.
استهلال فاقع الدلالة بدأت به صحيفة “لوموند” الفرنسية تقريرها عن مؤتمر وارسو. بين مزدوجين وبخط مائل كتبت:
“paix et sécutité au Moyen Orient “أمن وسلام للشرق الأوسط”. هذا العنوان هو عنوان كتاب لبنيامين نتنياهو نشر عام 1994 ونقلته الكاتبة إلى العربية في حينه. وربما يكون أخطر كتاب صدر عن نتنياهو بل وعن أي مسؤول إسرائيلي. وعنوانه الأصلي “استئصال الإرْهَــاب”، غير أن المترجم الفرنسي أضاف العنوان الأول إلى عنوان النسخة الإنكليزية. فيما يترجم مضمون الكتاب من أن الأمن والسلام لا يمكن أن يتحقّقا في الشرق الأوسط إلا باستئصال الإرْهَــاب.
ما هو الإرْهَــاب؟ وما هو تعريفه؟ هذا ما يعمل عليه الكاتب الذي كان يومها مرشّحاً للانتخابات الإسرائيلية.
الإرْهَــاب برأيه هو “إرْهَــاب الدول التي ترعى الإرْهَــاب في الشرق الأوسط ” ويعدّدها بالاسم: العراق، ليبيا، السودان، اليمن، سوريا، منظمة التحرير الفلسطينية، حزب الله وإيران. وبعد فصلين يسهب فيهما في شرح كون العربي والمسلم إرْهَــابيين بحكم ثقافتهما، وإنهما لذلك يكرهان الغرب ويمثلان خطراً عليه، “هم لا يكرهون الغرب بسبب (إسرائيل)، بل يكرهوننا؛ لأَنَّنا نمثل القِيَم الغربية”.
بعد هذا الإسهاب ينتقل إلى التركيز على مطلب مهم وهو أن تشترع الولايات المتحدة الأميركية قوانين تحد من الحريات الثلاث: الرأي والتعبير والدين، وتضع الجميع تحت المراقبة (حيث يعتبر أن أوروبا متقدّمة على واشنطن في هذا السياق) للتمكّن من مكافحة الإرْهَــاب.
وفي فصل لاحق يشرح كيف أسّس الليكود في الأرض المحتلّة جمعية “جوناثان” باسم أخيه الذي قتل في عملية عينتبي (الإرْهَــابية) جاعلاً هدفها مكافحة الإرْهَــاب وذلك ما لا يراه ممكناً إلا بالقضاء على الدول التي ترعاه. يقول إنه في المؤتمر الأول الذي عقدته الجمعية رفض معظم المشاركين الغربيين فكرة كون الدول المذكورة هي المسؤولة عن الإرْهَــاب وبالتالي فكرة معاقبتها. وعلى إثر ذلك عيّن موشي أرينز سفيراً في واشنطن ونتنياهو مساعداً له، وكانت مهمتهما الأساسية إقناع الأميركيين بطرحهما. “لم نترك حملة إعلامية ولا مناسبة سياسيّة أو ثقافية إلا وخضناها لتحقيق هدفنا – يقول – وهكذا تمكّنا في المؤتمر الثاني للجمعية عام 1987 من حصد تأييد عدد كبير من المشاركين بينهم جورج شولتز وعدد آخر من المسؤولين السياسيّين والصحافيين”.
وهكذا انطلق العمل. الفصول اللاحقة من الكتاب – الخطة الاستراتيجية- يخصّصها الكتاب فصلاً فصلاً لكل دولة من الدول المذكورة، ويضع المهل الزمنية لضربها بطريقة أو بأُخْــرَى. بدءاً من العراق، وانتقالاً إلى السودان، ومن ثم ليبيا، واليمن وأخيراً سوريا وحزب الله وإيران.
أما منظمة التحرير الفلسطينية فيرى التعامل معها على أساس إسقاط أوسلو، وإسقاط حل الدولتين، وحشر المقاومة في ما أسماه “جيب غزّة” وضربها هناك مع تحييد الضفة. بعد 11 أيلول/ سبتمبر ألقى نتنياهو خطاباً طويلاً في الكونغرس الأميركي أعاد فيه إنتاج مشروعه، في إطار خطة عسكريّة إعلامية سياسيّة واضحة ودقيقة، وضمّن هذا الخطاب في الطبعة الجديدة للكتاب المذكور، بالإنكليزية (عادت الكاتبة وترجمت الخطاب ونشرته في صحيفة الدستور الأردنية بعد أن حصلت عليه من مكتبة جامعة سيراكوس في نيويورك). المهم أن نظرة إلى الأحداث المتعاقبة منذ 1994 وحتى الآن، تظهر وللأسف المر، أن هذه الخطة الإسرائيلية قد نجحت في جميع مراحلها باستثناء الأخيرة (سوريا، حزب الله وإيران). والملفت أنه كان قد حدّد مهلة لهؤلاء مع نهاية القرن العشرين. غير أن المفاجأة الكبرى أن هذا التأريخ جاء بالانسحاب الإسرائيلي من لبنان، ما سجّل بداية سقوط الخطة النتنياهية. من هنا أدرك المحور الصهيوني – الأميركي أن رهانه يكمن في تفكيك حلف المقاومة، وعليه بدأ الضغط على سوريا لفصلها عن المقاومة اللبنانية، عن المقاومة الفلسطينية، وعن إيران.
واعتقد المحور العدوّ أن نجاحه في اغتيال الرئيس رفيق الحريري وإخراج سوريا من لبنان سيؤدّي إلى استعادة الكرة خَاصَّـة بعد نجاحها في العراق. لكن هزيمة 2006 جاءت لتسجّل محطّة مصيرية جديدة في خط الفشل الصهيوني.
وإذ جاء الدور السوري لم يتوقّع لا نتنياهو ولا الحلفاء أن تفشل الخطة، لكنها فشلت، رغم كُــلّ ما أحدثته من دمار، وأدت إلى تمتين محور المقاومة بعد أن أضيف إليه (بشكل أو بآخر العراق). وفي هذا الوقت كانت إيران قد نجحت في عقد الاتّفاق النووي. إذن كان لابد من الانتقال إلى العمل على خطين جديدين متقاطعين: الأول هو العودة إلى الضغط على إيران (آخر مرحلة في خطة نتنياهو)، مع استمرار ما يمكن من الضغط على سوريا وحصارها، والثاني هو الانتقال إلى تسجيل نجاح في مكان آخر بوضع دول الخليج في خط النار الحاد في هذه المواجهة. وضع يعزّزه رعب تعيشه هذه الدول، رعب من تخلّي الأميركي عنها، في ظل شروخ سنيّة شيعية وشروخ وهّابية إخوانية، وشروخ قبلية مشيخية، وعقدة عميل إزاء مقاوم.
رعب من إيران، ورعب من تهديد يشكله بعضها للبعض الآخر، بعض يمثل الأصولية الوهّابية والليبرالية الإماراتية، وبعض يمثل الإخوانية القطرية الدولية ويرتبط بتركيا وربما بعض ثالث بات يخشى من تحريك لمذهبية سنّية ضد الأباضية. ورعب مما تمثله هذه التناقضات في داخل كُــلّ دولة على حدة. مركب رعب يشكّل محرّكاً بخارياً يدفع هؤلاء جميعاً إلى حضن (إسرائيل). فكيف لا يعمل اللوبي الصهيوني والاستراتيجيون الأميركيون السائرون في ركبه على التقاط اللحظة التي بنوها؟.
وإذا كانت المعادلات الدولية قد تغيّرت بحيث تعيق اتخاذ موقف قوي ضد إيران، كما يريد هذا اللوبي، فإن المكسب الآخر الذي يمكن تحقيقه من دون اعتراض أحد في الغرب (وربما قلة في الشرق) هو تطبيق مبدأ التطبيع قبل التوقيع الذي طالما نادت به (إسرائيل) في علاقاتها مع العرب، وفي حينه رفضته سوريا بشكل قاطع. مع ما يؤدّي إليه من فوائد اقتصادية للعدوّ.
من هنا قد يكون مؤتمر وارسو فاشلاً في ما يتعلق بإيران، على الأقل في المدى المنظور؛ لأَنَّ مصالح الدول الغربية باتت تصبّ في شاطئ غير الأميركي، لكن الموضوعية تقتضي القول بأنه كان ناجحاً في ما يتعلّق بالتطبيع مع (إسرائيل)، وبالأحرى في إخراج منطقة الخليج العربي – علنياً ورسمياً– من الصراع. وبهذا لم يكن اختيار المندوب اليمني للجلوس إلى جانب نتنياهو عبثياً، فاليمن هي الدولة الخليجية الوحيدة التي تدرَّب على أرضها الفلسطينيون طويلاً ودعمت نضالهم شعبياً ورسمياً. وعليه حاول محرّر لوموند، أن يوحيَ من خلال عبارة “أمن وسلام في الشرق الأوسط” بأن استراتيجية نتنياهو قد تحقّقت ووصلت مآلها.
لكن العودة إلى مضمون هذه الاستراتيجية يقول العكس، ولنعد إلى الدول التي عددها، لنجد أن مواقع الفشل تتعدّى مواقع النجاحات. في حين أن الدول الخليجية لم تكن يوماً في عداد الاستهدافات، ولا في معيار النجاحات. اللّهم إلا ثرواتها.
* نقلاً عن الميادين