الخنادق والفنادق.. ماذا بعد اتّفاق السويد؟ وهل تصون الأقلام ما كسبته البنادق؟
علي نعمان المقطري
في جميع الحروب لا يطمحُ القائدُ المحنَّكُ إلى الحصول على الطاولات بأكثرَ مما تطولُه قُــوَّاتُه في الساحات، أما القائدُ المغفلُ قليلُ العقل فيتصور أنه يمكنه بالمناورات تعويضُ ما خسره على الأرض وَما عجز عن أخذه في الميادين..
وعندما تكون هناك قُــوَّة تسودُ في الميدان وتتقدم وتسيطر وتتغلب على خصومها فما الذي يجبرُها على وقف المعركة ما دامت تبلي فيها بلاءً حسناً ولماذا تطلب الهدنة وقد أوشكت على سحق الخصم وإخضاعه وقد أضحى النصرُ على بُعد خطوات وأمتار من يديها؟
فلم يشهد تأريخ الحروب في العالم كله قُــوَّةً كانت قادرة على غلبه عدوها وقت الحرب والمعركة وتوقفت عن مواصلة التقدم عندما تذكرت صلاتِ القُربى والنسب والعمومة وهاجت نفسُها الرقيقة بالعواطف والرحمة والعفو، وهو ما اشتهرت به العرب ولكنه العفو بعد الغلبة بعد هزيمة الخصم وسحقه، ثم الالتفات إلى العفو عن الأحياء المغلوبين بعد أن يذوقوا الذل والانكسار وهذه لفتات نادرة في تأريخ العرب الحربي.
فإذا العدوّ كان قادراً على سحق قُــوَّاتنا على أبواب الحديدة والساحل فلماذا توقف وقيّد أياديه وأسلحته وطيرانه وأساطيله وأعلن الهدنة؟، العدوان لم يتوقف إلى الآن عن مواصلة إطلاق النار والصواريخ التي جاوزت مليوني صاروخ وأكثر وَباعترافات إعلامه وقادته.
فالحربُ هي الحرب وبعد أن تشتعل فلا تخضع إلّا لقانون الحرب والقُــوَّة والغلبة وتلبس السياسة البزات المموّهة والكاكي وتتعطر برائحة البارود والقائد الذي يدير المعركة هو نفسه الذي يدير المفاوضات ويحرّك المناورات خدمةً لأغراض الحرب وَالمعركة، فلا مناورات سياسية منفصلة عن أهداف الحرب والمفاوضات تخدم أهدافَ الحرب لتؤمن لها شروطاً أفضل لإضعاف الخصم وشق صفوفه وتطويق أضراره واحتواء هجماته وكلما تورط الغازي وفشل في هجماته وأشرف على الهلاك سارع العدوانُ إلى إطلاق دعوات المشاورات وفصل القُــوَّات المتشابكة لإنفاذ العدوّ.
وضعُ العدوّ عشية السويد
عشيةَ السويد مطلع نوفمبر الماضي كان العدوّ على أبواب الحديدة والساحل الغربي يعاني من الحصار الاستراتيجي والميداني منذ أشهر طويلة، فقد تورط في التوغل إلى حقول ألغام مميتة على الجبهة الواقعة بين ك 16، والمطار وشارع الخمسين و22 مايو وتعرض للتطويق من عدة جهات وبات مهدداً بالتدمير الشامل بعد أن أنهكت قُــوَّاته وقدراته واستنزفته وبات عاجزاً عن الاستمرار في التقدم أَو التراجع ويتوقع في أية لحظة هجوم الجيش اليمني المضاد الكبير في ظل عجز تام عن صده ورده، بعد أن تعرض لتقطيعات عديدة في خطوط إمدادِه البرية الرئيسية منعت عنه وصول الإمدادات إلى الخطوط الأمامية المتقدمة، وهذا هو العامل الأساسي والسبب المباشر في رفعه مصاحفَ الهُدنة في نوفمبر الماضي ومن طرف واحد أولاً.
أهدافُ الهدنة.. اتّقاءُ ذي الفقار
بعد أن وجد العدوّ نفسَه في مأزق الفشل والحصار يشتد عليه كُـلّ يوم فلم يجد أمامه خياراتٍ حربية كثيرة وبعد أن أصبح السيف اليماني معلقاً فوق رقبته عاجزاً عن دفعه بالقُــوَّة فقد عمد إلى كشف سوءته كما فعل ابن العاص في صفين اتقاء للسيف ذي الفقار الذي رفع فوق عنقه يكاد يشطره إلى نصفين لكنه اتبع طريقَ المهانة والذل لإحراج الإمام علي وإقامة الحُجة عليه لينجوَ من حر الضراب.
وهي حيلة خسيسة وضيعة من الحيل التي لا يلجأ إليها أبداً من كانت لديه ذرة شعور بكرامته، والعرب كانت تقول: إن الطعن في النحور خيرٌ من الطعن في الدبور، أما أن يكشف الجبان عن عرضه وعورَتِه ليتقيَ ضرباتِ السيوف فهي واللهِ منتهى الجبن والقبح والوضاعة لكنها الحيلة الأخيرة بعد أن فقدوا الحيل.
والعدوان اليوم كان قد وصل إلى ما وصل إليه أسلافه من مزنق ومأزق فلم يجد له مخرجاً له من الخطر سوى التعلق بأهداب الهدنة والسلم المؤقت، وقد عقد العزم على أن يخرقها عند أول فرصة تسنح له لاختراقها، وهو يفعل الآن ذلك من أول يوم أعلنت الهدنة استجابةً لطلبه ولكن السيف ما زال مصلتاً فوق أعناقه مهما فعل وحاول وناور.
الجيشُ واللجانُ وقبولُ الهُدنة.. مرونة القيادة
ولكن لماذا استجاب الجيش واللجان الشعبية للهدنة ما دام قادراً على غلبة العدوّ في الميدان؟ لأنهم أبناء الشعب اليمني الذي يحب السلامَ والمشاورات لاكتشاف دروب الحلول السلمية قبل اللجوء إلى الحل الأخير المؤلم، والقيادة تريد أن تدع الشعب يجرب بذاته مواقف العدوان السلمية وأن يفضحها ببصيرته ووعيه وأنظاره حتى يكون مستعداً لدفع أكلاف الخيارات العسكرية الحاسمة القادمة عندما تكتمل فضائح العدوان أمام الشعب وأمام العالم ومؤيديه ومرتزِقته والمضللين من عبيده، ولولا هذه المرونة الاستراتيجية للقيادة الوطنية الثورية، لَمَا كسبت قلوبَ وعقول أغلبية الأُمَّـة المقهورة في الداخل والخارج وتراهن عليها عبر الصدق والحقيقة والإخلاص والصبر ومساعدتها في الاكتشاف بذاتها للحقيقة وإقامة الحُجّة على العدوّ أُسوة بسيرة النبي الأعظم ووصيه في حروبهما “المصداقية والثقة قاعدة الانتصارات العظيمة”.
الهدنة حاجة ضرورية للعدوان لإعَادَة تموضعاته
عندما تخفي الجيوش الغازية هزائمَها فإنها تلجأ إلى المناورات السياسية والمساومات والحلول الوسط والمقايضات بهدف تبرير التوقف عن النزال على خطوط الاشتباك موقتاً لان هذا النزال صار يجري محقّــقاً عكس أهدافه المتوخاة، أي أن هناك حاجة ملحة لوقف النزال الآن بعد أن اتّجهت مآلات النزال إلى المزيد من النكسات والنكبات والهزائم والخسائر التي لا تتفق مع احتمالات الهجوم وتوقعاته السابقة ولا مع القدرات المتوفرة، كان العدوّ يعتمد على مفاهيم كلاسيكية تتوقع خسائر مضاعفة للمهاجم مقابل تدمير الخصم واجتياح مواقعه وحصونه ومدنه ولكن خاب ظن العدوّ لان هذا التقدير يعتمد على فرضية وجود جيش كلاسيكي.
بالمقابل يدافع بالطريقة التقليدية للحرب، فأمام العدوان يقف شعبٌ بكامله قرّر الصمود والمقاومة حتى النهاية ويفرض قواعد الاشتباك ومعادلات الحرب الوطنية التحرّرية الثورية التي لا تستطيع قوى الغزاة مواجهتها والتكيف معها.
وعندما يواجه الغزو مأزقه المفصلي فَإنه يلجأ إلى طلب الهدنة والمفاوضات لإنقاذه من الانهيار الشامل وكسب الوقت لإعَادَة تنظيم قُــوَّاته وضمان خروج آمن لها، وهي منعطف في مسار الحرب يتضمن تراجعاً عقيدياً في صلب العقيدة العسكرية للعدوّ الذي كان يؤمن بداية بقدرته على إنزال الهزيمة الشاملة بالخصم إلى الاضطرار إلى الاعتقاد باستحالة تدمير الخصم بالسلاح والحرب العسكرية وَالقبول بالتفاوض معه لفض الاشتباك بين القُــوَّات على المحور الرئيسي والفصل بينهما لإعَادَة انتشارها مجدّداً بشكل يحقّــق الأمان لها، لان التوغلات غير المحسوبة والإغارات المباغتة للجيش واللجان قد أوقعت تقطيعات بقوى العدوّ وعرضته للحصارات الاستراتيجية وتقطيع الخطوط الطرقات ومحاور التقدم والتراجع فأضحى بحاجة للمناورة عبر الوسائط الدولية التي تستطيع ضمان تراجعه إلى مواقعَ أكثرَ أمناً تحت مظلة إعَادَة انتشار القُــوَّات وفتح منافذَ آمنة لسير المساعدات الإنْسَانية، والمقصود هو رفع شبكات الألغام المحيطة بالعدوان والقاطعة عليه خطواته للأمام وتدمير الخنادق والأنفاق السرية التي تؤمن مناورات وإغارات الجيش واللجان وتحركاته وتوفر له دفاعات متحركة مرنة.
فضُّ الاشتباك بين القُــوَّات على الجبهة الرئيسية
إن فضَّ الاشتباك المتبادل حيلةٌ تكتيكية تقومُ على افتراض حاجة الطرفين إلى الخروج من المأزق الحادث بينهما نتيجة تداخل مواضع ومواقع القُــوَّات المتواجهة التي صارت قيداً على حركة كُـلٍّ منهما.
ويلجأ المهاجم إلى طلب هدنة لفض الاشتباك بين القُــوَّات كحيلة تكتيكية والمقصود هنا هو إنقاذ القُــوَّات التي وقعت في الحصار والتطويق المتبادل خلال محاولات الاختراق وهو اعترافٌ ضمني بفشل الهجوم وهزيمته غير المباشرة.
لا يلجأ الغازي إلى طلب فض الاشتباك بين القُــوَّات إلّا مضطراً منكسراً بعد أن يخسر جميعَ الخيارات الحربية الأُخْرَى التي سبق أن جربها وفشلت ويصبح أمامه خيارٌ وحيدٌ فإما الاستمرار في المعركة والتدمير الذاتي المحتم لقُــوَّاته نتيجةً لوضعها المطوق المحاصر وإما طلب الهدنة وتقديم تنازلات سياسية لخصمه تجبرُه على قبول الهدنة المؤقتة والسماح بوصول الإمدادات وزحزحة خطوط المواجهة بعيداً عن خطوط حصار القُــوَّات الغازية.
إن طلبَ فضّ الاشتباك هو طلب بجوهره الإقرار الضمني بخسارة وهزيمة الجولة السابقة للغازي وللعدوان ولهجومه الكبير والإقرار بتحطم آماله ومعنوياته وحاجته إلى فسحة من الوقت والسلم لإعَادَة ترتيب أوراقه المهترئة ريثما يتدبر الحصول على قُــوَّات جديدة لرميها في محارق الميدان.
تحطُّمُ آمال الغزاة بتحطم وحصار القُــوَّات
بعد فشل الهجوم الكبير للغازي وحين يتورّط قسمٌ من قُــوَّاته بالالتفاف الفاشل حول قُــوَّات الخصم وتجد نفسَها مطوقةً من قبل المدافع اليقظ صاحبِ الأرض، وعندما تتعرضُ القُــوَّاتُ المهاجِمة لقطع إمداداتها فتتجمد حركتها على النقاط التي وصلت إليها وتعجز عن كسر التطويقات المحكمة حولها وعندما يعجز المدافعُ المطوقُ عن تطوير ما حقّــقه من تطويقات حول العدوّ وتحويلها إلى هزيمة ساحقة فورية عبر شنه هجوماً كبيراً كاسحاً بكل قُــوَّاته لأسباب عديدة منها سيطرة طيران العدوّ على الأرض المكشوفة التي تدور فوقها المواجهاتُ وعدم توفر القدرات المكافئة للعدوّ المحاصر بعد استهلاك احتياطاته مع الوقت وعدم قدرته لاستقدام التعزيزات عبر طرق ملتوية طويلة والتفافية ويكون العدوّ ما زال لديه بعض احتياطات مخفية وَمخزنة لم تستنفذ بعدُ وهي تمنحُه بعضَ القدرة على الاستمرار في المقاومة، لكنها لا تمكنه من الهجوم الكبير، فَإنه يكونُ مضطراً أن يناور على الوقت للكسب وإعَادَة الاستعداد للمعركة التالية.
يمكن القول إنه قد يحدُثُ توازُنٌ متكافئ مؤقتاً بين القوتين على الأرض وهو توازن سلبي بالنسبة للمهاجم الغازي الذي كان متفوقاً في قُــوَّاته قبل الهجوم ثم استنزفته الهجمات الخاسرة المتوالية التي خصمت من قُــوَّاته كمًّا ونوعًا ومعنويات الكثيرَ، فقد كان العدوّ يتفوقُ عدديًّا ومعداتٍ بنسبة وازنة ليس أقل من نسبة 3 إلى 1، فالأعداد الكبيرة من المعدات والمدرعات والآليات والعربات والأسلحة الأحدث في العالم وأعدادها الكبيرة الذي بلغت الآلاف وتم تدميرُ ما نسبته ثلث القُــوَّة الآلية والبشرية للعدوّ حوالي2000 مدرعة وآلية وعربة ودبابة ومعدة قتالية معادية وعشرين ألفاً بين قتيل وجريح وإصابة خلال الحملة الأخيرة للهجوم على محيط الحديدة التي بدأت مطلع النصف الأول من العام الماضي، وهو ما يعني تدمير فرقتَي مشاة ميكانيكيتين مدرعتين وقُــوَّات خَاصَّـة وتشكل نخبة قُــوَّات الغزاة على الساحل الغربي وأكثرها تدريباً ومراساً وقُــوَّةً.
وقد ضاعف من طاقاتها إلى أقصى وأعلى المستويات دخول القيادة الأمريكية الوسطى لقيادتها بكل ما تملكُه من احتياطات عسكرية بحرية وجوية ومارينزية وفضائية ومادية وأساطيل وبوارجَ وتقنيات، وكذَلك تدخل الفرنسيين والبريطانيين والإسرائيليين، وهي وقائعُ باعترافات أصحابها أنفسهم، جعلت تلك الغزوة وقوتها لا يمكن قهرها بكل الحسابات الكمية والنوعية المادية المتوافق عليها أكاديمياً.
وسيظلُّ العدوّ يقلِّبُ أياديَه ويلطمُ خدودَه حسرةً وندماً واندهاشاً وفجيعةً على ما كابده من ضربات وهزائمَ أمام الحُفاة اليمنيين، محاولاً أن يجد تفسيراً لما جرى يهدئ من رَوْع مرتزِقته وقادته الذي تملّكهم الرعبُ الذي يُسمَعُ من خلف تصريحاتهم المرتبكة المشبّعة بالخوف واليأس من المصير المشؤوم المنتظر إذَا استمرت المذبحةُ الارتزاقية الجنوبية الانسلاخية وليس أمام القيادات المهزومة إلّا المزيد من الكذب والإسراف في الوعود والتضليل الميتافيزيقي السحري حول ما حدث ويحدث من ظواهرَ خارقة للمألوف والمعروف، أما قيادة العدوان الأمريكية العليا فهي ممثلة ترامب وأزلامه فهي تحاول التنصُّلَ عن عجزها عن تغيير وكسر التوازن على الأرض وخرق الموقف اليمني المدافع بالقول إن السعوديين والإماراتيين ومرتزِقتهم لم يحسنوا استخدامَ السلاح الأمريكي الحديث ولم يُجيدوا التخطيطَ. وقال: إن ما يجري في الحرب على اليمن شيءٌ محيّرٌ يحتاجُ إلى تفسير للأحجيات والألغاز بمعنى أن أكاديمياته وعقولَه الاستراتيجيين عاجزون عن تفسير وفَهْم نتائج الحرب المخفقة على اليمن، وهذا تضليل لأنه لو أراد أن يقولَ الحقيقة لقال ما تشيب له رؤوسُ الولدان عندهم وفي الرياض والخليج.