أهميّة الأخلاق .. بقلم/ أم مصطفى محمد
علمُ الأَخْــلَاق هو العلمُ الباحثُ في محاسِنِ الأَخْــلَاق ومساوئِها، وهو العلمُ الذي يحُثُّ على التحلّي بالأولى والتخلي عن الثانية، ويحتلُّ هذا العلم مكانةً مرموقةً ومحلاً رفيعاً بين العلوم لشرف موضوعه وسمو غايته، فهو نظامُها وواسطة عقدها ورمز فضائلها ومظهر جمالها، إذ العلوم بأسرها منوطة بالخُلق الكريم فهي تزدان بجماله وتحلو بآدابه، فإن خلت منه غدت هزيلةً شوهاءَ تثيرُ السخطَ والتقززَ، ولا غرابةَ في ذلك كون الأَخْــلَاق الفاضلة هي التي تحقّق في الإنْسَان معانيَ الإنْسَانية الرفيعة وتحيطه بهالة وضّاءة من الجمال والكمال وشرف النفس والضمير وسمو العزة والكرامة، وفي المقابل نجد أن الأَخْــلَاق الذميمة تمسخُه، وتحطُّه إلى درجة الهمج والوحوش، ولعلنا نجد أن أثرَ الأَخْــلَاق لا يكون مقصوراً على الأفراد فحسب، بل يسري إلى الأُمَــم والشعوب، فتعكس الأَخْــلَاق حياتها وخصائصها ومبلغ رقيها، أَو تخلفها في مضمار الأُمَــم.
لقد زخر التأريخ بأحداث وعبر دلّت على أنّ فساد الأَخْــلَاق وتفسخها كان معولاً هدّاماً في تقويض صروح الحضارات، وانهيار كثير من الدول والممالك ولذلك نجد الشاعر يقول
وإذا أصيب القومُ في أَخْــلَاقهم*** فأقم عليهم مأتماً وعويلا
ولعلنا نجدُ أن هذه الأَخْــلَاق كان لها من العظمة ما جعل النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم يوليها عناية كبرى، حيث جعلها الهدف والغاية من بعثته ورسالته، يقول الرسول الأعظم صلى اللهُ عليه واله وسلم (إنما بعثت لأُتمِّمَ مكارمَ الأَخْــلَاق). وهذا الأمر هو ما يهدف إليه علم الأَخْــلَاق، بما يرسمه من نظم وآداب، تهذّب ضمائر الناس وتقوّم أَخْــلَاقهم، وتوجههم إلى السيرة الحميدة، والسلوك الأمثل.
إننا نجدُ أن مناهجَ الأبحاث الخلقية وأساليبها قد اختلفت باختلاف المعنيين بدراستها من القدامى والمحدثين، حيث أننا نجدُهم ما بين متّزمت غالٍ في فلسفته الخلقية بحيث جعلها جافة مرهقة عسرة التطبيق والتنفيذ، وبين متحكّم فيها بأهوائه يرسمها كما اقتضت تقاليده الخَاصَّــة ومحيطه المحدود ونزعاته وطباعه مما جعله يجردها من صفة الأصالة والكمال، وهذا ما يجعل تلك المناهج مختلفة متباينة لا تصلح أن تكون دستوراً أَخْــلَاقياً خالداً للبشرية.
فالملاحظُ للباحث المقارن بين تلك المناهج أنّ أفضلَها وأكملها هو النهجُ الإسْلَامي المستمد من القُــرْآن الكريم وأَخْــلَاق أهل البيت عليهم السلام والذي ازدان بالقصد والاعتدال وأصالة المبدأ وسمو الغاية وحكمة التوجيه وحسن الملائمة لمختلف العصور والأفكار، فكان هو النهجُ الفريدُ الأمثل الذي يستطيعُ بفضل خصائصه وميزاته أن يسموَ بالناس فرداً ومجتمعاً نحو التكامل الخُلقي والمثل الأَخْــلَاقية العليا بأسلوب شيق محبب يستهوي العقولَ والقلوب ويحقّق لهم ذلك بأقرب وقت وأيسر طريق كونه منهج يمثل سموّ آداب الوحي الإلهي وبلاغة أهل البيت عليهم السلام وحكمتهم فهم كانوا يسيرون على ضوئه ويستلهمون مفاهيمه ويستقون من معينه ليحيلوها إلى الناس حكمة بالغة وأدباً رفيعاً ودروساً أَخْــلَاقية فذة تشع بنورها وطهورها على النفس فتزكّيها وتنيرها بمفاهيمها الخيّرة وتوجيهها الهادف البنّاء ولئن اهتدى به أناس وقَصُرَ عنه آخرون فليس ذلك بقادحٍ في حكمته وسمو تعاليمه وإنما هو لاختلاف طباع الناس ونزعاتهم في تقبّل مفاهيم التوجيه والتأديب وانتفاعهم بها كاختلاف المرضى في انتفاعهم بالأدوية الشافية والعقاقير الناجعة فمنهم المنتفع بها ومنهم من لا تجديه نفعاً، ومما يحزُّ في النفس ويبعَثُ على الأسى والأسف البالغَين أنّ المسلمين بعد أن كانوا قادةَ الأُمَــم وروّادَها إلى الفضائل ومكارم الأَخْــلَاق نجدهم قد خسروا مثاليتهم لانحرافهم عن آداب الإسْلَام وأَخْــلَاقه الفذّة مما جعلهم في حالة مزرية من التخلف والتسيب الخلقيين؛ لذلك كان لزاماً عليهم -إذَا ما ابتغوا العزة والكرامة وطيب السمعة- أن يستعيدوا ما أغفلوه من تراثهم الأَخْــلَاقي الضخم وينتفعوا برصيده المذخور ليكسبوا ثقة الناس وإعجابهم من جديد وليكونوا كما أراد اللّه تعالى لهم: (خير أمة أخرجت للناس) وهذه الأمنية غالية لا تُنال إلا بتظافر جهود المخلصين من أعلام الأمة الإسْلَامية وموجهيها على توعية المسلمين وحثهم على التمسك بالأَخْــلَاق الإسْلَامية ونشر مفاهيمها البنّاءة والاهتمام بعرضها عرضاً شيقاً جذاباً يغري الناس بدراستها والافادة منها، ولكوننا نواجهُ عدواناً عمد إلى محو ذكرنا من خلال ما يشنه علينا من حرب عسكرية استنفذ فيها كُلّ عتاده وعدته معتقدا أنه بذلك سيبيدنا ويحقّق مآربَه أَو من خلال تلك الحرب الخبيثة التي هي أقوى من الحرب العسكرية والتي يطلق عليها الحرب الناعمة.. تلك الحرب التي تهدفُ إلى تدميرنا عقائدياً وفكرياً من خلال إبعادنا عن كتاب الله تعالى وعن ما جاء به أهل البيت عليهم السلام كان لزاماً علينا أن نتنبهَ لهذا الهدف الشيطاني وأن نواجهه بكل ما أوتينا من قوة؛ ولذا ارتأينا من خلال هذا العمود أن نربطَكم بالأَخْــلَاق الإسْلَامية التي جاءت بها الرسالة المحمديةُ الأصيلة وما ذلك إلّا من أجل كسب الفضائل والتحلّي بها والثبات عليها؛ كونها من الأَهْدَاف السامية التي يتبارى فيها ويتنافس عليها ذوو النفوس الكبيرة والهمم العالية والتي لا ينالها إلا ذو حظ عظيم.
ولم أرَ أمثالَ الرجال تفاوتاً*** لدى المجد حتى عُد ألف بواحد
فهذه الأَخْــلَاقُ إنما هي أَلَــقٌ لا ينطفئ شعاعُه وقَبَسٌ لا تخبو أنوارُه يهدي إلى الحق ويهتدي به السائرون.. ولحديثنا بقية.