تحمُّلُ المسؤولية .. بقلم/ أم مصطفى محمد
تواجِهُ الإنْسَــانَ في هذه الحياة مسؤولياتٌ كبيرةٌ تنتظمٌ في عدة دوائرَ، فهو مسؤولٌ بالدرجة الأولى عن نفسه لتسيير شؤون حياته وتوفير متطلباته الذاتية مادية ومعنوية، ثم هو مسؤولٌ عن عائلته وأسرته بأن يتكفل باحتياجاتهم ويرعى مصالحهم؛ وباعتباره جزءاً من مجتمعه ومحيطه فهو معنيٌّ بالشأن الاجتماعي العام؛ ولأنه ينتمي إلى الدائرة الإنْسَــانية فلا بد له من تحمل مسؤولياته على الصعيد الإنْسَــاني العالمي، ولكن هل الإنْسَــان قادرٌ ومؤهلٌ للقيام بهذه المسؤوليات في دوائرها المتعددة؟ وعلى جبهاتها المختلفة؟
الجوابُ نعم وبكل تأكيد فقد هيأه الله تعالى ليكون خليفتَه في الأرض ومنحه قدراتٍ عقليةً ونفسية هائلة يستطيعُ بها أن يسخّرَ إمكاناتِ الحياة والكون، وأن يحقّـقَ أضخمَ الإنجازات ويؤدي أكبر الأعمال والمهام، ولسنا بحاجة إلى أدلة وبراهين نظرية لإثبات هذه الحقيقة؛ لأَنَّنا نرى مصاديقها في الواقع الخارجي، فتأريخ البشرية في الماضي والحاضر يحفل بشخصيات قيادية لامعة، قامت بأدوار عظيمة على مستوى العالم وتجاوزت حدود ذواتها وإطار عوائلها، ونطاق مجتمعاتها، وأصبحت في موقع الريادة والتأثير على صعيد الإنْسَــانية جمعاء والعالم كله.
إن الإمكانياتِ والمؤهلات متوفرةٌ لدى الإنْسَــان لتحمل كُــلّ هذه المسؤوليات، شرطَ الإدراك والوعي وإرادة التصدي وبذل الجهد والنشاط، وهنا يتفاوت الناس فهناك من يفتقد الوعي والإدراك حتى لمسؤوليته تجاه نفسه ويقصّر في خدمة ذاته ويصبح عبئاً على الآخرين يحمّلهم مشاكله ويعتمد عليهم في معالجة قضاياه، وهناك من يتعاجز أَو يعجز عن القيام بمهام أسرته وعائلته لقصور في وعيه أَو تقصير في حركته وأدائه، كما أن هناك من لا يبالي بواقع مجتمعه ولا دور له في خدمته، لكننا نجد في مقابل هذه الحالات صوراً مشرقة ونماذج رائعة لأناس يمتلكون الوعي والإدراك لمسؤولياتهم الذاتية والعائلية والاجتماعية والإنْسَــانية، فيقومون بأدوار كبيرة ويقدمون خدمات جليلة؛ ولذلك نجد القُــرْآن الكريم يتحدث مقارناً بين هاتين الصورتين المتناقضتين لمن يعجز حتى عن خدمة نفسه ويكون عبئاً على غيره، ولمن يجسّد الفاعلية والحركة الدائبة بالاتّجاه الصحيح، ساعياً لتوجيه الآخرين وقيادتهم يقول تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
إن تحمل المسؤولية من أهم القيم التي يؤدّي تمثُّلها إلى النجاح في الحياة على كافة المستويات، فالمسؤوليّة قرينة التكليف، وهي تعني أن يكون الإنْسَــان مُكلَّفاً بتأدية واجبات معيّنة تُلقى على كاهله بحيث يكون مُحاسباً عنها وعن نجاحه أَو إخفاقه فيها من قبل طرف آخر، فصحيح أن الإنْسَــان المسلم مسؤول مسؤولية مباشرة تجاه نفسه ولا يحاسب على أخطاء غيره كما قال تعالى (ولا تزِرُ وازرةٌ وزرَ أُخْــرَى)، إلا أن الله سُبْحَـانَـهُ حينما أكّد على هذا المفهوم لم يترك الأمور على عواهنها ولم يدعِ الإنْسَــانَ المسلم يُلقي حبلها على غاربها، بل وضع عليه بعضَ المسؤوليات الاجتماعية وأول هذه المسؤوليات المسؤوليّة الدينيّة وهي المسؤوليّة النابعة من إيْمَـان الإنْسَــان واعتقاده بمعتقد ديني معيّن حيث يفرض عليه هذا الاعتقادُ العديدَ من الواجبات التي يجبُ عليه تأديتها بنجاح حتى ينال الفلاح الذي يسعى إليه وفقاً لمعتقده، فالأديان ما جاءت إلا لتحقيق سعادة الإنْسَــان ومن هنا فإنّنا نجد أنّ هناك جانباً من المسؤولية الدينيّة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بباقي الأنواع الأُخْــرَى للمسؤوليّة كالمسؤوليّة الاجتماعيّة والتي تعني أنّ الإنْسَــان مُكلَّفٌ بتطبيق الدين، بالإضافة إلى قوانين المجتمع الذي يعيش فيه والالتزام بها، فتطبيق هذه القوانين فضلاً عن الالتزام بالعادات والتقاليد المجتمعيّة المختلفة هي ضماناتٌ توفّر للإنْسَــان حياةً هانئة مطمئنة.
كما أنّ من أبرز أنواع المسؤوليّة أيضاً المسؤوليّة الأخلاقيّة، وهي مسؤوليّة عامة شاملة تشمل كافة نواحي الحياة وهي التي تعطي الإنْسَــانَ القدرةَ على تحمُّل نتائج كُــلّ ما يصدر عنه من تصرّفات وأفعال فهي مسؤوليّة نابعة من ضمير الإنْسَــان ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنوعين الآخرَين وخاصّةً بالمسؤوليّة الدينيّة، وهذا الارتباط ناتج أساساً من أنّ أحد أهم أهداف الدين السمو بالأخلاق الإنْسَــانيّة والارتقاء بها.
كما نجد المسؤولية الاقتصادية والتي تنبثق منها مسألة التكافل الاجتماعي بأن يكفل الناس بعضهم بعضاً اقتصادياً فهذه المسؤولية تمتد من أصغر قرية في المجتمع إلى أكبر مدينة في البلاد، فأناس كُــلّ حيٍّ مسؤولون عن فقرائهم يقول صلى الله عليه واله وسلم ((ما آمن بي مَنْ بات شبعاناً وجاره جائع)) فهذا أقوى دليل على وجوب التكافل الاجتماعي بين المسلمين فبدون ذلك ينتفي الإيْمَـان عن شخص لا يواسي إخوانه الفقراء.
أمّا المسؤوليات الفكرية والمعنوية فهي كثيرة ومتنوعة وكلّها تتركز حول نقطة معيّنة بأنّ على الإنْسَــان المسلم واجبات وتكاليف محدّدة تجاه الآخرين، فإن أدّاها رُفعت عنه المسؤولية وألقى الحُجّة على الناس، ومن تلك الواجبات والتكاليف أن عليه أن يبلغ الناس، ويُرشد الضالّ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإن استجاب له الآخرون فذلك خيرٌ على خير، وإنْ أبوا وأعرضوا فـ (ما على الرسول إلاّ البلاغ المبين) (وما أنت عليهم بوكيل). (وما أنت عليهم بمصيطر).
لقد سعى الإسْــلَامُ إلى تنمية مبدأ المسؤولية في البيئة الاجتماعية، فبدون هذا المبدأ يغدو كُلُّ جهد إصلاحي من قبيل الحرث في البحر وعليه نجد الرسول وأهل بيته عليهم السلام يعملون على تأصيل فكرة المسؤولية في محاولتهم الحثيثة لإعادة تشكيل الإنْسَــان السويّ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يكرّرُ مقولة «أنا مسؤولٌ وإنّكم مسؤولون»، كما زرع أهل البيت عليهم السلام في وعي الأمّة فكرة المسؤولية العامة؛ لكي ترتقي من خلالها إلى مستوى التكافل الاجتماعي المطلوب في أكثر من اتّجاه وعلى أكثر من صعيد، ففي الاتّجاه السياسيّ يضطلع الحاكم بأيّ شكل جاء إلى السلطة بمستوىً عالٍ من المسؤولية لكونه يتحكمُ في مصائر البشر ومستأمن على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
وعلى الصعيد الأسري فالرجل مسؤولٌ عن أهل بيته من حيث الرّعاية والإعالة، فالمسؤولية ـ إذن ـ شموليةٌ من أعلى السلّم الاجتماعي إلى قاعدته وكما يقول أمير المؤمنين عليه السلام «كلُّ أمرئ مسؤولٌ عمّا ملكت يمينه وعياله»، ثم نجده يبعد نظرنا إلى سعة وشمول هذه المسؤولية فيقول «اتّقوا الله في عباده وبلاده فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم».
وبطبيعة الحال، تكونُ المسؤولية الكبرى أمام الله تعالى الخبير بعباده والمطلع على أعمالهم وسرائرهم فعن الإمام علي عليه السلام أنه قال “أوصيكم بتقوى الله فيما أنتم عنه مسؤولون وإليه تصيرون فإن الله تعالى يقول ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾، ويقول ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ﴾، ويقول ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال “ألا كلُّكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأميرُ الذي على الناس راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته، والرجلُ راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم”، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “إن الله تعالى سائل كُــلّ راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيّعه حتى يسأل الرجل عن أهل بيته”.
إن من يتأمَّلُ في سيرة الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله تعالى عليه يدركُ أن هذا السيد المؤمن قد مثّل أنموذجاً في تحمُّله للمسؤولية، تلك المسؤوليةُ التي لم تقتصر على بلادنا الحبيب وما كان يعانيه من ظلم وتجهيل وتهميش على أيدي أذناب أمريكا وإسرائيل، بل نجده رضوان الله تعالى عليه لم ينعزل عن قضايا الأُمَّــة كقضية فلسطين في الدرجة الأولى وإنما تفاعل معها، وتحمّل وجاهد في محاربة الاستبداد السياسيّ، وتمكَّن بفضلِ حنكته وصبره وشجاعته وصمود وتضحياته هو ومن صمدوا حوله من المؤمنين من صنع ثورة إيْمَـانية جددت عهدَ الإسْــلَام في نفوسنا فأسقطت بذلك الامبراطورية الوهمية لأمريكا وإسرائيل وَالتي زرعها النظام السابق في عقول أولئك الضعفاء الذين ركنوا إلى الذين ظلموا وتناسوا النار التي سيصلونها في الدنيا والآخرة.. ولحديثنا بقية.