الثباتُ على المبدأ (1) .. بقلم/ أم مصطفى محمد
للنُّظم والمبادئ أهميّةٌ كُبرى وأثرٌ بالغ في حياة الأُمَم والشعوب، فهي مَصْــدَرُ الإشعاع والتوجيه في الأُمّة ومظهر رُقيّها أَو تخلّفها، فكلّما سمَت مبادئ الأُمّة ونُظمِها الإصلاحيّة كان ذلك برهاناً على تحضّرها وازدهارها، وكلّما هزُلَت وسخفت المبادئ كان دليلاً على جهل ذويها وتخلّفهم، ولعل خير المبادئ وأشرفها هوما ينظّم حياة الإنْسَــان فرداً ومجتمعاً ويصون حرّيته وكرامته ويُحقّق أمنه ورخاءه ويوفّر له وسائل السعادة والسلام في مجالَي الدين والدنيا. وبديهيّ أنّ المبادئ مهما سمَت وزخرت بجلائل المزايا والخلال فإنّها لا تُحقّق أماني الأُمّة وآمالها ولا تفيء عليها بالخير المأمول إلاّ إذَا اعتنقتها وحرَصت على حمايتها وتنفيذها في مختلف مجالات الحياة وإلاّ كانت عديمة الجدوى والنفع، ولذا كان الثبات على المبدأ الحَـقّ مِن أقدس واجبات الأُمّة وفروضها الحتميّة فهو الذي يرفع معنويّاتها ويُعزّز قيمتها ويحقّق أهدافها وأمانيها، ولم تعرف البشريّة في تأريخها المديد أكمل وأفضل مِن المبادئ الإسْــلَاميّة الحائزة على جميع الخصائص والفضائل التي أهلتها للخلود وبوّأتها قمّة الشرائع والمبادئ.
إن مبادئ الإسْــلَام المحمدي الأصيل هي المبادئ الوحيدة التي تلائم الفِطَر السليمة وتؤلّف بين القِيَم الماديّة والروحيّة وتكفُل لمعتنقيها سعادة الدين والدنيا كونها استطاعت أنْ تحقّق في أقلِّ مِن رُبع قرن مِن فتوحات الإيْمَان ومعاجز الإصلاح ما عجزت عن تحقيقه سائر الشرائع والمبادئ حيث أنشأت من الأُمّة العربيّة المُتخلّفة في جاهليّتها خير أُمّةٍ أُخرِجت للناس حضارةً ومجداً وعِلماً وأخلاقاً، وما ساد المسلمون الأوّلون وانفردوا بحضارتهم وزعامتهم العلميّة إلاّ بثباتهم على مبادئهم الخالدة وتفانيهم في حمايتها ونصرتها، وما فُجِع المسلمون اليوم وانتابتهم النكسات المُتتالية إلاّ بإغفال مبادئهم وانحرافهم عنها، ولذا نجد أن القُــرْآن الكريم قد مجد المسلمين الثابتين على مبادئهم الرفيعة المُستمسكين بقِيَم الإيْمَان ومُثُله العليا يقول الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) ولقد كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين المثل الأعلى في الثبات على المبدأ وحمايته والتضحية في سبيله بأعزّ النفوس والأرواح، فلقد كان (صلّى اللّه عليه وآله وسلم) كلّما اكفهرّت في وجهه أعاصير المِحن وتألّبت عليه قِوى الكُفر والطغيان ازداد صموداً ومُضيّاً على نشر رسالته ضارباً في سبيل ذلك أرفع الأمثال، فلقد تعرّض رسول الله صلى الله عليه وآله في ابتداء البعثة للكثير والكثير من عذاب المشركين وإيذائهم له وتطاولهم عليه صلى الله عليه وآله بصنوف العذاب والتطاول، ورغم ذلك كان صلى الله عليه وآله ثابتاً صامداً متحدّياً لكل المشكلات ومتقيّداً بالفضيلة كُــلّ تقييد، وبهذا الصمود والشموخ انهارت قِوى الشرك واستسلَمت صاغرةً له، وها هو أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) يقتفي أثر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في جميع جوانب حياته وها هي تبرز مثاليته في الثبات على المبدأ والاعتصام به حين عُرِضَت عليه الخلافة مشروطةً بكتاب اللّه وسنّة رسوله وسيرة الشيخين فأبى عليه السلام معتدّاً بمبدئه السامي، ورأيه الأصيل قائلاً (بل على كتاب اللّه وسنّة رسوله واجتهاد رأيي).
إن الناسَ بالنسبة إلى الثبات على المبدأ على صنفين: الأول ثابت كالطود لا تزعزعه العواصف ولا تضعضعه القواصف، فهذا الصنف إن اقتنع بمبدأ أَو بعقيدة فَإنَّه يعض عليها بالنواجذ ويثبت عليها ثبات الرواسي، ويتفانى فيها بكل ما أوتي من قُــوَّة مهما كلفه ذلك من الضحايا الغالية حيث يتجلى ثباته في جميع أحواله فتراه ثابت الجنان ثابت اللسان ثابت القدم ثابت العمل، غير هلع وَلا متلجلج ولا مضطرب ولا مرتبك ولو أحدقت به الأخطار وَالأهوال، وَما ذلك إلا لكون ذلك المبدأ أَو العقيدة قد بلغ به حَــدّ العشق والوله والغرام والهيام، فلا يبالي في ذلك بما يلاقيه من قوارص اللوم والعتاب، ولا تثنيه عنه قُــوَّة المعارضة، ولا تؤثر فيه سعاية الوشاة وإفك الخراصين، بل لا يزداد نحو ذلك إلا تعصبا وتعلقا، وهذا دليل على كمال الصدق والإخلاص ومتانة الأخلاق، ولعلنا لمسنا هذه الصفات فيمن كانوا حول الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله تعالى عليه أولئك الذين ثبتوا ثبات الجبال الرواسي فصدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه بجوار ذلك الشهيد المؤمن ومنهم من انتظر ليكون سندا للسيد القائد السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي حفظه الله، ولعل هذا الصنف من الناس هو نواة الإصلاح وعمدة المصلحين وَالعدة التي ُيعول عليها المجاهدون، وَالكهف الذي يفزع إليه العاملون، واما الصنف الثاني فهم متزلزلو العقيدة، سقيمو الوجدان، متضعضعو الفكر، تراهم يعتنقون اليوم عقيدة وينسلخون منها غدا، يستحسنون اليوم مبدأ ويستقبحونه غدا، يدخلون اليوم في مشروع وَيخرجون منه غدا، يصادقون اليوم زيداً ويعادونه غداً.. كُــلّ هذا لا لسبب حادث وإنما لمرونة في أنفسهم وَضعف في قلوبهم فتراهم مدة عمرهم مترددين متذبذبين لا مبدأ لهم ولا عقيدة ولا رأي ولا دين وربما تحدثهم أنفسهم أن يدخلوا مع المصلحين والصادقين الذين نذروا حياتهم في مجابهة الباطل وَلكن سَرعانَ ما يجدون الطريقَ وعرة كونهم غير صادقين في ذلك فتجدهم يستصعبون مجاراة الصادقين فيرجعون القهقرى نادمين على ما فكروا فيه، ولا يكتفون بذلك بل يملؤون الجوّ صراخا وَصخبا ليوهموا من حولهم أن طريق الصادقين هو طريق وعر غير نافذ، لا ينتج نجاحا ولا فوزا، وهدفهم من ذلك تثبيط العزائم وزعزعة الهمم وما أَكْثَــر هؤلاء اليوم.