الثبات على المبدأ (2) .. بقلم/ أم مصطفى محمد
إن مبدئية الشخص وثباته على منهجه وبما يلتزم به من مجموعة قيم وموروثات نبيلة لَهي بالحق عنوانٌ عريضٌ للشخصية المثالية والنموذج الإنساني القيّم، فالمبادئ ومنابعها تنشأ من صراع قوى الخير والشر في داخل الإنسان، فالنفسُ بطبيعتها التكوينية تألف الصفات والأَخْــلَاق الحميدة في حين يعارضها الهوى الذي يميل باتّجاه ملذات الدنيا ومفاتنها، وعلى مر التأريخ لاحظنا جدلية صراع مبادئ الخير والشر على وجه الأرض ولاحظنا الخلود والذكر الأعظم لأولئك الذين روّضوا أنفسَهم لحمل القيم والمبادئ النبيلة، ولعل أعظمَ الخالدين هم الأنبياء والرسل وأوصياؤهم وتابعوهم؛ كونهم كانوا هم الأنموذج في ثباتهم على مبادئهم السامية التي بُعثوا لأجلها، كما أن التأريخ قد خلّد كثيرين وذلك لأجل مبادئهم الإنسانية وقيمهم الفكرية التي تهدف إلى تحرير الإنسان من براثن العبودية والتبعية، فالثبات على المبدأ في مواجهة الضغوط والصعوبات المختلفة هو الشعار الذي ينبغي أن يتحلى به الإنسان المؤمن في هذه الحياة.
إن رضا عامة الناس ربما يكون سهل المنال متى ما التزم الفرد بتوجه معين يستهوي هذه العامة، ولكن السؤال الأهم هل هذا الاتّجاه يتطابق مع المبادئ والقيم؟ حقيقة الأمر لا ينبغي للمرء أن يسير على منهج معين لمجرد خطب ود الآخرين، فرضى الآخرين لا ينبغي أن يكون هو الهدف وإنما الهدف هو رضا الله تعالى، فعلى الإنسان المؤمن أن يكون ملتزما بهذا المبدأ؛ لأَنَّه حينها سيسعى لجذب رضا الآخرين من خلال سلوكه الحسن مع الآخرين، حيث سيكسب السمعة الحسنة بينهم من خلال الالتزام بحسن القول وطيب السيرة وسلامة السلوك وليس بالتنازل عن مبادئه فعلى سبيل المثال الشاب المؤمن والفتاة المؤمنة اللذان قد يعيشان في محيط سيء، يجب عليهما أن يلتزما بمبادئهما وقيمهما وأحكام دينهما وأن لا يتأثرا بالضغوط الاجتماعية التي قد تواجههما وأن لا يستسلما لقولٍ من هنا أَو إتهامٍ من هناك بالرجعية أَو التعقيد، فنحن اليوم نعيش زمناً قد تضغط على الإنسان فيه أجواء الفساد والانحراف وقد تدفعه نفسه للانسياق حتى لا يكون شاذَاً عن محيطه، وأكثر من يواجه هذا الأمر هم الشباب الذين يعيشون في أوساط بعض الثلل فيرون أن الانحراف هو السمة السائدة فيمن حولهم، وهنا قد يرى الشاب المؤمن نفسه شاذا عن هذا الجمع والجو، وما عليه هنا إلا أن يستحضر قول الإمام علي عليه السلام (لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل).
إن على المصلحين وذوي الرأي في المجتمعات أن لا تهتز ثقتهم بأنفسهم لمجرد إعراض الناس من حولهم وعدم قناعتهم بكلامهم، فالمصلحُ له رأيٌ ووجهةُ نظر هو مقتنعٌ بها، ولكن من حوله إما؛ لأَنَّهم لم يدركوا هذا الرأي الذي لديه ولم يتفهموه، أَو أنهم يعيشون تحت تأثير عوامل أخرى ومراكز قوى تؤثر على عقولهم وتوجهاتهم فيجدهم مختلفون عنه، وهنا قد يجد المصلح نفسه محاصرا بآراء تخالف رأيه ومعتقده، فعلى هذا المصلح أن يداري الناس من باب التكتيك وأن يتصرف بما يتناسب مع ظرفه وموقفه، ولكن على المستوى الداخلي النفسي لا ينبغي أن تهتز ثقته بنفسه ولا أن يتزلزل؛ كون الناس من حوله لم يقبلوا كلامه، إنما عليه مداراة الناس وتقدير استيعابهم دون أن يدفعه ذلك للتشكيك في قناعاته انسياقاً خلفهم، حتى لا يصبح مصداقاً للآية الكريمة ﴿وكنا نخوض مع الخائضين﴾ فعلى الإنسان أن يلتزم بمبادئه وأن لا يخضع للضغوط الخارجية، وليكن قدوته في ذلك الأنبياء الذين عانوا أكثر من ذلك فقد اتهموا بالجنون والسحر وتفرّق الناس عنهم، ومع ذلك ثبتوا ثبات الجبال الرواسي، وعلى غرار ذلك كان الأمر بالنسبة للأئمة والمصلحين والأولياء، فكل ذلك ينبغي أن يكون درسا للإنسان في أن يكون واثقا من نفسه ومن مبادئه التي آمن بها عن حق، فلا تهتز نفسه ولا يضطرب ولا يتزلزل فعن الإمام علي عليه السلام أنه قال: (إن مُدحت فلا تفرح، وإن ذُممت فلا تجزع، وفكّرْ فيما قيل فيك، فإن عرفت من نفسك ما قيل فيك فسقوطُك من عين الله عز وجل أعظمُ عليك مصيبةً مما خفت من سقوطك من أعين الناس، وإن كنت على خلاف ما قيل فيك فثواب اكتسبته من غير أن تُتعب بدنك).