الصفيحُ الأمريكي الملتهب يحرق اتّفاق استوكهولم
د. وفيق إبراهيم
مضى أكثرُ من مئة يوم على توقيع اتّفاق السويد برعاية أممية.. ولم تتمكّنْ أطرافُه من تنفيذ بندٍ واحدٍ منه.. وسط تصعيد عسكريّ ملحوظ من قبل نحالف العدوان، يدفعُ نحو حرب واسعة.
ويأتي هذا التصعيدُ العسكريّ من جهة وانسداد المفاوضات من جهة ثانية على وقع دعوة علنية أمريكية إلى حربٍ كبيرة.. فهذه من المرات النادرة التي يكشفُ فيها الأمريكيون عن قيادتِهم العسكريّةِ المباشرة للمحور السعوديّ الإماراتي بعد أربع سنين من محاولات التمويه على دورهم المباشر عبر الزعم والادّعاء أنهم مجرد مساندين للعدوان السعوديّ.
فما الذي استجد حتى انقلب الأميركيون على اتّفاق ستوكهولم، مندفعين إلى عرقلة تنفيذه حسب التفسير الحقيقي له في منطقة الحديدة؟.
بداية.. اعتقد الحلف الأميركي- السعوديّ أن بمقدور اتّفاق السويد تحقيقَ ما عجز عنه التحالف (الخليجي – الأميركي – الإسرائيلي)؛ لذلك مارست واشنطن تأثيراً على مندوبي الأمم المتحدة لتفسير بنود هذا الاتّفاق بما يخدم هيمنتها على موانئ الحديدة، وعزل المدينة عن جوارها، لكن الأمر لم يحدث.. ففوجئوا أولاً برفض حازم من الدولة الوطنية اليمنية عبر أنصار الله واللجان وحزب المؤتمر والجيش للانسحاب من منطقة الحديدة، التي يحاربون من أجلها منذ أربع سنوات في وجه تحالفات تبدو في الظاهر سعوديّة إماراتية مع بعض المرتزِقة اليمنيين لكنها تحتوي أيضاً على خبراء أميركيين وإسرائيليين وبريطانيين.. بما يعكس مدى أهمية الحديدة في مشروع احتلال اليمن ووضع أهمياته المتنوعة في خدمة الجيوبوليتيك الأميركي.
وإذا كان أنصار الله يحاربون منذ أربع سنوات لحماية الحديدة، فكيف يوافقون على الانسحاب منها بـ “السلم” أَو المفاوضات؟.
إن المحاولةَ الأميركيةَ للإمساك بالمدينة بواسطة اتّفاق السويد وعبر التغطية السياسية لعبدربه منصور المنتحل صفة رئيس يختبئ في قصور آل سعود في الرياض.. إنما تندرج في إطار مشروعين اثنين: تقسيم اليمن إلى كانتونات برعاية أمريكية – سعوديّة – إماراتية – بريطانية، مقابل كانتون يشمل صنعاء وصعدة.. من أهم مميزاته أنه غير قابل للعيش والاستمرار؛ لأَنَّ حدودَه البرية مقفلة بالعِداء السعوديّ والكانتونات الأخرى داخل اليمن.. كما أن لا منافذ بحرية له، وطرقاته الجوية مقفلة بدورها من الناحية السعوديّة أَو البحر الأحمر أَو في أجواء المناطق الداخلية الأخرى؛ لذلك فإن الدولة اليمنية الوطنية تعتبر أن “كنتنة” اليمن ليست إلا خديعة لتحويله إلى حديقة خلفية للسعوديّة لها وظائف أَسَاسية أميركية، مقابل حصر أهمياته السياحية بالإمارات.
لقد اعتقد الأميركيون أن أنصار الله وتحالفاته تعبوا من القتال باحثين عن حل بأي ثمن يوفر الغذاء لملايين الجباع بسبب الحصار السعوديّ الإماراتي، الأميركي الإسرائيلي.. فدفعت (واشطن) باتجاه اتّفاق الحديدة..
هناك وجهٌ آخر للقبول الأميركي بالاتّفاق، وله علاقته بالصراع السياسي بين إدَارَة الرئيس الأميركي ترامب وروسيا والصين وتركيا والهند وأوروبا وكندا.. والحزب الديمقراطي الأميركي، فهؤلاء يبحثون عن أية أخطاء للنيل من ترامب “المسعور” فوجدوها في الإعلامي جمال الخاشقجي الذي اغتالته مجموعة أمنية تابعة مباشرة لولي العهد السعوديّ محمد بن سلمان صديق ترامب ومموّله.. كما عثروا عليها في حرب اليمن.. ملاحظين أهوالها وقتل عشرات الآلاف من اليمنيين المدنيين بعد أربعة أعوام من تجاهل عالمي وأوروبي لها.
هذا ما دفع الأميركيين إلى القبول باتّفاق ستوكهولم.. فإذا أدى إلى انسحاب الدولة الوطنية من الحديدة حسب تفسيرهم للاتّفاق يحققون إنجازاً كبيراً من دون دوي حربي.
أما إذا رفضوا، فبالإمكان اعتبار اتّفاق السويد مجرد هدنة تمتص الهجمات العالمية التي تستهدف السياسات الخارجية والاقتصادية لسيد البيت الأبيض.
كذلك أبدى الأميركيون حرصاً على رفض التفسير اليمني الوطني لاتّفاق الحديدة إنما من دون نسفه نهائياً.. فبدَوا حريصين على استمراره ضمن إطار من المراوحة لكسب المزيد من الوقت حتى يصاب مهاجمو ترامب بضعف في اندفاعاتهم، والدليل أن الأميركيين أعلنوا بشكل صريح تأييدهم للحرب على أنصار الله مباشرة، بعد إعلان وزير العدل الأميركي براءةَ ترامب من الاتصال بالروس في مرحلة انتخاباته الرئاسية.
للملاحظة كان الأميركيون يكتفون سابقاً بتأييد التحالف السعوديّ الإماراتي في حرب اليمن.. أما اليوم فيندفعون للاعتراف بمشاركتهم فيها من دون تهيب أَو ذعر، ويرسلون السلاح والإرهابيين إلى محيط الحديدة بشكل شبه علني؛ لإفهام الجميع أنهم القادة الفعليون لهذه الحرب، بما يؤشر إلى أن عمر اتّفاق السويد لم يعد طويلاً وهو في أيامه الأخيرة.. ضمن هذا الإطار تُحَضَّرُ خمس قوى لمعركة احتلال الحديدة.. وأولهم الأميركيون الذين يعتبرون المدينة جزءاً أَسَاسياً من نظام هيمنتهم على حركة العبور من باب المندب إلى قناة السويس فالبحر المتوسط، كما يُجَسِّدُ إسقاطها سيطرةً على كامل اليمن من أعالي صعدة إلى عدن وحدود اليمن مع عُمان.
ويهتم الأميركيون أيضاً بأن يكون النظام السياسي اليمني موالياً لهم لحماية دول الخليج من أية تداعيات، بالإضافة إلى اهتمامهم الخاص بثروات اليمن وقدرتها المستقبلية على شراء البضائع الأميركية.
أما السعوديّون فيريدون تحويلَها إلى حديقة خلفية لهم كما كانت في العقود الماضية.. علماً أنهم يمتلكون مساحاتٍ كبيرةً على سواحل البحر الأحمر تربطهم بسيناء وقناة السويس وحليفهم العدة الإسرائيلي.
لجهة الإمارات، فليست أكثرَ من ذراع أميركية مع اهتمامها باليمن على مستوى السياحة والتجارة وتأمين نقاط لتسهيل النقل البحري والاقتصادي إلى موانئها في دولة الإمارات.
ماذا عن بريطانيا؟ الإنجليز متخصصون بشؤون الخليج منذ قرنين على الأقل، ولديهم مطامع بموارد اليمن وأهمياته الاستراتيجية.. إنما من خلال ما يسمحُ به الدورُ الأميركي وليس منافِساً له.
واستناداً إلى الإعلام الإنجليزي والدولي فلبريطانيا مساهمةٌ أَسَاسيةٌ في تدريب المرتزِقة في الحرب اليمنية، ويواصِلون تصديرَ السلاح سِرّاً، مرسلين مئاتِ المستشارين العاملين ضمن قوات الإمارات والسعوديّة؛ لذلك ترى بريطانيا أن استمرارَ الحربِ على اليمن فرصةٌ تاريخيةٌ لعودتها إلى الخليج؛ للتعويض عن انسحابِها المرتقَب من الاتّحاد الأوروبي.
بالنسبة للقوة الخامسة فهي العدوُّ الإسرائيلي الذي أصبح يتمتعُ بعلاقة علنية مع فريق عبدربه منصور هادي.. فليس من قبيل المصادفة أن يجلسَ اليماني المنتحِلُ صفةَ وزير خارجيته إلى جانب نتنياهو رئيسِ حكومة كيان الاحتلال الإسرائيلي في مؤتمر وارسو، متبادلاً معه أحاديثَ حميمة..
وليس من قبيل الشائعات ما ينقلُه الإعلامُ الغربي عن مشارَكة إسرائيلية إلى جانب قوات منصور هادي في حرب اليمن من خلال الحصار البحري..
فلإسرائيل علاقاتٌ بدول القرن الأفريقي والحبشة وارتيريا، وهذا يعني اهتمامَها بأن يبقى بابُ المندب تحتَ سيطرة حلفائها من جماعة هادي ووزير خارجته.. بالإضافة إلى أن علاقةً استراتيجيةً باليمن تعني لإسرائيل امتداداً سلمياً إلى كامل شبه جزيرة العرب.
بالمقابل، تقفُ الدولةُ الوطنيةُ اليمنيةُ بشعبها الباسلِ وجيشِها الشجاع وقواها الصلبة المستمِدَّة عراقتَها من عبق التاريخ اليمني المقدام.. لتؤكِّدَ أنها مستعدةٌ للقتال لعقدٍ جديدٍ حتى تحطيم الغزاة.. وما الطائراتُ المسيَّرة والصواريخُ المصنَّعة محلياً إلا دلائلُ متواضعةٌ على إمكانيات يمنية مذهلة، تعلِنُ أن بوسعها توسيعَ إطار المعركة من سواحل الحديدة حتى المراكز العسكريّة في عمق الإمارات والسعوديّة؛ لأَنَّ اليمانية يأبون إصابةَ إخوانهم المدنيين ويصرُّون على استهداف أدوات الحرب فقط؛ لذلك فهناك تحضيرٌ يمني للقصف بمئات الصواريخ ومثلها من الطائرات المسيَّرة مع هجمات انطلاقاً من أعالي صعدة لإجهاض عدوانية آل سعود وزايد، وطرد المحتلين الأميركيين والإنجليز ودحر طموحات إسرائيل في قلب بلاد العرب.
إن المشروعَ الأميركيَّ لغزو الحديدة لن يبقى حرباً ضيِّقةً على واحدٍ من السواحل اليمنية بقدر ما يتجهُ ليتحولَ حرباً إقْليْمية قد تبدأ من سواحل الحديدة، لكنها لن تقفَ عند شواطئها لتدرك سواحلَ فلسطين المحتلة وحدود سوريا ولبنان وإيران والعراق مع كُــلّ أنواع الغزاة الأميركيين وحلفائهم وأذنابهم.