الشهيد الشاهد (5) الشهيدُ القائد.. والعاملُ الأساسي لاستمرار وديمومة المشروع .. بقلم/ أم مصطفى محمد
إن البُعدَ الزمانيَّ لكل قضية قد يتناسب طردياً مع مظلومية القضية وبُعدها المأساوي، وإن لم يكن هو العامل الأَسَاسي لاستمرار وديمومة القضية، فالعاملُ الرئيسي هو الارتباط بالله تعالى، فهذا العامل هو المعطي لكل الآثار الممكنة والمؤثرة لها في حياة النَّاس وهو الذي يكسبها فاعليتها وديمومة وجودها؛ كَــوْنه مرتبطاً بالحق المطلق (جلَّ ذكرُه) الذي لا يحده الزمان ولا يحدّده مكان، فمُجَــرّد إضَافَـة الشيء إليه وارتباطه به يلقي من فيوضاتِه عليه، ويجعل للمرتبط به شيئاً مما له كالبقاء والاستمرار، وهذا هو سرُّ بقاء النهضة الحسينية وأثرها أَكْثَــر من العامل المأساوي، وهو عينُ العامل الذي تعامل به الإمَـام الحسن (عليه السلام) في مواجهته لردة الجاهلية الأموية ومن قبله الإمَام علي عليه السلام، ولعلَّنا نلمَسُ وجود هذا العامل أَيْـضاً في ثورة الشهيد القائد -رِضْـوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ-، فإيْمَـانه بالله الذي انعكس من خلال تحَـرّكه لمجابهة الظلم والطغيان ومظلوميته التي عاشها من أجل إحقاق الحق كانت هي سر بقاء هذه المسيرة وتساقط كُـلّ من وقف أمامها.
لم تقتصر مظلومية الشهيد القائد -رِضْـوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ- على الجانب المبغض للمسيرة القُــرْآنية سواءٌ أكانوا بالداخل والذين مثلوا السلطة في اليمن أَو من كان بالخارج والذي مثّل أمريكا وإسرائيل، بل تجاوزت مظلوميته هؤلاء لتمسه مظلومية من قـبلنا نحن عندما فرّطنا فيه وفي قضيته وتركناه وَحيداً مع ثلة من المؤمنين المخلصين ليواجهوا مصيرَهم الأخير، ولعل ظُلمنا كان أشدَّ مضاضةً عليه مما وقع عليه من أُولئك الظالمين، فكما يقول الشاعر:
وظُلمُ ذوي القُربى أشدُّ مضاضةً.. على المرء من وَقْع الحُسامِ المهندِ
ولعلَّ هذه المظلومية تذكرنا بمظلومية الإمَـام الحسن عليه السلام فقد تقاعس قسمٌ من أتباع الإمَـام الحسن (عليه السلام) عن الخروج للجهاد؛ بسبَبِ تململهم من الحروب وتعبهم من المعارك التي جرت في زمن الإمَـام علي (عليه السلام) فاختاروا جانب الدعة والراحة والسكينة بدون معرفة منهم بالنتائج المستقبلية التي ستترتب على ترك الجهاد وما سيجري عليهم عند تسلط معاوية فها هو الإمَـام الحسن عليه السلام يخاطبهم بقوله ((ويلكم واللهِ إن معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي وإني أظنُّ أني إن وضعت يدي في يده فأسالمه لم يتركني أدين بدين جدي، وإني أقدر أن أعبدَ اللهَ عز وجل وحدي، ولكن كأني أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم ويستطعمونهم بما جعل الله لهم فلا يُسقون ولا يُطعمون، فبُعداً وسحقاً لما كسبته أيديهم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)، كما نجدُ أن البعضَ الآخرَ قد سلك طريقَ الخيانة للإمَـام الحسن (عليه السلام) ومنهم قادة الجيش ومن تبعهم من الجنود فالتحقوا بمعاوية بعد أن أغراهم بالأموال كما أن هناك فئةً من صحابةَ الإمَـام عليه السلام وهم طبقةُ المقربين لم يفهموا ولم يستوعبوا طبيعةَ الإمَـامة من حَيثُ الطاعة والانقياد لأوامر الإمَـام؛ كَــوْن الإمَـام مفترض الطاعة، فكانت هذه المظلومية عظيمة؛ كَــوْن أتباع الإمَـام عليه السلام لم يكونوا على استعداد لحماية الدين، وبالتالي فرّطوا في الإمَـام الحسن عليه السلام.
لقد كان الشهيدُ القائدُ يدركُ أن بعضَ النفوس ما زالت متعلقةً بالدنيا فأراد الشهيدُ القائد أن ينزعَ حُبَّ الدنيا من تلك النفوس عن طريق وضع أطروحات في تزكية النفس من خلال مقاومة الهوى؛ لكي يتسنى لتلك النفس بعد ذلك الانتقال من مقاومة الأهواء إلى مقاومة الأعداء، فالمراجِعُ لنهج الشهيد القائد -رِضْـوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ- يجدُه قد حرص على بلورة مفهوم المقاومة قرآنياً، حَيْــثُ نجده رضوانُ الله تعالى عليه ينطلقُ من غرساتها الأولى المتمثلة بمقاومة النفس ومغالبتها وتطويعها بالجهاد الأكبر، لتطمئن إلى فردوس الطمأنينة وسلام المؤمن مع ذاته، حَيْــثُ تتراءى هذه المعركة الوجوديةُ في أفق محراب المسلم وهو واقف على سجادة صلاته، لاستجلاء جوهرة التحرّر الحقيقي بالانتصار على نزعة الاستكبار من منطقة ـ النفس ـ وصولاً للانتصار على ذيولها وأذنابها على مسرح التصادم الذي لا مفر منه بين الحق والباطل، وهنا تظهر المفارقة في طموح هذا الانتصار من داخل النفس إلى خارجها باختلاف الوسائل والوسائط، ففي معركة الجهاد الأكبر يستخدم المسلم أسلحته الروحية كوسيلة لحماية نفسه من نفسه، بينما يلجأ في معركة الجهاد الأصغر إلى استخدام أسلحة العنف المادي لحماية وجوده من عدوه، فكان الشهيد القائد بهذه الأطروحات يرسخ مبادئ وقيم ظلت إلى يومنا هذا، حَيْــثُ أن التأريخ قد خطها بين صفحاته، فالتأريخ دائماً هو الحَكَمُ في تقييم حياة الرجال العظام بعد وفاتهم، حَيْــثُ يقيّم بشكل كامل مجموع إنجازاتهم في حياتهم والأثر الذي يتركونه على الأحداث، فالبعض يكون تقييمه بحسب تأثيره الموقوف على حياته، بينما يكون للبعض الآخر تأثير يمتد إلى زمن طويل بعد موته والشهيد القائد -رِضْـوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ- كان من الصنف الأخير.