معرفة النفس (1) هذا ما يضيءُ طريقَ الإنسان في مسيرته نحو الكمال المنشود .. بقلم/ أُم مصطفى محمد
إنّ تهذيبَ النّفس هو أوّل أمرٍ أوصى الإسْــلَام به الناس للظّفر على جنود إبليس والتخلّص من صفات النّفس الرّذيلة، وبالطبع، فإنّ أوّل خطوةٍ في هذا المضمار هي معرفة حقيقة النّفس ومدى طاقاتها الكامنة وكلّ ما يرتبط بها، فهذه المعرفةُ تضيءُ طريقَ الإنسان في مسيرته نحو الكمال والسعادة المنشودة كما تحفظه من أن يبيعَ نفسَه بأبخس الأثمان وبذرائعَ واهيةٍ، فمعرفةُ النفس من أسمى المعارف وأرقاها كما قال الإمام عليّ عليه السلام: “أفضَلُ المعرفَةِ مَعرفَةُ الإنسانِ نفسَهُ” وقال أَيْضاً “نالَ الفَوزَ الأكبَرَ مَن ظفرَ بمعرفةِ النفسِ” ونجده أيضاً يقول “أعظَمُ الجهلِ جهلُ الإنسانِ أمرَ نفسهِ”، ولعل سببَ انحرافِ الإنسان يكمُنُ في غفلته عن حقيقة ذاته ومكانته العظيمة بين سائر المخلوقات وكذا جهله بالهدف السامي الذي خُلق من أجله ألا وهو بلوغ درجات الكمال عند مليكٍ مقتدرٍ، فالعبدُ الذي يزلّ عن طريق الصواب هو في الحقيقة منهمكٌ في بلوغ مآربَ وأهدافٍ عبثيّة بعيدةٍ كلَّ البُعد عن مسلك الكمال المنشود الذي يحققّ له السعادة الأبديّة، بل إنّ هذه الأهدافَ تحول دون بلوغه السعادة ويصبحُ تائهاً حائراً من حَيثُ لا يشعُرُ فيحاول أن ينال مبتغاه لكن دون جدوى ولعل وصف أمير المؤمنين عليه السلام لحالة ذلك التائه كان دقيقا حيث قال: “عَجِبتُ لمـَن يُنشدُ ضالَّتَهُ وقدْ أضلَّ نفسَهُ فَلا يَطلُبُها” وقال أيضاً: “مَن لَم يَعرفْ نفسَهُ بَعُدَ عَن سُبُلِ النّجاةِ وخَبَطَ في الضّلالِ والجهالاتِ”.
إنّ من الآفات التي توقعُ المرءَ في أَشْرَاكِ الشيطان وتعرقل مسيرته على طريق السعادة بل وتجرّه أيضاً إلى الابتلاء بغيرها من الآفات آفة العُجْب والرضا عن النفس، فالعُجْب من أشراك الشيطان الخطيرة والتي تمتدّ جذورها إلى حبّ الذات، فحبُّ الذات هو من لوازم وجود الإنسان ومن المستحيل أن يوجَد موجودٌ ذو شعور لا يحبُّ ذاتَه، فاللهُ جل في علاه عندما يُوفّق الإنسانَ للقيام بأمر على أحسن وجه وبنيّة صالحة فيبلغ به النتيجة المرجوّة يأتي الشيطان ليوسوس له بأنّك – حقيقةً – شخص مميَّز جدّاً، فمثلا إذا أتى المرء بعبادة أوحى الشيطان له بقياس نفسه بأهل المعاصي قائلاً له: «انظر كيف أنّ الآخرين مبتلون بالمعاصي والشهوات وغلبة الهوى في حين أنّك – والحمد لله – من أهل العبادة ومصون من الذنوب فإنّك مفضَّل كلّ التفضيل على الآخرين»! ثمّ يحاولُ شيئاً فشيئاً استدراجه إلى مقارنة نفسه بأهل العبادة ويكشف له عن اُولئك العُبّاد المتورّطين ببعض الزلاّت والسيّئات، وفيما يتعلّق بسائر أمور الخير والصلاح كطلب العلم، والتدريس، والخطابة، والإنفاق، ومثيلاتها فهو يبذُلُ غايةَ وِسْعِه ويوسوس له بأنّك تفوق الكثير من أقرانك ومن يماثلونك في أعمال الصلاح بالفضل والامتياز وبالتالي نجد بعض الناس ينقسمون قسمين في تعاملهم مع هذا الوسواس:
قسمٌ يسارعون إلى تذكير أنفسهم – بعد تعرّضهم لهذه الوساوس – بأنّ كلّ تلك الحسنات هي من نعم الله علينا وأنّ كلّ واحدة منها تُثقل كاهلنا بمزيد من الدَّين تجاه الله تعالى، فإن صلّيتُ بحضور قلب تعيّن علي المزيد من الشكر لله حيث وفّقني لحضور القلب فهو الذي منّ عليّ بسلامة البدن والإيمان والعقل وإرشادات أهل المعرفة كي أتوفق إلى أداء هذه الصلاة أمّا وقد وفّقني الآن لحضور القلب في الصلاة فذلك من دواعي شكري المضاعف له، وقد جاء في الخبر أنّ اهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين) عندما كانوا يذكرون نعمة من نعم الله تعالى كانوا يحمدون الله بألسنتهم ويطأطئون رؤوسهم علامة على تعظيمه عزّ وجلّ وهذا لون من ألوان التعاطي مع نعم الله جلّ وعلا وأعماله الحسنة وتفضّلاته، وهذا الصنف من الناس نادرون بطبيعة الحال فهم يرون أنّ الدَّين الذي في رقابهم تجاهه جل وعلا أشدّ وأعمق «قُل لا تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ» فهذا هو مقتضى الأدب الإسْــلَاميّ والأخلاق التوحيديّة.
أمّا القسمُ الآخر – الذي يشكّل القسم الأعظم من البشر – فإنّهم عندما يرون في أنفسهم امتيازاً عن الآخرين فإنّهم يتفاخرون ويختالون قائلين: نعم، نحن هكذا! وهذه هي حالة العُجْب، فالشيطان يتسلّل إلى نفس الإنسان من هذه الثغرة ويصرعه أرضاً بقوّة شديدة حتّى أنّه يبقى مترنّحاً لمدّة من الزمن، فالعُجب هو آفة ذميمة للغاية وهو يقترن غالباً بالغرور، فالإنسان الـمُعجَب بنفسه لا يقيم وزناً للآخرين ويعتقد أنّ كلّ ما يفهمه ويدركه هو غاية ما توصّل إليه العقل البشريّ من العلم الصحيح وما من أحد غيره يفهم ما يفهمه هو، وهو ينكر على الآخرين كلّ ما يطرحونه خلافاً لرأيه بل ولا يرى فيه ما يستحقُّ الإصغاءَ إليه أساساً، وهكذا يُبتلى بالغرور والعياذُ بالله.