معرفة النفس (2) العجبُ من أشد الحجب بين القلب والرب تبارك وتعالى .. بقلم/ أُم مصطفى محمد
يقولُ اللهُ تعالى في محكم كتابه العزيز: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ).
إن العجبَ هو ابتهاجُ الإنْسَان وسرورُه بتصوّر الكمال في نفسه وإعجابه بأعماله والإدلال بها بظنّ تماميّتها وخلوصها وحُسبانُ نفسه خارجاً عن حدِّ التقصير، وليس معناه السرور بصدور العمل مع التواضع لله والشكر له على التوفيق والخوف من عدم تمامه وعدم قبوله، فالعجب من أخبث الأفكار السلبية السيّئة سواءٌ أكان حالة غير راسخة في النفس أَو إذَا تغلغل في النفس وترسّخ فيها وأضحى بالمداومة من ملكاتها، فالعُجب من أعظم المهلكات ومن أشدّ الحجب بين القلب والربّ تبارك وتعالى؛ ولذلك فإنّ المُعجَبَ بنفسه مبغوضٌ عند الله، مسلوبُ التوفيق من ناحية الله لحسبان نفسه غنيّاً عن إنعامه وإفضاله يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في وصيّته لأمير المؤمنين عليه السلام: “ولا وَحْدَةَ أَوْحَشَ من العُجْبِ” ويقول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام “العجب داء دفين” كما نجد الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم يقول: “لا جهل أضرّ من العُجب” ويقول الامام علي عليه السلام “إنّ الله عزّ وجلّ علم أنّ الذنبَ خيرٌ للمؤمن من العجب، لولا ذلك ما ابتلى الله مؤمناً بذنب أبداً” بمعنى أنّ العجب أشدُّ من الذنب في حضرة الله تعالى، ولهذا قد يبتلي الله سبحانه المؤمنَ بالمعصية لكي يُصبح آمناً من العجب، وَلذلك كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يعتبر العجب من المهلكات، فهو عندما يتأصّل في القلب يجرّ عمل الإنْسَان إلى الكفر والشرك وإلى ما هو أعظم من ذلك، فمن مفاسده استصغار المعاصي، بل إنّ ذا العجب لا ينهضُ لإصلاح نفسه ويظنّ أنّ نفسَه زكيّةٌ طاهرة فلا يخطر على باله أبداً أن يُطهّرها من المعاصي؛ لأَنَّ ستار الإعجاب بالنفس وحجابه الغليظ يحول بينه وبين أن يرى معايب نفسه وهذه مصيبة كبيرة، إذ إنّها تحجز الإنْسَان عن جميع الكمالات وتبتليه بأنواع النواقص وتؤدّي بعمل الإنْسَان إلى الهلاك الأبدي؛ كَـون أطباء النفوس يعجزون عن علاج هذا المرض الخبيث. .
كما أن من مفاسد العجب الأُخْــرَى أنه يجعلُ الإنْسَان يعتمد على نفسه في أعماله، وهذا ما يُصبِحُ سبباً في أن يحسب الإنْسَان الجاهل المسكين نفسه في غنىً عن الحق تعالى فلا يرى عليه فضل الحقّ تعالى بل يرى بحسب عقله الصغير أنّ الحقّ تعالى ملزم بأن يُعطيه الأجر والثواب، ويتوهّم أنه حتى لو عُمل بالعدل أيضاً لاستحقّ الثواب، كما نجد هذا الإنْسَان ينظر باحتقار إلى عباد الله ويحسب أعمال الناس لا شيء وإن كانت أفضل من أعماله، فتكون هذه النظرة وسيلة لهلاك الإنْسَان أيضاً وشوكة في طريق خلاصه ونجاته.
إنّ أنجعَ طريقة لعلاج العُجب هي أن يلتفت الإنْسَان أَكْثَــر إلى نقائصه يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الصدد «ما لابن آدم والعُجب! وأوّله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو بين ذلك يحمل العذَرة» فإنّ بدايته ماء فاسد، ونهايته جيفة متعفّنة قذرة وهو بينهما يحمل القاذورات والفضلات فما الذي يمكن أن يتفاخر به موجود كهذا؟ إذن فهي أفضل طريقة يتخلّص بها المرء من العُجب وحبّ النفس والغرور والكبر، ولقد أشار القُــرْآن الكريم في بضعة مواطن إشارة لطيفة إلى هذا الموضوع فقال عزّ من قائل: «أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ» أي فإذا هو يخاصمنا ويتفوّه بالكلام علينا من خلال إنكاره المعتقدات الصحيحة وجداله في الأحكام، ويقول الإمام علي عليه السلام «وسُدّ سبيل العُجب بمعرفة النفس» فإذا أردت إغلاق باب العُجب بوجهك فما عليك إلاّ أن تعرف نفسك، فها هو أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول «اعرف نفسك؛ وتأمّل في ما كنت عليه في أوّل أمرك، وما أنت عليه الآن، وما الذي ستكون عليه نهايتك»؟ فمن شأن هذا التأمّل أن يعينك على عدم الابتلاء بالعُجب والغرور.. فالذي يفتخر بنفسه ويستولي عليه العُجْبُ لالتزامه بصلاة الليل أَو لدراسة علوم أهل البيت (عليهم السلام) لبضع سنين،… إلخ فإنّ عليه أن يفكّر بأنّه: إذَا قاموا بمراجعة صحيفة أعماله فكم بالمائة من أعماله التي أتى بها كانت في سبيل الله ولمرضاته؟ وأيّ العلوم التي اكتسبها كانت غايته من ورائها رضا الله فحسب؟ وأيّ المواعظ التي وعظ بها كان قد أراد بها وجه الله ليس غير؟ وما الذي سيصنعه إذَا شُطب بالخطّ الأحمر على كلّ تلك الأعمال التي كان يتفاخر بها؟! إذن فأفضل سبيل لصيانة الإنْسَان من العُجب والغرور هو التفكير بمبدئه ومآله ووجوده الدنيويّ، فإذا نظر الإنْسَان إلى نفسه انطلاقاً من هذه الرؤية فسيجد أنّ بداية حياته كانت نطفة سابحة في ماء نتن وأنّه يتعيّن عليه القول في كلّ ما اُضيف إلى هذا الماء: إنّه الله سبحانه وتعالى الذي تفضّل عليّ بذلك؛ فهو الذي منحني السمع والبصر والقلب والأعصاب والدماغ والكبّد والرئة واليد والرجل… إلخ، وبهذه الكيفيّة سيتضاعف الدَين الذي في رقابنا لله يوماً بعد آخر وسنكون باستمرار أشدّ امتناناً له وحياءً منه فنحدّث أنفسنا: ماذا وأين كنّا وكم أسبغ علينا الله تعالى من الكرامات حتّى وُلِدنا؟ كيف هيّأ لنا أرضيّة النموّ والرشد ومنّ علينا بالعقل والإيْمَان وحبانا بالاحترام والعزّ بين أفراد المجتمع إذ لا يمكن قياس أيّ واحدة من هذه النعم بملايين بل بمليارات الجواهر والحُلِيّ، فإذن فما الذي نملك أمام كلّ هذا الدَّين الذي في رقابنا لنقدّمه لله عزّ وجلّ سوى أن نركع بين يديه خاضعين ونقول «ما عبدناك حقّ عبادتك، وما عرفناك حقّ معرفتك».