السيدة إلهان عمر ظاهرة فريدة في الشجاعة وثبات الموقف.. إنها امرأة بألف رجل .. بقلم أ. د. عبدالعزيز صالح بن حبتور
إلهان عمر، كما يسمّيها أهلُنا في الصومال، وَفي اليمن وبقية الأقطار العربية بـ “إلهام عمر”، هي بالفعل امرأةٌ مُلهمة استثنائية، وأصبحت اليوم ظاهرةً مميزةً على الصعيد الإعلامي العالمي. وهنا نود الإشارةَ إلى أن النظامَ السياسيّ الليبرالي الغربي هو ما حقّــق لها هذا النوعَ من النجاح والشهرة، علاوةً على أن شخصيتَها وثقافتها ودافعيتها وقدراتها الذاتية كانت دون شكٍّ العامل الأهم في مسيرتها، ولولا تلك المساحة الواسعة لدى النظام السياسيّ الديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية التي أتاحت الفرصة لنجاح أمثالها من الطموحين والمتميزين في الظهور والبروز واعتلاء منصات النجومية والنجاح، فإن هذا الطموح وذلك التميز للأشخاص عادةً ما يُكبَت ويوأد في المجتمعات التقليدية والمتأخرة عن ركب التطور العلمي والانفتاح الثقافي والسياسيّ.
السيدة إلهان عمر مثالٌ حيٌّ لكل إنْسَان ملتزِمٍ بقضايا وطنه وعروبته ودينه وإنْسَانيته، هي إنْسَانة بسيطة فقيرة هاجرت من مقديشو عاصمة الصومال، تعرضت كغيرها من أهلنا الصوماليين لآلام التهجير، وتحديات اللجوء، وقسوة التشرد من بلد إلى آخر، كان آخر محطاتها للاستقرار والسُكنى في بلد جديد هو الولاياتُ المتحدة الأمريكية في عام 1995م، في ولاية مينيسوتا، وأصبحت مواطنة أمريكية بامتياز لها ذات الحق كما عليها ذات الواجب كمواطنة أمريكية. هكذا يضمن النظام الليبرالي الحق الإنْسَاني لظاهرة اللجوء والاغتراب.
تخيّلوا لو هاجرت السيدة إلهان عمر إلى إحدى الدول العربية المسلمة، وبالذات إلى إحدى دول (مجلس التعاون لدول الخليج العربية)، لبقيت حتى يومنا هذا إنْسَانةً هامشية مُضطهدة تعيش بنظام الكفيل كثير الشبه بنظام الرق في المجتمعات البدائية، فنظامُ الكفيل يشبهُ إلى حدٍّ بعيدٍ النُّظُمَ الاجتماعية في أحد مجتمعات ما قبل الحضارة الإنْسَانية.
ولأنَّ لها مِن اسمها نصيباً (إلهام عمر)، ألهمت ذاتها أولاً، كما ألهمت الشباب والشابات من جيلها في العديد من البلدان الإسلامية، الهجرة الطامحة إلى الغرب، لا إلى البلدان (المسلمة) لتجد ذاتها هناك وشخصيتها هناك في موطنها الجديد أميركا.
فهي لم تحملْ حقيبةَ ثيابها فحسب وهي مسافرة مهاجرة، بل حملت معها إلى الوطن الجديد أحلامَها وآمالَها وطموحاتِها، وحافظت على هُويَّتها الخَاصَّــة كمسلمة مُثقفة مُحتشمة منفتحة على التعايش الإنْسَاني الواسع في بلد الأحلام الجديدة أميركا، واستوعبت لغة أهلها بسرعة فائقة؛ لكنها حافظت على جزء كبير من لغتها العربية والصومالية.
تعلمت فنونَ الحوار مع الغير، ولكنها لم تنسَ قضيتَها كصومالية مسلمة قادمة من بلد مزقته الحرب الأهلية.
تعلمت وأتقنت اللباسَ العصري والموضة الأميركية المحترمة، لكنها لم تنسَ الاحتشام وفريضة الحجاب كمسلمة، أتقنت فنون الأكل بالشوكة والسكين وأكل وجبة الإستيك والسُبى، لكنها لم تنسَ وجبة (العمبولا) Camboola، والعصيد (سُوَر) Soor والمرق والقوارمة الأوتكع Ootkac الشهية، كما استوعبت بحرفية لافتة سياسات وأيديولوجية الحزب الديمقراطي في أميركا كنصير نسبي للفقراء والمعوزين المهاجرين ومحاربة الفكر العنصري المقيت.
عندما قرّرت خوض الانتخابات في مجلس النواب الأمريكي نسخة أغسطس 2018م، عن الدائرة B60، نافست بجدارة على مقعد ولاية مينيسوتا لتحظى بشرف أن تكون أول إنْسَانة مسلمة مُحجبة تحظى بانتخابات الناخبين في الولاية ببرنامج الحزب الديمقراطي بشكل جريء وواضح بانحيازها إلى فئة المهاجرين الجدد من القارة السوداء ومن العالم العربي والإسلامي؛ لأَنَّها تدرك حجم التحديات التي تواجه هذه الفئة من المواطنين الأمريكيين.
حينما قرّرت السيدة إلهان عمر خوض معترك الحياة السياسيّة، كانت تدرك بأنه طريقٌ محفوفٌ بالتحديات والمخاطر، لكنها لم تتوقع قط أن الإرث الثقيل للتاريخ العنصري، والحقبة العبودية للمجتمع الأمريكي سيُلقي بظلاله عليها، حتى من قبل السيد دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الذي لم يكن مُحترماً في التخاطب مع امرأةٍ شابة مسلمة مُنتخبة كعضو في الكونجرس الأمريكي الذي يمثل الأُمَّــة والقيم الأمريكية كلها، كما لم تسلم قط من هجوم اللوبي الصهيوني الـ (الأيباك (AIPAC المزروع كخنجر مسموم في قلب المجتمع الأمريكي، وأصبح أسيراً له للأسف، الأدهى والأمر من كُــلّ ما سلف أن هناك نشاطاً مُعلناً وخفياً من قبل القادة العرب المُطَبِّعين مع الكيان الصهيوني الذين يحاولون تمرير ما يسمى بـ(صفقة القرن) ضد القضية الفلسطينية برمتها، كان هؤلاء جميعاً ضد السيدة إلهان عمر.
السيدة إلهان تدرك أنها ستواجه الفكر الشعبوي العنصري لها؛ باعتبَارِها سياسيّة ديمقراطية سوداء مسلمة مُحجبة، لكنها لم تدرك أنها ستحيي ذلك المخزون المُخزي للفكر والثقافة العنصرية في المجتمع الأمريكي وبالذات من قبل اليمين الشعبوي وعلى رأسهم الرئيس دونالد ترامب وفريقه السياسيّ. نعم إن مجتمع الولايات المتحدة الأمريكية كله لا يزال مُثقلاً بعبء التجربة العنصرية المقيتة، والتمايز الاجتماعي، لمرحلة العبودية المُهينة للإنْسَانية.
ما يثير الاعتزاز لدى هذه السياسيّة الشابة السمراء التزامها بالدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، مع علمها بحجم تأثير اللوبي اليهودي المتصهين ضد أي سياسيّ يرفع صوته ضد الكيان الإسرائيلي، وأن أي رأي منصف تجاه أهلنا بفلسطين سيتحول إلى أسلحة إعلاميةٍ ضد حاملها، وسيقولون أنه مُعادٍ للسامية، وهذا اتهام جزافي يوجه ضد كُــلّ من انتقد سياسات الكيان الصهيوني المحتلّ لأرض فلسطين.
السيدة إلهان عمر صمدت بثقة عالية بذاتها كإنْسَانة أمريكية سمراء، كمسلمة مُحجبة مُحتشمة، وبشهادة انتخابها من قبل الناخب الأمريكي كعضو في الكونجرس، كما تقول بذلك علناً، صمدت أمام عواصف وانتقادات اليمين الشعبوي العنصري، وجماعات الضغط من اللوبي الصهيوني، ومن القادة والنافذين (العرب) المتصهينين، وهي محمية من الله سبحانه وتعالى ثم من كُــلّ الأحرار في العالم.
إنها امرأة بألف رجل في زماننا الحالي الذي نشاهد فيه مواقف (الرجال) أَو (القادة) يتساقطون بشكل درامي وغير مسبوق تجاه القضايا العربية الكبرى، كقضية فلسطين؛ باعتبَارِها قضية مركزية الأُمَّــة كلها، والمساومة الرخيصة للتنازل عن حَـقّ العودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين، والتآمر العلني مع الإدارة الأمريكية للتنازل عن الأراضي العربية المحتلّة في الجولان، وجنوب لبنان، وتصفية القضية الفلسطينية برمتها من خلال ما حُكي عنه من (صفقة القرن).
إننا نتضامنُ تضامناً أخوياً كاملاً مع السيدة إلهان أَو إلهام عمر تجاه ما تتعرض له من تشويه لمواقفها وتخويف شخصي لها، وتهديدها بالتصفية الجسدية من قبل غُلاة القوى اليمينية الأمريكية المتطرفة بمن فيهم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ذاته.
نتضامنُ معها ونحن في قمّة الوجع والألم والمعاناة من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي تزود دول العدوان -المملكة العربية السعوديّة والإمارات العربية المتحدة- ضد شعبنا اليمني المقاوم، بالسلاح والعتاد والذخائر والعمل الاستخباراتي واللوجستي والحماية الدبلوماسية والسياسيّة.
شعبُنا اليمني يتعرضُ لعدوان وحشي وحصار خانق وتضليل إعلامي من قبل دول العدوان ودعم وإسناد جميع الدول الغربية الاستعمارية منذ الـ 26 مارس 2015م وحتى كتابة هذه الأسطر، هذا العدوان غير المبرّر هو أكبر انتهاك لحقوق الإنْسَان في العالم، ومع ذلك نتضامن مع أي صوت حر وموقف إنْسَاني تجاه الطغيان في أي مكان في العالم، والله أعلم منا جميعاً.
وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم
* رئيس مجلس الوزراء
صنعاء أبريل 2019م