السعوديّة تقود العرب.. ولكن إلى أين؟ بقلم/ عبدالغني علي الزبيدي
توحُشُّ رأس المال البارد إحدى الآفات التقليدية المدمّــرة للشعوب ومستقبلها، فكيف إذَا أضيف إليه الاستبداد السياسيّ والتخلف الاجتماعي، وهو ثالوثٌ يجتمعُ في المملكة السعوديّة؟ هذا ليس اكتشافاً جديداً، فهذه الدولةُ أدّت دَائماً دورَ الوكيل الوفي للاستعمار في التصدي لحركات الاستقلال والنهضة العربية بشقيها السياسيّ والاجتماعي، ولكنّ الجديد هو تصدُّرُ المملكة للنظام السياسيّ العربي، وقدرتها على قيادته في ظل غيابِ قوىً أُخْــرَى مؤثرة كمصر أَو العراق وسوريا.
كان النظامُ السياسيُّ العربي يعاني باستمرار مشكلات جوهرية لا يمكن إنكارُها، وسياسات وقرارات قاتلة، حتى في لحظاته الذهبية، ولكنّ مشكلاته وأخطاءه هذه كانت تأتي ضمن امتلاكه وسعيه إلى تحقيق مشاريعَ سياسيّة قومية تحرّرية ورؤية اجتماعية تقدمية. وبقدر ما كان يعاني الخلل الداخلي، بقدر ما كان يواجهُ بالتحالف مع قوى التحرّر العالمية، هجمات وضغوط الاستعمار ووكلائه المعادين لتحرّر الشعوب واستقلالها.
هذا ما يجعل من المسرحية المتمثلة في قرارات مجلس الوزراء العرب بوصفِ حزبِ الله منظمة إرهَابية، وإدانة إيران لتدخلها في الشؤون العربية. (كوميديا سوداء).
فالدولةُ التي نشأت وترعرعت كربيبة للاستعمار وكذراعٍ لمشاريعه في منطقتنا، وهي لم تقفْ يَوماً بجانب إرادةِ الشعوبِ العربية حينما كانت متوحدةً تحت طموح قومي عربي بل حاربت تلك القومية باسم الدين، وباتت اليوم تقفُ على رأس النظام السياسيّ العربي، وتقرّر من هو الإرهَابي ومَن هو الوطني. ثم تقود أحلافاً إقليميةً لمحاربة هذا، وتمنح «صكوك الغفران والشرف» لذاك.
لن نعودَ إلى الماضي لنستعرض تأريخ المملكة السعوديّة ودورَها ضمن المنظومة السياسيّة العربية، بل سنسلم جدلاً بما تطرحُه اليوم من أن حزبَ الله منظمة إرهَابية تقتلُ المدنيين بناءً على خلفياتهم الطائفية، وبأن إيرانَ لديها طموحٌ في السيطرة الإقليمية والعَبَث بشؤون الدول العربية، لكن السؤال: هل السعوديّةُ تمثّلُ للعرب ولمستقبلهم النموذج والبديل؟ هل إذَا كان حزبُ الله إرهَابياً اليوم؛ لأَنَّه يقاتل في سوريا، كانت هي قد وقفت إلى جانبه حين انهمرت صواريخُه في الأمس على إسرائيل؟
ماذا قدّمت السعوديّة أصلاً للفلسطينيين؟ أليس السلام والتطبيع كانا مبادرتها للاحتلال حينما كان يقتل ويدمّــر في مدن الضفة خلال الانتفاضة الثانية؟ هذا مشهدٌ سريالي: الدولة التي جمعت العرب اليوم لإدانة حزب الله بالإرهَاب، هي التي جمعتهم عام 2002 ليقدموا إلى الاحتلال مقترحاتِ السلام والتطبيع الاقتصادي والثقافي!.
ألم يكن «داعش» أولى باهتمام وبحماسة السعوديّة لعقد مؤتمر ووصفه بالإرهَاب؟ هل السعوديّة التي تعيب على الآخرين طائفيتَهم، قادرةٌ على محاربة هذه الطائفية بما تنشُرُه من فكر «قروسطي» وبملاحقة وبإعدام من يكتب قصيدة؟
ما تفعلُه السعوديّةُ منذ عدوانها لليمن ثم إنشاء حلفها الخاص «لمحاربة الإرهَاب»، وأخيراً هذه الحركة الانفعالية والمتوترة التي ضغطت فيها لاستصدار ما خرج به مجلس الوزراء العرب، يتجاوز حدودَ العلاقة الإيرانية ــ السعوديّة، ليأتيَ ضمن إدراك الأخيرة أن هناك تغيراتٍ كبيرةً تمُسُّ النظام السياسيّ الدولي. تغيرات تسيرُ عكس مصالحها ولن يكونَ لها فيها المكانة التي اعتادتها.
فالولاياتُ المتحدة (الراعي الحصري للسعوديّة واستقرارها) لم تعد شرطيَّ العالم، والآمرَ الناهيَ الوحيد، بل لم تعد لها الحماسةُ المعتادةُ في المنطقة وأساليب التدخل المباشر في ظل بروز منافسين اقتصاديين وسياسيّين يهددون مصالحها في مناطق أُخْــرَى من العالم.
ما يشهدُه المسرحُ الدولي في السنوات الأخيرة، وخَاصَّــةً تصارعه في منطقتنا، هو عملية مخاض تقليدية تحدث كلما ضعف أَو تراجع نفوذ القوة العالمية المهيمنة؛ ليولدَ بذلك نظام دولي بتوازنات وأدوار وتحالفات جديدة. هذا يجعل السعوديّة تستيقظ اليوم من سباتها مفزوعة لتتعثر بثوبها الطويل وبسياساتها العشوائية والعصبية، وخَاصَّــةً إذَا ما أضفنا إلى إدراكها هذا إدراكاً آخر يتمثل في «الأزمة النفطية» وانتصار النظام السوري وتجاوز إيران أزمةَ ملفها النووي.
الصورةُ التي نطرَحُها، يدعمُها تقريرٌ للاستخبارات الألمانية بعنوان «تدخلات سياسيّة مندفعة»، نُشر قبل فترة في صحيفة «الإندبندنت»، ووصف وزير الدفاع السعوديّ، محمد بن سلمان، بأنه «مقامر سياسيّ يزعزع استقرار العالم العربي من خلال توكيلات حربية في سوريا واليمن». ضمن هذه التوكيلات والتوتر والتخبط يمكننا تفسير الإصرار السعوديّ على الإعلاء من شأن الخطاب الطائفي في المنطقة ورؤية الأمور حصراً من خلاله، والترويج له ليلَ نهارَ في وسائل الإعلام.
هي دولةٌ لا تملكُ أيَّ مشروع وطني أَو رؤية سياسيّة يمكن أن تجمعَ حوله الشعوبَ العربية وتستقطبَ به الدعمَ والتأييد؛ لذلك فإنَّ رفعَ الراية السنية في وجه الخطر الشيعي هو ملعبُها المفضَّل. وضمن هذا الشعار يختلطُ الحابلُ بالنابل، ويجوز استعداء الأصدقاء ومصادقة الأعداء. وقد جاءت الفرصةُ سانحةً في ظل حالة الفراغ السياسيّ التي يعانيها النظامُ العربي بعد غيابِ قوىً تقليديةٍ مؤثرة، ليصيرَ القرارُ لمن يملكُ أكثرَ ومن يستطيع أن يهب ويمنحَ أكثر، وليس لمن لديه رؤية ومشروع يخدمان فعلاً الدول وشعوبها.
بسبب غيابِ هذه الرؤية والمشروع عن النظام السياسيّ العربي ودوله، لا يمكنُ الادّعاء بأن هناك مَن هو قادر على حماية مصالح العرب وطرح نفسه كرافع لوائهم، أَو أنه قادرٌ على الوقوف في وجه التدخلات الخارجية مهما كان مصدرها. إيران أَو تركيا أَو أية دولة أُخْــرَى لديها من المقومات الذاتية ما يسمح لها ببناء طموح إقليمي، لا بد أن تسعى وتتحَــرّك لتحقيقه حيثما تجد فرصةً سانحةً أَو منطقة فارغة لا أحد يشغلها.
هذا العجزُ الذي تعانيه السعوديّةُ وغيرُها من الدول العربية لا يبرّر لها أن تقودَنا خلفَها في طرق مجنونة لن تجلبَ إلا الدمار لنسيجنا الاجتماعي قبل طموحنا ومكانتنا السياسيّة. ولهذا فإنَّ التعاملَ مع إيران وغيرها ومن دون الدخول في الجدل حول طبيعة دورها الإقليمي، يجبُ أن يستندَ إلى أرضية وطنية إقليمية سليمة تملك مشروعاً يحدّد فيه أعداءَ شعوبنا بدقة وليس «أعداء أنظمة وعائلات». حينئد يمكن للنظام العربي أن يعودَ ممثلاً لمصالح شعوبه، لكن حتى ذلك الوقت، سيبقى الوعيُّ العربي عصياً على التشويه، حَيْــثُ المقاوم بيّن.. والإرهَابي معلوم..