التوكّـل (2) التوكّـلُ على الله يحقّقُ الاطمئنانَ والاتزان .. بقلم/ أم مصطفى محمد
إن التَّـوَكُّـلَ على الله يشكِّلُ صمامَ أمان للإنْسَان يستطيعُ من خلاله أن يحافِظَ على توازنه واتزانه الشخصي، وبالتالي يُحقّق الهدوءَ والاطمئنان لنفسه، وَيترتب على التَّـوَكُّـل على الله إذَا اقترن مع الاعتماد على النفس وتفعيل طاقات وَقدرات الإنْسَان العديد من الأمور كالاستفادة من الطاقات المادية والمعنوية، فالتَّـوَكُّـلُ على الله يدفعُ الإنْسَان إلى أن يبذُلَ قُصارى جهده في الاستفادة من طاقاته المادية والمعنوية، بَيدَ أنه لا يعتمد عليها اعتماداً كلياً، بل يعتمدُ على الله تعالى؛ باعتباره السببَ الأقصى والنهائي لكل شيء، ولقد جاء في بعض الأدعية الواردة عن أهل البيت عليهم السلام ما يُبين هذا الأمر، كما جاء في أدعية الرزق ((اللهم يا سَبَبَ من لا سَبَبَ له، يا سَبَبَ ُكل ذي سَبَبٍ، يا مُسَبِبَ الأسباب من غِير سَبَبٍ، سَببْ لي سَبَباً لن أستطيع لهُ طَلباً)) ففي بعض الأحيان إذَا أوصدت جميع الأبواب أمام الإنْسَان فسوف يجد باباً لا يُوصد أمامه وهو باب الله تعالى القادر على إزالة الكرب وتفريج الملمة، كما أنّ التَّـوَكُّـل على الله يُحقّق الاطمئنان والاتزان وذلك؛ لأَنَّ التَّـوَكُّـلَ على الله توأمٌ مع ذكر الله تبارك وتعالى، فمن يتوكل على الله ويرى أنّ الأمور بيده تعالى فهو ذاكر لله في كنه وجوده وفي سريرة نفسه؛ ولذا يقول الله تعالى في الذكر الحكيم {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، فالإنْسَانُ إذَا بذل قُصارى جهده مع السير بثبات من خلال توكله على الله يعيش الاتزان والاطمئنان والسكينة في خطواته، كما نجد أنّ المتوكل على الله يستطيع أن يتحمل الصعابَ ويجتازَ العقبات الكبرى وأن يواجه أعتى القِوى في العالم من دون خوف، وذلك من خلال التَّـوَكُّـل على الله بشرط أن يسيرَ وفق وطبق المنهج الإلهي، فإذا سار الإنْسَان على طبق الموازين الشرعية والإلهية معتمداً على نفسه ومتوكلاً على الله، فَإنَّ الصعاب والعقبات الكبرى تتضاءلُ أمام ناظرَيه إلى أن تتلاشى، وبالتالي يتحول ذلك المستحيل إلى ممكن، وذلك الممكن إلى واقع، ولقد رأينا في سيرة الأنبياء والرسل بل وحتى في سيرة الصالحين كيف استطاعوا بالاعتمادِ على ذواتهم، وبتفعيلهم لقدراتهم الذاتية مع توكلهم على الله تعالى أن يُحقّقوا الإنجازاتِ الكبرى في التأريخ، فمَن ينظُرْ إلى سيرة موسى عليه السلام أَو إبراهيمَ عليه السلام في مواجهة تلك القوه الهائلة وذلك الجبروت الكبير، وكذلك مَن ينظُرْ إلى سيرة ذي القرنين يجدْ أنّ الاعتمادَ على النفس والتَّـوَكُّـلَ على الله توأمان، أمكن بهما تحقيقُ تلكم الإنجازات الكبرى؛ ولذا لا بد للمتوكل على الله أن يسيرَ وفق المنهج الإلهي، مع الأخذ بالأسباب الطبيعة الموصلة إلى النتائج؛ ولذا نجد أنّ القُــرْآن الكريم أشار مفصِحاً وموضحاً لهذه النقطة بالذات من خلال قوله تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} فهذه الآية هي من غُرر وروائع القُــرْآن الكريم، حَيْثُ نلاحِظُ في هذه الآية أنّ القُــرْآنَ يأمُرُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كشرحٍ لمنهج رباني عام أن يستشيرَ ذوي الخبرة والاختصاص في المجالات المتعددة كي يسير على وفق ما توصل إليه من الاستشارة، مع أننا نعتقدُ أنّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم هو الأعلمُ والأفضل والأكمل ولا يحتاج إلى أحدٍ سوى الله تعالى، كما أن الله تعالى يريد من ذلك أن يُؤسّسَ منهجاً ربانياً في القُــرْآن الكريم من خلاله يبلور هذا المفهوم العام؛ لأَنَّ المسار العام للإنْسَان الإلهي لا بد أن يكون على وفق الاستفادة من الآخرين في تخصصاتهم وحقولهم العلمية المختلفة، وبالتالي على الإنْسَان قبل أن يصلَ إلى المراحل الأخيرة والنهائية للعزم أن يستشير، كما أنه إذَا وصل إلى مرحلة العزم والجزم والجزء الأخير من العلة النهائية ـ كما يُعبر عن ذلك العلماء ـ لا يكتفي بذلك وحدَه، بل يحتاجُ أن يَقرُنَ ذلك بالتَّـوَكُّـل على الله فالآية عندما تقول {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} فلا يعني ذلك أنّ الإنْسَان يستشيرُ أيَّ شخص حتى لو كان لا يملك تجربةً أَو لا يحمل اختصاصاً، بل الاستشارة تكون لذوي الخبرة وأصحاب الاختصاص، ولكنه مع ذلك لا يركن إلى الأسباب الظاهرية وحدها من دون أن يعتقد أنّ الله تعالى بيده جميع الأسباب وهو مسبب الأسباب.
إن الحديثَ عن التَّـوَكُّـل يقود بالتأكيد إلى الحديث عن المسؤولية فالعلاقة بين التَّـوَكُّـل كعقيدة تفويض الأمر إليه وبين المسؤولية الإنْسَانية كتكليف بالسعي وبذل الجهد هي علاقة حتمية، ونظرة فاحصة متأملة في العقيدة والتشريع والمفاهيم الأَخْــلَاقية في الإسْـلَام تظهر لنا المسؤولية واضحة جلية بالنسبة للإنْسَان، فقد جاء في الحديث المروي عن الإمام زين العابدين أن أحد أصحابه قال: (جئته فقلت له: أدعُ اللهَ عز وجل لي في الرزق فقد التاثت عليّ أموري، فأجابني مسرعاً (لا، أخرج فأطلب)!، فهذا الحديثُ يستنكرُ طلبَ الرزق بلا سعي وبلا استعمال الأسباب والوسائل الطبيعية في تحصيل العيش وتوفير الحاجة كما ورد في الحديث القدسي (فيقول الله: عبدي ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب والضرب في الأرض بجوارح صحيحة).
إن التَّـوَكُّـلَ هو تتويجٌ لإيْمَــان الإنْسَان بالله وبجانبِ الاعتماد عليه والثقة به وهو من أفضلِ جوانب حياة الإنْسَان المتوكل الذي يريد أن يكون مطمئن البال وواثقا دائماً من نتيجة عمله ومتأكّـــداً من أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَــى- أعلمُ بالأمور من غيره.
ويكفي هنا أن نذكر حديث الإمام الصادق (ع) لإعطاء الصورة الشاملة لما يحمله التَّـوَكُّـل إلى المتوكل يقول: (إن الغنى والعز يجولان، فإذا ظفرا بموضع التَّـوَكُّـل أوطنا). وهكذا فَإنَّ المتوكل بالمعنى الكامل يعيشُ دائماً تحت ظل العناية الإلهية التي تحيط به وترعاه في جميع مساعيه الخيرة للحصول على أفضل وأكمل نتيجة والتي تنبع من إيْمَــان الإنْسَان بأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَــى- هو وحدَه العالم بالأمور.