باحثون: يمكن زراعة الذرة والقمح طوال العام الواحد لأكثرَ من موسم زراعي
تعدُّ مجموعةُ الحبوب عصبَ الاحتياج الغذائيّ لليمن، وذلك ما يدركُه ليس المختصون والباحثون في القطاع الزراعي فقط، بل شريحة كبيرة من المجتمع اليمني ويتجلى ذلك من خلال تخصيص القدر الأكبر من المساحة المزروعة لمحاصيل الحبوب بأنواعها، على الأقل في المراحل الماضية وحتى نهاية سبعينيات القرن الماضي وقبيل أن تشهدَ البلادُ في العقود التالية تراجعاً كبيراً في زراعة محاصيل الحبوب المختلفة لدرجة بات معه اليمن يستورد كُــــلّ شيء، حتى الذرة وهي أحد المحاصيل المقدَّسة لدى اليمنيين والمشهور زراعتها والاعتماد عليها ضمن التركيبة الغذائية بل أَحياناً كانت هي الوجبةَ الغذائية الوحيدة مع اختلاف طريقة إعدادها للفطور والغداء والعشاء..
هذه الحلقةُ تتناولُ واقعَ إنتاج الحبوب في اليمن وأسباب التراجع، وُصُولاً إلى الفرص المتاحة وشروط النهوض أَو قُل الحلول المقترحة التي يمكن معها أن تصل معها البلاد إلى تغطية الاحتياجات الوطنية وتحقيق الأمن الغذائي في بعض المحاصيل من جهة والتصدير لأنواع أُخْــرَى من الحبوب كما يؤكّـــد ذلك المختصون بهذا القطاع والذين لم ينفكوا في المراحل الماضية من المناداة إلى النهوض بالقطاع الزراعي وتحرير الشعب من التبعية الغذائية..
بحث وإعداد عَبدالحميد الغرباني
التركيبةُ المحصوليةُ السائدة في اليمن..
على الرغم من القصور والتخلّف الإنتاجي ما تزال المحاصيلُ الحَبية تسيطر على أغلب المساحة المزروعة (نحو 57%) فيما أكثر من 3% للبقوليات وتستحوذ الفاكهة والخضروات والمحاصيل النقدية والاعلاف والقات مجتمعة على 40% من المساحة المزروعة، وذلك بحسب البيانات الرسمية التي توفرها كتب الإحصاء الزراعي الصادرة عن وزارة الزراعة والري وقبيل العدوان على اليمن، وضمن محاصيل الحبوب تشكل الذرة الرفيعة والدخن الجزء الأكبر منها إضَافَة إلى الذرة الشامية ويأتي أخيرا القمح والعدس والعتر وَ… إلخ (البقوليات)..
تفيدُ البياناتُ الرسمية الصادرة عن وزارتَي الزراعة والري والتخطيط والتعاون الدولي، أن إنتاج الحبوب في اليمن تراجع بنسبة 130% بين عامي 2012 و2017 م وَيعد الاعتماد على الذات في إنتاج القمح من أهمّ التحديات التي تواجه اليمن، إذ شكلت واردات القمح المرتبة الأولى بين أهمّ ثلاثين سلعة مستوردة عام 2016 بفاتورة استيراد مرعبة تؤرق الاقتصاد الوطني والعملة الوطنية بعد أن تجاوزت 700 مليون دولار سنويا، وهو ما يجعل من تقليص استهلاكه وزيادة إنتاجه ضرورة وطنية..
فرصُ ومتطلباتُ زيادة إنتاج الحبوب والبقوليات
اليمنُ هبةُ السماء ودُرَّةُ الأرض الفريدة بخصب تربها والسعيدة بتنوع مناخها اللذين يوفران معاً إمْكَانية زراعة عدد من المحاصيل الحبية، ومنها الذرة والقمح طوال العام الواحد ولأكثرَ من موسم زراعي.. يقول الدكتور حسان الخولاني:
(في ضوء الموارد الطبيعية لليمن نحن فقط بحاجة إلى انتهاج سياسة زراعية تعتمد على التوسع في زراعة الحبوب، وأقول لك وبثقة كاملة لو تم ذلك سنتمكّن من التصدير وليس فقط نغطي احتياجاتنا)، وَيتابع الخولاني (من المعيب جداً أن نصل لدرجة استيراد الذرة الرفيعة والشامية والبقوليات بشكل عام، فالذرة الرفيعة من المحاصيل الرئيسية في اليمن وتدخل في معظم الوجبات ونحتاج فقط إلى وضع خطط تشجع المزارعين للعودة إلى زراعتها في القيعان والأودية والمدرجات الزراعية)..
الباحثُ الزراعي صالح مثنى يؤكّـــد (أن المزارع والفلاح اليمني اعتمد طرقاً متقدمة في إنتاج الحبوب والبقوليات عن طريق ما يُعرَفُ بالدورة الزراعية المتتابعة أَو القياض والصراب)، ويضيف مثنى أن هذه الطرق تفتح الباب واسعاً أمام زيادة الإنتاج، (توصل الباحثون إلى أن توسيع زراعة محاصيل البقوليات في الموسم الشتوي يكسب التربة خصوبة زائدة؛ بسَببِ قدرة محاصيل البقوليات على تثبيت الأزوت أَو النيتروجين الجوي في الأرض، وهو ما يزيد خصوبة التربة ويعفي المزارعين عن الكثير من الأسمدة)..
غير ذلك -كما تفيد بحوث زراعية رسمية- أن هذا النمط من الزراعة يمكن التوسع فيها في مختلف مناطق الزراعة في اليمن من المرتفعات الجنوبية إلى الشمالية والوسطى.. يؤكّـــد الباحث صالح مثنى (في زراعة البقوليات، الفول والعدس والبازلا وغيرها لدينا أصنافٌ مجرَّبة وتحتاج إلى ثلاثة أشهر ولا تحتاج إلى ري عالي وتم تجريبُها وأطلقت في المرتفعات وكان إنتاجها عالياً ومتميزاً)..
وبخصوص القمح تتوفر لليمن آفاقٌ لافتة في زراعة هذا المحصول، يقول الباحث صالح مثنى (محصول القمح (البر) مثلاً يزرع في اليمن على مدار العام هذا غير موجود في أي مكان من العالم.. تلاحظ أن الدورةَ الزراعية تنتهي في مأرب والجوف في أغسطس وفي يناير تبدأ العروة الشتوية في الضالع وذمار والموسم الصيفي في صنعاء وَالمحويت وهكذا يستمر زراعة القمح على مدار العام الكامل).
ولشرح أهميّة هذا الأمر وما يمكن أن يلعبَه في صعيد النهوض بالقطاع الزراعي يؤكّـــد الباحث مثنى أن هذه الخاصية التي لا تتوفر في الكثير من البلدان الأوروبية مطلقاً (تعطي اليمن ميزة القدرة على تأمين الغذاء بنفسه)..
أمرٌ آخر هي البذور المحسّنة التي قد تغير بشكل كبير مستويات الإنتاج، فضلاً عن وجود صنف من البذور يمكن زراعته في أيٍّ من مناطق اليمن مع اقتصار حاجته لسقي السماء مرتين فقط بحسب الباحث مثنى (لدينا أصناف محسنة.. بحوث 13 وبحوث 3 وبحوث 37، صنف مطري يحتاج إلى ريتين في الموسم الزراعي ويمكن زراعته في أية منطقة في الجمهورية اليمنية وإنتاجها وفير، كما لاحظنا في مشروع تعز الأمن الغذائي وصل الإنتاج في المتوسط إلى أربعة أطنان)..
وترتبط آفاقُ إنتاج هذا المحصول الاستراتيجي أَيْضاً بالاستغلال الأمثل للمناطق الزراعية الأهم في بلاد السعيدة، محافظاتُ الجوف وسيئون وذمار وإب وعمران وصعدة وبحسب مدير مزرعة قاع شرعة عَبدالحكيم عَبدالمغني (هناك مساحات شاسعة وغير متقطعة وقابلة لزراعة القمح في اليمن وأحواض مائية كبيرة، كما في سيئون والجوف وغيرها واستغلالها سيغطي نسبة كبيرة من احتياج اليمن لهذا المحصول)..
الدكتور حسان الخولاني في هذا السياق يعزز حديثَ من سبقه من الباحثين ويرى (أن رفع مستوى إنتاج القمح في بلادنا في متناول اليد وبالاعتماد أوَّلاً على زراعة المناطق القابلة لزراعة القمح وثانياً على الاصناف المحسنة، فعلى سبيل المثال لدينا أصناف عالية الإنتاج يصل إنتاجها إلى 4 أطنان ومن المساحة نفسها التي قد تزرع بأصناف غير محسنة)..
النهوض في إنتاج الحبوب يبدأ مع الخلاص من السياسات التي أخضعت البلادَ لعملية تنمية معكوسة وَالتزام الدولة في المرحلة الراهنة بالاستثمار في هذا المحصول الاستراتيجي وتخصيص جمعيات واتّحادات أَو تعاونيات تختص بتوسيع رقعة زراعة الحبوب خُصُوصاً الذرة بأنواعها والقمح وتحسين نظم الإنتاج وتخصيص رأس مال لها وعلى أساس أن يسهم المزارعون في ذلك، الدكتور عَبدالواحد سيف وهو أحد القامات البحثية في الهيئة العامة للبحوث والإرشاد الزراعي يرى في ورقة بحثية له أن زيادة إنتاج الحبوب (يستلزم من الدولة أن تكيف السياسة للقضاء على أي تحيز ضد تسويق منتجات الحبوب المحلية ودعم المزارعين في الطبقة الريفية وتحسين نظم الإنتاج الخَاصَّـة بهم للاستفادة من مزاياها).
ويؤكّـــد الباحث سيف (اليمن غنية جداً بالتنوع المحصولي؛ لذلك هناك حاجة شديدة إلى دراسات تتعلق بالتوصيف المورفولوجي ودراسة الجودة للمحاصيل الرئيسية ومنها القمح والذرة الرفيعة، وُصُولاً إلى تطوير تقنية طحن الذرة الرفيعة والدخن والقمح لإنتاج الدقيق المركب وتحسين الجودة التغذوية لمنتج الذرة والقمح وزيادة إنتاجية محاصيل القمح والذرة الرفيعة من خلال التحسين الوراثي والممارسات الزراعية بما في ذلك الاستخدام السليم للبذور والأسمدة)..
الدكتور حسان الخولاني من جهته يؤكّـــد على ضرورة (الحد من انتشار القات خُصُوصاً في القيعان والأودية الشهيرة بالزراعة فما يزال سطو هذه النبتة على بعض القيعان الهامة متواصل كما هو حاصل في قاع جهران بذمار، وَهذه كارثة) ويتابع الخولاني: (نحن بحاجة أَيْضاً إلى تشجيع المزارعين على زراعة القمح بحيث تتوسع المروحة لدى المزارع ويتجاوزون مسألة الاكتفاء على ما يغطي احتياج الأسرة فقط، هذا لمن هم في مناطق قابلة لزراعة القمح وبالموازاة مع خفض نسبة الاحتياج من القمح، العودة للنمط الغذائي المتنوع بين الذرة والدخن والشعير وليس الاقتصار على القمح)..
في هذا السياق لا يمكن إغفال الإشارة إلى أن تنشيطَ الإنتاج المحلي لا يمكنُ أن يحصلَ دون توفير حمايته وحماية كاملة في ظل حركة الاستيراد التي تجعل الأفق مغلق تَمَاماً أمام المزارعين، خُصُوصاً مع احتكار ستة فقط من رجال المال والأعمال لاستيراد القمح، وهو ما يعني الحاجة القُصوى لتوجيه الاستثمار وراس المال الوطني نحو أنشطة زراعية إنتاجية..
أسبابُ تراجع إنتاج الحبوب والبقوليات..
لا شك أن العدوان على اليمن قد ضاعف من نسبة تراجع إنتاج الغذاء في اليمن لدرجة وصل معها الكثير من المزارعين إلى العجز عن زراعة حقولهم الزراعية بفعل انخفاض المدخلات الزراعية المختلفة وارتفاع كلفتها، بالإضَافَة إلى الأزمات المتعاقبة للوقود وكلفتها العالية والاستهداف المباشر للقطاع الزراعي أَيْضاً، غير ذلك وفي الوضع الطبيعي، أي قبيل العدوان على اليمن وبحسب المعلومات التي ينشرها المركز الوطني للمعلومات وبعض الدراسات الموثوقة، يرتبط تراجع إنتاج الحبوب والبقوليات بعدة أسباب تتركز في الآتي:
ــ السياسات الزراعية المحدودة الفعالية إنْ لم تكن منعدمة الفعالية..
ــ التغيرات المناخية المتوالية (ارتفاع درجة الحرارة، تذبذب كمية الهطول المطري
ـ تعتمد زراعة الحبوب وبدرجة رئيسية على الأمطار مما يؤدي إلى تذبذب مستوى الإنتاج..
ــ عزوف العديد من المزارعين المنتجين للحبوب عن زراعتها؛ بسَببِ تدني الجدوى من إنتاجها..
ــ ضعف الكادر الزراعي المؤهل وعدم إتباع خطة زراعية شاملة والافتقار إلى التنسيق والتخطيط في مجال البحوث الزراعية..
ــ الطفرة البترولية التي أَدَّت إلى طفرة اقتصادية في الدول المجاورة أَدَّت إلى اجتذاب أعداد كبيرة من الأيدي العاملة في الزراعة..
ــ ارتفاع تكاليف الإنتاج الناتجة عن ارتفاع تكاليف العمالة والمستلزمات والآلات الزراعية دون تغيير مماثل في الأسعار لهذه المنتجات..
ــ زيادة الاتّجاه إلى استبدال الحبوب بمحاصيل أُخْــرَى تُدِرُّ ربحاً أكثر والطلب عليها مرن مثل: القات والفواكه والخضروات..، وبالتزامن مع زيادة الاستهلاك من محاصيل الحبوب وهو ما يعمّق المشكلة الغذائيّة..
لقد قامت السياسةُ الزراعية على فرضية أن تضاريس اليمن الجبلية وأراضيه الجافة لا تصلح لإنتاج حبوب عالية الجودة، وخَاصَّـة القمح، وبنفس الأسعار المُنافسة في الأسواق العالمية فتقلّصت مساحة الزراعة المطرية إلى النصف وتركّز الاستثمار في الزراعة المروية بالتوازي مع نمو غير مسبوق للاستثمارات الخَاصَّـة والعامة في حفر الآبار والاستغلال المفرط للمياه الجوفية واستنزافها واحتكار سلطة صالح والاخوان ــ سياسة وعسكر ــ التوسّع في زراعة المحاصيل النقدية وبالتالي الاستفادة من ذلك مع أقلية من المزارعين الأثرياء ومن السياسيّين ورجال الأعمال المرتبطين بشبكة علاقات دولية مشبوهة ووسط زيادة تكاليف الإنتاج وانخفاض القيمة السوقية لمحاصيل الحبوب الأساسية (الذرة الشامية والشعير) مقارنة بأسعار القمح المستورد المدعوم وتوالت الهجرة من الريف إلى المدن ومن اليمن إلى دول الجوار وفي كُــــلّ مرحلة زمنية كان المزارعون اليمنيون يجدون أنفسَهم في حالة انكشاف مُدَوٍّ لا يقدرون على مواجهة تبعات السياسات القائمة للسلطة وشبكات النفوذ الدولي في وقت واحد..