أدب الحوار (1) الحوار وأثرُه في إقناع الآخرين .. بقلم/ أم مصطفى محمد
من الطبيعي أن يجدَ الإنْسَانُ نفسَه في هذه الحياة أمام مَن يختلف معه في الرأي، ومَن تتضاربُ مصالحُه مع مصالحه، فالناسُ يختلفون في آرائهم وأفكارهم وتوجّــهاتهم، وكُلُّ واحد من الناس يريدُ أن يحوزَ على أكبر قدرٍ ممكن من المكاسب في هذه الدنيا، مما يسبّب نوعاً من التضارب في المصالح بين الناس، فنجد أن البعضَ يستخدمُ أسلوبَ القُــوَّة والفرض فيلجأ للقُــوَّة حتى يفرضَ رأيَه، وبالطبع الفرضُ في المجال الفكري ومجالِ الرأي ليس صحيحاً وغيرَ ممكن، فكما أن لك عقلاً فإنَّ لغيرك عقلاً قد يختلف معك في التفكير؛ كَـون الله تعالى خلق الناس أحراراً في هذه الدنيا فلا يصحُّ لأحد أن يسعى لفرض رأيه على الآخرين حتى وإن كان معتقداً بأن رأيه حق، فكُلُّ واحدٍ يعتقد أن رأيه حق، وهذا الاعتقَاد لا يبرّر فرضَ الآراء على الآخرين، فالله سُبْحَانَـهُ وهو رَبُّ البشر لم يفرضْ على الناس الإيْمَــانَ به يقول تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وكذلك الأنبياءُ والرسلُ الذين يحملون رسالةَ الحَــقّ للناس من قبل الله تعالى لم يسمح لهم أن يفرضوا دعواتهم على الآخرين بالقُــوَّة وإنما دورهم يكمن في التبليغ (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ويقول أيضاً: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ).
فإذا كان الأنبياءُ والرسلُ لا يحقُّ لهم أن يفرضوا رأيَ الحَــقّ ورسالة الحَــقّ على الناس فهل يصح لأي واحد أن يقوم بهذا الدور؟ أما الأسلوبُ الثاني فيتمثل في التأثير على الآخرين عن طريق الحوار والإقناع وهذا هو الأسلوب الذي يأمر به القُــرْآن الكريم يقول تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) والحكمة من الإحكام وهي وضع الشيء في موضعه فحينما تريدُ أن تقنِعَ شخصاً فاختر الكلام المناسب والدليل المناسب وبالأسلوب المناسب، فالحكمة تعني مخاطبة العقل مع دليل وبرهان والموعظة الحسنة تعني: إثارة الوجدان والمشاعر الطيبة بحيث لا تكون الموعظة خشنة، وقد يكون لدى الطرف الآخر شبهة فكن مستعداً واستقبل رأيه وتناقش معه فهذا هو هدي السماء وتوجيهه بأن تتناقش وتتجادل معه بأفضل أسلوب وأحسن خطاب (وجادلهم بالتي هي أحسن) ولعلنا نرى وخَاصَّـة في هذا العصر أن المجتمعات المتقدمة قطعت شوطاً في النضج في تعاملها الداخلي مع مشاكلها الفكرية والسياسيّة وفي المصالح المختلفة فهم يختلفون ولكن يتناقشون ويتحاورون ويصلون إلى حل وسط ويتعايشون مع اختلافاتهم المتنوعة وفي مختلف الميادين والأبعاد، لكن مع الأسف في مجتمعنا الإسْلَامي، هذا المجتمع الذي كان يجب أن يكون نموذجاً في علاقاته الداخلية بنص القُــرْآن الكريم (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَر) نجد واقعنا لا يعكس تلك الصورة المشرقة التي يريدها لنا القُــرْآن الكريم ولذا تجد مجتمعاتنا تعيش أزمات متعددة على هذا الصعيد، وهذه الأزمات على نوعين: أزمات متفجرة، وأُخْــرَى نار تحت الرماد يُمكن أن تتفجر في أي يوم؛ لأَنَّنا لا نسلك طريق الحوار، وهذا قد يكون من تأثير العصبية الجاهلية بعكس الهدي الإسْلَامي الذي ربّى هذه الأُمَّــة عبر الهدى القُــرْآني والنبوي والذي من أبرز معالمه: التسامح وَالاحترام المتبادل والتعاطف، ولكننا نجد أن رواسب العصبية الجاهلية لم تتلاشى ففي بعض الأحيان تحصل فتن ومشاكل وصراعات دون مبرّر وسبب.
إن أمتَنا اليومَ تعيشُ المشكلةَ المذهبية الطائفية والتي يرادُ تفجيرَها في الأُمَّــة في هذا الوقت العصيب ولو كانت المسألة بيد العقلاء لهان الأمر كثيراً إلا أن الساحة متروكة للمتطرفين وللمتشنجين إضَــافَة لوجود إرادات مصلحية وَسياسيّة تريد أن تفجر أوضاع الأُمَّــة وتشغل الأُمَّــة بهذه المشكلة وإلاّ فإن المذاهب ليس جديدة والاختلاف المذهبي أمر تأريخي منذ أربعة عشر قرناً فهنا تكمن أهميّة الحوار والتقارب فلماذا التباعد؟ ولماذا الاتهامات؟ ولماذا نترك الفرصة للأعداء ليستفيدوا من هذه الخلافات على حساب مصالحنا وكرامتنا وحريتنا ومستقبلنا؟ فما أحوجنا إلى الأصوات التي تتحدث بصوت العقل والمنطق حتى نعالج الأمور بالحوار وليس بالتهييج ولا بالتهريج ولا بالتعبئة، وعلينا أن نعيَ الأمرَ جيداً فإلى أين ستصل بنا هذه التعبئة والتعبئة المضادة؟ نحن أبناء وطن واحد، وكلنا في قارب واحد وبلادنا محسودة من الأعداء، فلماذا نعطي الفرصة للأعداء؟ والمشكلة الكبرى أن آثار التعبئة تظهر على حياة المواطنين وعلاقاتهم مع بعضهم وذلك عندما يلتقي أبناء الوطن في مختلف الأماكن كالدوائر الحكومية والجامعات والمدارس والأماكن العامة، وهذا خطرٌ كبير يجب علينا أن نُجنّب بلادنا منه.