أدب الحوار (2) الحوار الطريق السوي في مسار البحث عن الحقيقة .. بقلم/ أم مصطفى محمد
إن الحوارَ يحتاجُ من الإنْسَانِ أن يدخُلَ إلى قلوب الآخرين؛ ولكي يتمكّنَ الإنْسَانُ من ذلك لا بـُـدَّ وَأن يفتحَ قلبَه للآخرين وذلك بأن يحاورَ الآخرين بروح الحب وليس بروح الحقد، يقول الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) ويقول أيضاً (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، كما نجدُ أن عدمَ اتهام دوافع الطرف الآخر الذي يختلف معه في الرأي أَو في الموقف من أهمّ الأسباب لنجاح الحوار فالدوافع مسألة قلبية لا يمكن اكتشافها بسهولة، فمثلاً الصحة والخطأ مسألة تخضع لشروط موضوعية يمكن إدراكها، أما الدوافع فأمر لا يمكن التعرف عليه بسهولة، فإذا اختلف معك إنْسَانٌ فمن حقك أن تقولَ له إن رأيك خطأ -لو اقتنعت فعلاً بخطأ رأيه- وليس من حقك أن تتسرعَ فتتهم دوافعه.
إن مشكلةَ الكثيرين أنهم لا يطيقون أن يجدوا من يخالفهم في الرأي فيسارعون إلى اتهام الآخرين الذين يخالفونهم في الرأي أَو في الموقف، تصوروا كم كان موقف الخوارج قاسياً ومتشدّداً ضد أمير المؤمنين عليه السلام حتى بلغ بهم الأمر إلى أن كفّروا علي بن أبي طالب عليه السلام، وَرغم ذلك نجدُ أن الإمامَ علياً عليه السلام لم يحاربهم إلا بعد أن أحدثوا فساداً في الأرض، فأسمعوا علياً عليه السّلام ماذا يقول في حَــقّ الخوارج الذين كفّروه (لا تحاربوا الخوارج من بعدي فليس من طلب الحَــقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه)، فهذا الكلام من أمير المؤمنين علي عليه السّلام بيّن موقفَ الخوارج وَموقف معاوية، فالخوارجُ كانوا يطلبون الحَــقَّ ولكنهم أخطأوا الطريق، أمّا معاوية فكان يطلبُ الباطلَ وقد أصابه، فالإمامُ لم يتهم الخوارجَ وإن حاربوه وخالفوه وكفّروه، نعم خطّأ موقفهم وفرّق بين تخطئة الموقف وَبين اتهام الدوافع، وأمّا معاوية فكان الإمام على بصيرة تامة أنّه كان يطلُبُ الباطلَ ويتحَــرّكُ من أجل الباطل.
وهنا يجب علينا أن نتعلمَ من هذا درساً كبيراً، فالذين يختلفون معنا في الرأي وفي الموقف فإن حصلت لدينا القناعةُ بخطئهم في الرأي أَو في الموقف فمن حقنا أن نُخَطِّأَهم ولكن ليس من حقنا أن نتهم دوافعهم إلا إذَا توفّرت الأدلة الكافية على ذلك، فالقاعدة الإسْلَامية تأمرنا أن نحملَ فعل المؤمن على الصحة، فالأحاديث تقول: أحمل فعلَ أخيك على سبعين محملاً، يقول أمير المؤمنين عليه السلام (ضع أمرَ أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، لا تظننَّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً) وفي حديث آخر (مَن عرف من أخيه وثيقةَ دين وسداد طريق فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال) فهذه التوجيهات لا تلغي ضرورةَ الحذر من (محاولات الاختراق)، فقد يقتحم الأوساطَ المؤمنة أناسٌ يتمظهرون بمظهر الدين والصلاح والالتزام وهم يحاولون الإساءة والكيد للمؤمنين وللدين، فيجب أن يمتلكَ المؤمنون الوعيَ والبصيرة في رصد كُلّ العناصر المشبوهة إذَا قامت القرائن الكبيرة التي توجب الشك، ومع التأكيد – مرة أُخْــرَى – أن لا يتسرعوا في الاتهام وأن لا يرتجلوا التقويم والمحاسبة فقد هيمن على الكثير من الناسٍ حب الطعن والاتهام..
كما يجب على الإنْسَان المحاورِ أن لا يلغيَ الآخرَ الذي يختلفُ معه في الرأي وفي الموقف، وعليه أن يتعاطى معه بشفافية (إننا على صواب يحتمل الخطأ، وَالآخر على خطأ يحتمل الصواب). فيجب أن لا نعتبرَ الصوابية المطلقة في جانبنا، والخطأية المطلقة في الجانب الآخر، بل نضع احتمالَ الخطأ عندنا ولو بنسبة واحد في المئة، واحتمال الصواب في الجانب الآخر ولو بنسبة واحد في المائة، فهذا يخفّفُ من غَلْوَاءِ الموقف ويخلق الانفتاح على الآخر، وهذا الأمر هو ما توصّل إليه منطقُ الحوار وشفافية الحوار في هذا العصر، أمّا المنهجُ الإسْلَامي في الحوار فقد تجاوز ذلك بكثير.. لنقرأ هذا النصَّ القُــرْآني (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)، فالنبي الأكرمُ صلى الله عليه وآله وهو يمثّلُ الحَــقَّ كُلَّ الحَــقّ، والآخرُ يمثلُ الباطلَ كُلَّ الباطل، ولم يكن النبيُّ صلى الله عليه وآله شاكّاً فيما لديه إلا أنّه صلى الله عليه وآله وهو يمارس الحوارَ يضعُ نفسَه وَالطرف الآخر على حَــدٍّ سواءٍ في مسار البحث عن الحقيقة؛ ولذلك نجدُ أهلَ البيت عليهم السلام قد مثّلوا المنهج السليم في الدعوة والحوار والمنبثق من كتاب الله عز وجل خيرَ تمثيل.