في ورقة عمل خلال ندوة نظمها مركز الدراسات السياسيّة والاستراتيجية اليمني في ذكرى استشهاده:
محمد صالح النعيمي*
بسم اللهِ الرحمنِ الرحيم.. والصلاةُ والسلامُ على رسول الله وسُبْحَانَ الله القائل في محكمِ كتابِه الكريم: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) صدق اللهُ العظيم.
من هنا تبدأ القصةُ لوصف القُــرْآن الكريم (أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ)، ميّز القُــرْآنُ هذا الشعبَ بأنهم أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ، ومن هنا تبدأ القصة التي سيشرحها التأريخُ بما حصل في هذا الزمان وما سطره الشعب اليمني من صبر وثبات وانتصار الصابرين والصامدين في وجه عدوان وحصار شبه عالمي تفوده دول تمتلك أرقى ما أنتجه العقلَ البشري من تكنلوجيا عسكريّة وأضخمها صناعة، إضَافَة إلى ذلك أغنى الدول البترولية في العالم تقود هذا العدوان السعوديّة والإمارات وأمريكا وبريطانيا والدولة الصهيونية والمرتزِقة من الشعب اليمني.
وقف الشعب اليمني بجيشه ولجانه الشعبيّة أمام هذه الدول وجيوشها ومرتزِقتها من شتى بقاع العالم بسلاحه الفردي والمتواضع يقود التصدي للعدوان الجيش واللجان الشعبيّة وتفاعل قبائله اليمنية وكافة شرائح المجتمع اليمني العظيم، من هنا أنتج الصمود والثبات لشعب محاصر، شعبٌ موظفوه يعملون بلا راتب لمدة خمس سنوات، شعبٌ يتعرض منه الآلاف من الأطفال والمرضى للموت؛ لعدم توفر الأدوية نتيجة الحصار الظالم من قبل العدوان للمطارات والموانئ.
اليوم أيها السادة كلامنا في الذكرى الأولى عن رئيس الشهداء صالح الصمّـاد رئيس الجمهورية اليمنية، نقول عندما يرحل العظماء تنفطر لذهابهم القلوب، لكونهم رموز الأُمَّــة، وصمام أمن قيمها ومبادئها التي ترتقي بها إلى مصاف الأُمَــم الخالدة ذات الإسهامات الكبرى في حياة البشرية. لا نرثي اليوم رجلاً عادياً أَو شخصاً عابراً بل نرثي أحد رموز الوطن.. نقف اليوم بمشاعر عميقة تشتعل فيها الحسرة والألم في موقع رثاء رجل بأمة.. رجل تقدم في قيادة شعبه لمواجهة تحالف العدوان على شعبه، عمل الرئيس الشهيد ليلَ نهارَ؛ لخدمة شعبة وتعزيز صمود وثبات جبهات المواجهة نتيجة التآمر على اليمن، في زمن التبعية والهوان والردة عن المبادئ الناصعة والمعاني الرفيعة. “الصمّـاد واحد من العظماء الذين أنجبهم الشعب اليمني العظيم في القرن العشرين، ووهبهم اللهُ شمائلَ وصفاتٍ نبيلةً وبقدرات وطاقات متميزة.
رجلُ المرحلة الاستثنائي:
الشهيد الصمّـاد رجل ليس ككل الرجال، ورمز ليس ككل الرموز، فما تركه الرجل الفذّ في حياته الجهادية التي تتقاطر من صفحاته المضيئة كُـــلّ صور العطاء والفداء والثبات، يضعه -حتماً ودون جدال- في المرتبة الأسمى التي يتميز بها الشهداء بالغو التفرد والتميز بجهادهم واستشهادهم؛ دفاعاً عن وطنهم وسيادته واستقلال قراره، ربما لا يعرف الكثيرون سيرة حياة الصمّـاد الذي شكل نموذجاً للإصرار والمواجهة والتحدي في كُـــلّ الميادين وفي مختلف الأوقات، أَو يدركون بعضاً من العناوين العريضة التي بزغت في مرحلة ما من مراحل حياة الرجل.
لقد مثّل الشهيدُ صالح الصمّـاد مدرسةً جهادية كبرى متكاملة الأبعاد والزوايا، وموسوعة سياسيّة شاملة المناقب طبعت بصماتها المؤثرة في كُـــلّ مكان، وتركت آثارها العميقة في حياة الشعب اليمني جمعاء، لا تنبُعُ أهميّةُ ودورُ ومكانة الشهيد صالح الصمّـاد فقط من موقعه الهام الذي تقلده كرئيس للمجلس السياسيّ الأعلى للجمهورية اليمنية في فترة تأريخية حرجة من عمر اليمن وظروفه الداخلية التي حاولوا مرتزِقة العدوان الاستعلاء على كُـــلّ مفردات قيم المجتمع، بل إن الشهيد صالح الصمّـاد اكتسب أهميته ومكانته أكثر ما يكون كقائد يتصدى للطغيان الدولي وأدوات ووسائل عدوانه العسكريّ والسياسيّ والاقتصادي استخدم في عدوانهم الحصار جواً وبحراً وبراً.
فالشهيد قاد الشراكة السياسيّة والتوافق باقتدار وامتياز ويملك من خلال منهج المسيرة القُــرْآنية رؤىً وحلولاً ومشروعاً حضارياً تتجاوز عناصره ومكوّناته وتأثيراته اليمن إلى آفاق العالمين العربي والإسْـلَامي.
التجربةُ الفريدة من نوعها:
تجربةُ الشهيد صالح الصمّـاد ليست كأية تجربة.. إنها تجربة فريدة واجهت مصاعبَ وعقباتٍ لا حصر لها، جسّدت حياة الشهيد كُـــلّ أشكال القُـــوَّة والعزم والصبر والثبات والصمود في وجه محن العدوان وما فرض من تحديات، فما إن يحارب في اتّجاه حتى ينشط ويجتهد في اتّجاه آخر دون كلل أَو ملل.. وهكذا في متوالية رائعة من الإصرار العجيب الذي تفاعل بين ضلوع شخصية فريدة لا تأبه بالباطل وانتفاخ كيانه الهش وجبروت سلاحه المتطور أمام المقاتل اليمني العظيم التي نسجت واصهرت بها حياة الشهيد التي لا تقتصر على المواقف الصلبة والقدرات السياسيّة التوافقية الباهرة، بل إن رجلاً امتلك مرونةً دبلوماسيةً مدهشةً صقلتها المحن والخطوب والتجارب والخبرات، ليشكل شخصية بديعة ذات ملامح ومكوّنات متكاملة تُوّجت بكاريزما ذاتية وحضور لافت لا يختلف في جدارتها وأهليتها أحد. (من الصعب رثاء قامة كبرى كقامة الشهيد صالح الصمّـاد الذي قدم حياته في إعلاء شأن شعبه وأمته).
نتحدث اليوم عن علاقة عضوية عقدية مصيرية لا انفصام لها، وحالة من حالات التجذر العميق في الوعي الفكري والثقافي والسياسيّ الذي يتأسس على رؤية شمولية ذات آفاق رحبة تدرك أبعاد الصراع وحقيقة العدوان السعوديّ الأمريكي الصهيوني ومُخَطّطاتهم وأن من يتصدى يجب أن يعطي بلا حدود من لحمه ودمه ووقته وراحته، وألا يخفض سقف تضحياته وعطاءاته مهما بلغ الثمن ومهما كانت الظروف. لم تصرفه تحديات الواقع اليمني القاسية يومًا عنه، رغم كثافة التشابكات والتعقيدات التي لفّت الحياة السياسيّة اليمنية المُبتلاة بفجور العدوان.
فارتكزت استراتيجيته على استنهاض وتعزيز صمود وثبات الجبهات العسكريّة ورفدها بمتطلباتها من الرجال والعتاد العسكريّ مما تجسد ذلك في روحه وعقله ووجدانه، فكان سندا وداعما وظهيرا ونصيرا أينما حَــلّ أَو ارتحل جعل صمود وثبات الجبهات العسكريّة، لحنا شديّا تعزف حروفه وتطرب لأنغامه كافة قطاعات وشرائح الشعب اليمني.
وكم كانت الفرحة والحبور والاستبشار تغزو أفئدتنا مع كُـــلّ تقدم أَو نصر يحرزه ويظفر به الجيش واللجان الشعبيّة، ومع كُـــلّ فكرة يطلقها الشهيد لتوحيد الجبهة الداخلية وتعزيز دورها وكيانها، ومع كُـــلّ موقف يصدح به في وجه دول العدوان الذي أرعبها نشاطه ومواقفة وإدارَة مواجهته للعدوان والتصدي له وزرع بذرة النهوض بالإرادَة الجمعية للشعب اليمني بالمفهوم الحقيقي وليس بالمفهوم الملوث بأدران الكذب والخداع والتضليل، التي اعتمدت عليه دول العوان ومرتزِقتهم.
الصمّــاد ثمرة الشهيد القائد الذي أنشأ المجاهدين النبلاء:
السادة الكرام لقد تخرج على يد الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي أجيالاً من القادة النجباء والمجاهدين النبلاء الذين رفعوا راية العزة والكرامة والحرية عاليا، وحملوا على أكتافهم مهمة التصدي للعدوان وإعادَة بناء الدولة اليمنية الحديثة واستنهاض الحضارة والحرية ومقاوماً لآفات التعصب التكفيري الوهابي البغيض التي جعلت منه أمريكا والصهيونية السعوديّة إلى وسيلة لتدمير الدول العربية وأخضعها لمشروعهم التكفيري والتدميري للأُمَّــة في المنطقة -حاضرا ومستقبلا وتشكل كيانا- لأجندة غربية صهيونية.
السادة الكرام ما قدمه الشعب اليمني من مقاومة وصمود افرز عطاء شهدائه جسوراً تعبر به لروح المقاومة والممانعة، وإرساء دورها الريادي والطليعي وقيمها على مستوى الأُمَّــة العربية والإسْـلَامية.
الرئيس الشهيد صالح الصمّـاد يشكل مثلاً رائعاً ونموذجاً حضارياً رائداً لجيل القادة العظماء الذين أنجبتهم المسيرة القُــرْآنية منهم من استشهد ومنهم في ساحات الوغى متصديين للعدوان، فضلاً عن الكثير والكثير من القادة المجاهدين الذين لا يعرفهم الناس ولا تتصدر صورهم وسائل الإعلام. “استشهد الرئيس الشهيد صالح الصمّـاد وهو في جبهة الساحل وهو يحشد ويقود التصدي والدفاع عن الحديدة عروسة البحر الأحمر.
غاب ورفاقه عن مشهد الحياة وانطوت صفحةُ أجسادهم، لكن جهاده ونضاله الذي زرعه في الشعب اليمني وكافة أرجاء وربوع الأُمَّــة ما زال متأججاً يافعاً يحمل الراية ويقود المسيرة.
الخسارةُ الكبرى على اليمن واليمنيين:
نعم (خسرت اليمن وشعوب الأُمَّــة العربية والإسْـلَامية الكثير لخسارتها أعظم شهداءها الشهيد صالح الصمّـاد، وفقدت رمزاً من أوفى وأصلب وأكبر وأعظم رموزها في العصر الحديث.. رمزاً سيشهد له التأريخ في أسفاره المعاصرة بفضل السبق في انتصار الشعب اليمني الأعزل مقارنة بما تستخدمه جيوش العدوان من أسلحة متطورة، وبهذا الصمود ستتغير وجهة اليمن والمشهد الثقافي والسياسيّ له ومساره الحضاري والإنْسَــاني، وإعادته إلى صدارة قاطر الحياة من جديد بعدما أقحِمت قسراً في غيابات الموت والارتكاس الروحي عقوداً من الزمن، وإعادَة برمجة موقعه الطبيعي وبوصلته الحية في أحضان أمتها العربية والإسْـلَامية إثر عقود سوداء من الضياع السياسيّ والحضاري واللهث وراء السراب. إذَا ما أردت التعرف – بحق- على إنجَازات الشهداء، فما عليك إلا تفحّص اليمن ومقارنة واقعهم ماضياً وحاضراً، ومعاينة الثمار اليانعة التي نضجت في بستان جهادهم العامرة.
الشهيدُ لم يعرفْ يوماً معنى التردد والتراجع أَو الخور والانكسار. ونهل من معين تجربته الممتدة ورحيق خبرته الواسعة الذي لا ينضب، وها هي تقود الدولة اليمنية بكل جدارة واقتدار، وتضعها في مكانها اللائق بين الأُمَــم والشعوب.
في الحقيقة انني أكن لشخص (الشهيد صالح الصمّـاد) الكثير من الاحترام والتقدير، مثمناً حفيظته المعرفية وما عرف عنه من دقته وصرامته وشجاعته في إبداء الرأي وهو ما أكسبه احترام كُـــلّ من عرفه وحتى مبغضه.
جانبٌ من صفات الرئيس الشهيد:
(الشهيد صالح الصمّـاد) وقور، شهم، متواضع متخلق وصادق، إنْسَــان «إنْسَــان»، مجاهداً مثابراً، لا أقول هذا من باب المجاملة، بل هي الحقيقة والشهادة التي أعطاها فيه كُـــلّ من التقى به، حقاً هناك بعض الأشخاص يفرضون عليك احترامهم فلا تجد حرجاً في أن تقول فيهم كلمة حَـقّ.. ووقفة إنصاف يستحقونها. إذ لا تستحق هذه الشخصية الوطنية الفذة إلّا الإشادة والشكر لما قدمه ويقدمه للوطن، لا أعتقد أنها مغالاة؛ لأَنَّ القاعدة الشرعية تقول من لا يشكر الناس لا يشكر الله ’ هو شخصية فذة واعية مفعمة بالإنْسَــانية والنبل ويملك فكراً عالياً حافظاً للقُــرْآن متمكّناً ملماً لعلومه ويمتلك قدرات متميزة في ترجمته كسلوك وفعل واتعاظاً وعبرة.
لقد كان لي كبير الحظ أن أعمل معه فرأيت رجلاً يفشي السلام بين الناس، والمهمات في تقديره أعمال يجب الانتهاء منها في حينها، وحين تتراكم الأعمال فنهاره يأخذ من ليله، وأُسرته تتنازل عن حقها تقديراً لطموحه وإخلاصه.. هؤلاء هم الرجال الذين تنهض بهم الأُمَــم.
لقد تعرفت على الرجل فعهدته جاداً في عمله باذلاً التضحية وأسباب النجاح في مسؤوليته، عندما يتحدَّث تحس بتفاعله مع الحدث، يراعي أحوال الناس، ويتكلم معهم بشفافية ووضوح.. يقترب من مشاكلهم ليكون العطاء منهم أكثر، وليحقّق باسمهم النفع والفائدة، حقاً يستحق هذا الرجل النموذج أن يُذكر اسمه وأفعاله في كُـــلّ مكان’ فلنقل جميعاً كلمة الحَــقّ في هذا الرجل الوفي لدينه ووطنه ومجتمعه، ولا شك عندي أن الشهيد صالح الصمّـاد من أولئك الرجال الأوفياء الذين حقّقوا بجهدهم وحرصهم طموح المجتمع وسعادة أفراده، فأنجزوا ما وعدوا، وسعوا إلى، حَيْثُ أرادوا.. فتحقّق لهم الهدف، ونالوا الغاية والشهادة، وسعدوا بحب المجتمع وتقديره.. هؤلاء الرجال لا يريدون بأعمالهم واستشهادهم جزاءً ولا شكوراً.. فُطِروا على بذل الخير، فوجدوا القبول والاحترام من أفراد المجتمع.
وعلينا أن لا نفرط في دعوته لبناء الدولة اليمنية الحديثة التي أنجزنا رؤيتها ودشّنا بالأمس تطبيقها. وأريد أن أسجل كلمة للتأريخ بصفتي أحدَ الفريق الذي كلفه الشهيد الصمّـاد ومن بعده كلفنا الرئيس مهدي المشّاط والمجلس السياسيّ الأعلى بعد استشهاد الصمّـاد بإعداد الرؤية فلولا دعم الرئيس المشّاط وقائد الثورة السيد عبدالملك الحوثي حفظهم الله لكان مصير الرؤية هو الفشل ولن ترى النور إلّا إذَا كانت ستولد مشوهةً ولكن بدعمهما وتأييدهما ورعايتهما ادعي أنها رؤيةٌ تحقّق أهدَاف وغايات وطموح وتضحيات الشعب اليمني في بناء دولته الحديثة تحت شعار (يدٌ تحمي ويدٌ تبني) رحم الله شهيدنا الرئيس الشهيد الصمّـاد وكل الشهداء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
* عضو المجلس السياسيّ الأعلى