كف الأذى (1) ظلمُ الآخرين ذنبٌ لا يُغفر .. بقلم/ أم مصطفى محمد
إن للدين الإسْــــلَامي مهمتين رئيسيتين في حياة الإنْسَــان.. أولاهما تتمثل في تنظيم علاقة الإنْسَــان مع ربه، بأن يتعرف على خالقه ويؤمن به وبوحدانيته ويلتزم بعبادته والخضوع له يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ)، والثانيةُ تتمثلُ بتنظيم علاقة الإنْسَــان مع أبناء جنسه، بحيث تكونُ قائمةً على العدل والاحترام المتبادل للحقوق يقول اللهُ تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، فعلاقة الإنْسَــان مع الناس قضية جوهرية من صميم الدين وهي ليست متروكةً لمزاج الإنْسَــان وأهوائه، فلست حُراً في أن تتعامل مع الآخرين كما تحب وتشاء بل أنت مقيدٌ بضوابط شرعية تلزمك بمراعاة حقوق الآخرين، واحترام مصالحهم المادية والمعنوية فإذا آمن الإنْسَــان بربه والتزم بأداء الواجبات العبادية لله من صلاة وصوم وحج وما شابه، فإن ذلك لا يحقّقُ له حالةَ التدين ولا يوفر فيه مصداقية العُبودية لله تعالى ما لم يقترن بحسن علاقته مع الناس وأدائه لحقوقهم، فكما أمرك الله تعالى بالصلاة والصيام وسائر العبادات، أمرك أيضاً بالعدل والإحسان والتعامل الصحيح مع المحيط الاجتماعي، ولا يصحُ لك أن تأخُذَ بجزء وتترك الجزء الآخر يقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، كما أن الإيْمَــانَ بالله وأداء الشعائر والعبادات، ثمرتُهما ونتيجتهما يجب أن تظهرَ وتنعكس على سلوك الإنْسَــان وتعامله مع الناس، وإلاّ فما جدوى ذلك الإيْمَــان الذي لا يردع عن الظلم؟ وما قيمة تلك العبادة التي لا تدفع إلى الخير؟
لقد جاء الدينُ الإسْــــلَامي برؤية تتمثل في أنه لا شيء أسوأ من أن يعتديَ الإنْسَــان على حقوق الآخرين أَو يسيء إليهم مادياً أَو معنوياً، فاللهُ تعالى قد يغفر للإنْسَــان إذا ما قصّر أَو أخطأ تجاه خالقه شرط التوحيد، حَيْــثُ يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، ولكنه تعالى لا يتساهل ولا يغفر للإنْسَــان تقصيره وخطأه تجاه الآخرين، ولقد صنف الإمام علي عليه السلام أنواع الظلم إلى ثلاثة أصناف، واعتبر أن ظلم الناس هو الظلم الأخطر بعد الشرك بالله تعالى، حَيْــثُ يقول «ألا وإن الظلمَ ثلاثة: فظلمٌ لا يُغفر، وظلم لا يُترك، وظلم مغفور لا يُطلب، فأما الظلم الذي لا يُغفر فالشرك بالله وأما الظلم الذي يُغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات، وأما الظلم الذي لا يُترك فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص هناك شديد»، ويقول في كلمة أُخْــرَى «من ظلم عبادَ الله كان اللهُ خصمَه دون عباده»، فإيذاء الإنْسَــان بجرح مشاعره أَو إهانة كرامته، أَو تشويه سُمعته، يُعتبر ظلماً لا يُترك، بل يُحاسَبُ عليه الإنْسَــان يوم القيامة حساباً عسيراً، فالإساءةُ إلى الغير قد تكون بكلمة أَو تكون بحركة وتصرف معين، فقد ورد أن رجلاً ثرياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان يلبس ثياباً أنيقة، فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جاء رجل فقير ثيابه رثّة قديمة، فجلس إلى جنب الثري، فقام الثري بحركة لفتت انتباه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حَيْــثُ قبض ولمّ ثيابه من تحت فخذيه حتى لا تلامسَ شيئاً من ثياب ذلك الفقير فقال الرسول «أخفت أن يمسك من فقره شيء؟» قال: لا، قال «فخفت أن يصيبه من غناك شيء؟» قال: لا، قال «فخفت أن يوسّخ ثيابك؟»، قال: لا، قال « فما حملك على ما صنعت؟»، فاعترف الرجل الثري بخطئه وأعتذر من الفقير باذلاً له نصف أمواله لكن الفقير رفض أن يأخذ منه شيئاً قائلاً: أخاف أن يدخلني ما دخلك) كما يروى أن سعــد بن معاذ كان صحابياً مجاهداً في سبيل الله حتى أصيب بجرح خطير في المعركة واستشهد بعد فترة من المعاناة والألم، وقد شهد الرسول في حقه حين عاده في مرضه قائلاً «اللهم إن سعداً قد جاهد في سبيلك، وصدق رسولك، وقضى الذي عليه، فتقّبل روحه بخير ما تقبلت به روحاً» (وعند وفاته شارك الرسول في تشييعه ودفنه، ومع هذه المكانة والمنزلة إلا أنه أصابته ضمّة -أي عصرة في قبره- على حَــدِّ قول رسول الله؛ لأَنَّه كان في خلقه مع أهله سوء)، فإيْمَــان سعد وجهاده وصحبته للرسول وشهادته في سبيل الله كُــــلّ ذلك لم يسقط عنه جزاء سوء أَخْــلَاقه مع أهله وعائلته.