كف الأذى (2) المنهجُ المحمدي الأصيل أروعُ المناهج في تشكيل وصياغة العلاقات الاجتماعية .. بقلم/ أم مصطفى محمد
من المعلومِ أن سيرةَ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأَخْــلَاقه العظيمة في تعامله مع الناس كانت بمثابة مدرسة يستلهم منها المسلمون أروع المناهج والبرامج في تشكيل وصياغة علاقاتهم الاجتماعية، ومن أهَــمّ تلك العلاقات الكفُّ عن أذية الآخرين، فمع عظيم قدره ومكانته، ومع موقعيته القيادية في مجتمعه نجده كان يتعامل مع جميع الفئات والأصناف بمنتهى الرقة والعطف وغاية التقدير والاحترام، فكان من صفاته أنه لا يقطّبُ وجهَه، وَإذَا قال إنْسَــان شيئاً يكرهه لم يجابهه بذلك بل كان يقول (ما بالُ أقوامٍ يصنعون كذا ويقولون كذا؟) فينهى عن الشيءِ بدون أن يسمّي فاعلَ الأمر، وكان يتفقدُ أصحابَه ويعطي كُــــلّ واحد من جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، ومن جالسه لحاجة صبر له حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أَو بميسور من القول وكان يقول: «ردوا السائل بشيء قليل، أَو بقول جميل» وقد روى بعض خدمه أنه قال: (خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لي: أُف قط، وما قال لشيء صنعته، لمَ صنعته؟ ولا لشيء تركته، لمَ تركته؟ وكان من عادته أنه يجيب الناس الذين ينادونه بأحسن جواب، فكان إذَا ناداه أحد قال له: «لبيك» وعن جرير بن عَبدالله قال: (ما حجبني رسول الله قط منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسّم) .
وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويُجلسهم في حجره، ويجيب دعوة من دعاه، ويعود المرضى حتى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر، ولا يرتفع على أحد حتى عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، وروى بعض أصحابه أنه إذَا فقد الرجل من أصحابه ثلاثة أَيَّـام سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده، وكان لا يدع أحداً يمشي معه إذَا كان راكباً حتى يحمله معه فإن أبى قال: (تقدم أمامي وأدركني في المكان الذي تريد) وكان يتعاون مع أصحابه كأنه أحدهم لا يترفع عليهم في قليل ولا كثير، فقد كان في سفر فأمر بإصلاح شاة فقال رجل: يا رسول الله عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخها، وقال آخر: عليّ طبخها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم «وعليّ جمع الحطب» فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك فقال «قد علمت أنكم تكفوني، ولكني أكره أن أتميّز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه» ثم قام فجمع الحطب).
وكان إذَا استمع إلى أحدٍ لا ينحي رأسَه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه، وكان إذَا أخذ بيده أحد لا يرسل يده حتى يرسل ذلك الإنْسَــان يده، وما قعد إلى رجل قط فقام حتى يقوم ذلك الرجل، ولم يُر مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له، وكان يبدأ من لقيه بالسلام حتى الأطفال والنساء، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، ويكرم من دخل عليه، وربما بسط إليه ثوبه ويؤثره بفراشه الذي تحته، ويكنّي أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثه، وقد روى سلمان الفارسي رضي الله عنه (دخلت على رسول الله وهو متكئ على وسادة، فألقاها إلى ثم قال: «يا سلمان ما من مسلم دخل على أخيه المسلم فيلقي له الوسادة إكراماً له إلا غفر الله له»، وَإذَا كان يصلي وجاء إليه أحد خفف صلاته حتى يفرغ منها مسرعاً ليسأله عن حاجته ثم يعود إلى صلاته.
وكان يؤتى بالصبي الصغير فيدعو له بالبركة أَو يسميه أَو يؤذن في أذنه فيأخذه فيضعه في حجره تكرمة لأهله، وربما بال الصبي عليه فيصيح عليه بعض من رآه حين بال فيقول «لا تزرموا بالصبي فيدعه حتى يقضي بولـه، ثم يفرغ له من دعائه أَو تسميته أَو أذانه، فيبلغ بذلك سرور أهله إلى ما شاء الله، حَيْــثُ يرون أنه لا يتأذى ببول صبيهم، فإذا انصرفوا غسل ثوبه» وكان إذَا جلس إليه أحد تزحزح له شيئاً، وذات مرة قال له رجل: يا رسول الله في المكان سعة، فقال «نعم لكن من حَــقّ المسلم على المسلم إذَا رآه يريد الجلوس أن يتزحزح له» كما جاء إعرابي فبال في جانب من المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي فلما قضى بوله أمر النبي بذنوب من ماء فأهريق عليه، وفي رواية قام إعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي: «دعوه وهريقوا على بوله سَجْلاً من ماء أَو ذنوباً من ماء فإنما بعثتم ميسِّرين ولم تبعثوا معسِّرين».
ومرّ ذات يوم بصبي فرآه حزيناً ولما سأله عن السبب قال: إن بلبله قد مات فعزاه وخفف عنه، إن هذه الصور تدل على حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على احترام الآخرين وعدم أذيتهم حتى لو كانوا في موضع الخطأ، حَيْــثُ نجده صلى الله عليه وآله وسلم يوجهم بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة.
والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا هل نحن ممن لا يعتدى على الآخرين قولاً أَو فعلاً؟ أم أننا ممن يؤذيهم وهو لا يُدرك ذلك؟ أم أن البعض منا يفهم أن الأذية لا تكون إلا عن طريق الضرب والسب وأخذ الحقوق ولا يُدرك أن الأذيةَ قد تكون عن طريق ضغطة زر يُنشر من خلالها منشور يضر بالآخرين وسُمعتهم!