كتمان السر (1) الدوافعُ وراءَ إذاعة أسرار الآخرين .. بقلم/ أم مصطفى محمد
يقولُ الله تعالى: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا).
تنتقدُ هذه الآية أناساً كانوا يفشون ويذيعون ما يسمعونه من أخبار السلم والحرب من دون الرجوع إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البصائر والدراية ممن يعتمد عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وَإنما جاء هذا الانتقادُ؛ نظراً للأثر السلبي الذي ينتجُ عن إفشاء هذه المعلومات، بالإضافة إلى الضرر الذي يلحق بالمسلمين من خلال ذلك، فنجدُ الآية تتحدثُ عن الإفشاء والإذاعة واللذين يأتيان بالمعنى المقابل للكتمان، ويدوران حولَ السرّ الذي لا يرضى صاحبُه بكشفه وإظهاره سواءً أكان قولاً أَو فعلاً أَو حالةً.
لقد دعا الإسْـــلَامُ في خطوطِه العريضة إلى إفشاء الخير والصلاح والسلام، فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: “أفشوا السلام، وأطيبوا الكلام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنّة بسلام”.
كما نجدُ أن الإسْـــلَامَ قد نهى في خطوطه العريضة عن إفشاء أسرار الناس وإذاعتها، فعن الإمامِ زين العابدين عليه السلام أنه قال: “إيّاك والإذاعةَ وطلبَ الرئاسة، فإنّهما يدعوان إلى الهلكة”، فإفشاء السر وإذاعتُه أعمُّ من كشف العيب، إذ السرُّ قد يكون عيباً وقد لا يكون بعيب، ولكننا نجد في إفشائه إيذاءً وإهانةً بحق الأصدقاء أَو غيرهم من المسلمين، ويُعد إفشاءُ السر من رذائل قوة الغضب إن كان منشأه العداوة، ومن رذائل قوة الشهوة إن كان منشأه تصور نفع مالي أَو مجرد اهتزاز النفس بذلك لخبائتها، وهو مذموم منهيٌّ عنه يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت، فهي أمانة”. ويقول أَيْضاً: “الحديث بينكم أمانة”، وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “إن من الخيانة أن تحدّث بسر أخيك”.
وهذا رجلٌ يسألُ الإمامَ زين العابدين عليه السلام فيقول: (عورة المؤمن على المؤمن حرام؟ فيجب الإمام زين العابدين: نعم! فيقول: يعني سفلته؟ فيقول الإمام زين العابدين: ليس حَيثُ تذهب، إنما هو إذاعةُ سره”، فكتمان السر من الأفعال المحمودة وقد أُمِرَ به في الأخبار يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “طوبى لعبد نومة، عرفه اللهُ ولم يعرفه الناس، أولئك مصابيح الهدى وينابيع العلم، تتجلى عنهم كُــــلّ فتنة مظلمة، ليسوا بالمذاييع البذر ولا الجفاة المرائين”، ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: “طوبى لعبد نومة، لا يؤبه له، يعرف الناس ولا يعرفه الناس، يعرفه الله منه برضوان، أولئك مصابيح الهدى، تنجلى عنهم كُــــلّ فتنة، ويفتح لهم باب كُــــلّ رحمة، ليسوا بالبذر المذاييع، ولا الجفاة المرائين”، كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “قولوا الخير تُعرفوا به، واعملوا الخير تكونوا من أهله، ولا تكونوا عجلا مذاييع فإنَّ خياركم الذين إذا نُظر إليهم ذُكر الله، وشراركم المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، المبتغون للبراء المعايب”.
إنّنا نجدُ أن دوافعَ الإنْسَــان لإذاعة أسرار الآخرين عديدة وكثيرة، فقد يكون للانتقام من الآخرين لما يُسبِّبه إفشاءُ سرّهم من تعريضهم للإهانة والتنكيل وما شابه ذلك، وقد يكون بسَبب عقدة نقص لدى المذيع للسر فيريد من خلال إذاعته للأسرار إعلام الآخرين بأنّ لديه معلوماتٍ ومعرفةً وإطلاعاً أَكْثَـــرَ من غيره، وقد يكون بسَبب جهله وعدم إدراكه بالمفاسد المترتِّبة على ذلك الإفشاء، وقد يكون بدواعٍ أُخْــرَى تنطلق من عدم كمال العقل أَو نقصان في الإيْمَـــان.
لذلك نجدُ أن الأحاديثَ قد أكّدت على أنّ الكتمان من صفات أهل العقل والإيْمَـــان، فلقد أشارت الأحاديث الشريفة إلى أنّ من المواصفات الأساسية للإنْسَــان العاقل فضلاً عن المؤمن هو أن يكون حافظاً للسرّ، فعن الإمام علي عليه السلام أنه قال: “صدرُ العاقل صندوقُ سرِّه”، كما ورد أنّه قيل لأحد العقلاء: (كيف حِفْظُك للسرِّ؟ فأجاب: أنا قبرُه)، وَنجد من لطيف ما قيل: (صدور الأبرار قبور الأسرار)، ولقد أشار الإمام علي عليه السلام إلى ارتباط صفة الكتمان بسعادة الإنْسَــان، فعنه عليه السلام أنه قال: “الكتمانُ طرفٌ من السعادة”، وفي نفس الإطار أشار في حديث آخر إلى علاقة الكتمان بنجاح الإنْسَــان في حياته فعنه عليه السلام: “أنجح الأمور ما أحاط به الكتمان” وفي السياق ذاته ورد أنّه عليه السلام قال “جمع خير الدنيا والآخرة في كتمان السرّ ومصادقة الأخيار، وجمع الشرّ في الإذاعة ومؤاخاة الأشرار”.