القدس ومحاولات تغييب التأريخ والهُــويَّة .. بقلم الدكتور/ حسن مرهج
ممارساتٌ عديدةٌ تقومُ بها إسرائيلُ بحق القدس والمقدسيين، فـ منذُ أن قامت إسرائيلُ بالسيطرة على مدينة القدس عام 1976 وحتى اليوم، تسعى إسرائيلُ إلى تغيير معالمها وَإنهاء الوجود العربي فيها، من أجل تهويد المدينة، وَقد رافق ذلك، الكثير من الإجراءات ضد سكان القدس، بما في ذلك توسيع الاستيطان في المدينة والذي يُعتبر أحد أبرز الأهداف الإسرائيلية؛ بُغية تغيير معالم مدينة القدس وطمس هُــويَّتها، بناء على ذلك بات واضحاً أن المقدسي يعاني جراء الكثير من الممارسات الإسرائيلية، ويمكننا تعميم هذه المعاناة على كُــــلّ مناحي الحياة، حتى بات المقدسيين بمثابة المستأجرين لبيوتهم في القدس، وهم مُهددين دائما بهدم منازلهم أَو ترحيلهم منها.
سعت إسرائيلُ خلال العقود الماضية إلى استكمال مُخَطّطها الاستيطاني؛ بهَدفِ السيطرة الكاملة على مدينة القدس، وبحسب الكثير من التقارير فقد عملت إسرائيل على تحقيق ذلك من خلال توسيع ما يسمى بحدود القدس شرقاً وشمالاً، وذلك بضم مستوطنة معاليه أدوميم التي يقطنها حوالي 35 ألف مستوطن، كمستوطنة رئيسية من الشرق، إضافة إلى المستوطنات العسكرية الصغيرة مثل “عنتوت، ميشور، أدوميم، كدار، كفعات بنيامين” من الجهة الشرقية، “والنبي يعقوب، كفعات زئييف، والتلة الفرنسية، كفعات حدشا، كفعات هاردار” من الشمال.
لا يمكننا كـ متابعين أن نُغيبَ الدورَ الإسرائيلي الذي يسعى إلى طمس معالم مدينة القدس عبر تهوديها، لكن في مقابل ذلك هناك حقيقة مُرة لا بد من تسليط الضوء عليها، فالتخاذل العربي وَالتواطؤ الأمريكي وَالنفاق الأوروبي جاء متوافقاً مع التطلعات الإسرائيلية، وَلتفنيد هذه المعادلة، يمكننا القول بأن التخاذل العربي أدخل قضية القدس في أتون الاحلام الخليجية، فهذا التخاذل عن دعم مقدسات الأمة العربية وَالإسْـــلَامية، يأتي في إطار إرضاء سيدهم الأمريكي، وَاللافت في ذلك، أن استمرار إسرائيل في مُخَطّطاتها تُجاه القدس وَالمقدسيين لم يكن لتتم لولا بعض الأنظمة الخليجية التي تهرول للتطبيع مع إسرائيل، وَهنا لا يمكن الاستغراب بأن بعض الأنظمة العربية وقف ضد حركات المقاومة وَابتعدت عن القضية الفلسطينية، الأمر الذي كان سبباً في ازدياد معاناة المقدسيين، فلا ظهر يحميهم، وَلا قرارات أممية تنصفهم، فـ أليس من الواجب على النظام السعودي على اعتبار أنه ”قائد الأمة الإسْـــلَامية“، أن يقفَ إلى جانب المقدسيين وَيرفع الصوت عالياً ضد إسرائيل وَممارساتها بحق المقدسات؟، وَهل هرولة الأنظمة الخليجية للتطبيع مع إسرائيل سيحقق لهم ما يصبون إليه؟، وَعليه، كيف يمكن أن نفسر الصمت المريب من قبل السلطة الدينية في السعودية لجهة تهويد القدس؟، وَمن يرفع الظلم عن المقدسيين الذي يعانون وَبشكل يومي جراء الممارسات الإسرائيلية وَالتضيق عليهم في ابسط حقوقهم كـ بشر؟، هي اسئلة من الصعب أن نجد إجابات شافية لها في ظل ما نشاهده من تخاذل عربي وَتواطؤ أمريكي وَنفاق أوروبي، لكن وَلربما بأن هذا الثالوث لم تصله أخبار المقدسيين وَمعاناتهم للحصول على الخدمات، وَجدير بالذكر أن السكان المقدسيين يعانون من تعامل غير مقبول؛ بسَببِ الإجراءات الإسرائيلية التي تحاول جاهدة عرقلة حصولهم أية خدمة مدنية.
في جانبٍ آخر، الواضحُ أن إسرائيلَ تسعى إلى زيادة أعداد المستوطنين، بالتزامن مع ممارسات تُفضي إلى تقليل عدد السكان الفلسطينيين، وَهذا يندرج ضمن إطار تهويد القدس، وَلا نبالغ إن قلنا: إن المحاولات الإسرائيلية تندرج ضمن سياق عمليات التطهير العرقي البارد، بمعنى التضييق الممنهج ضد المقدسيين، هذا التضييق الذي يتخذ أشكالا متعددة لا يمكن حصرها، فعلى سبيل المثال، يضطر المقدسي للبناء غير المرخص؛ بسَببِ ارتفاع رسوم الترخيص والتي تبلغ عشرات الآلاف الدولارات، هذا الأمر جاء نتيجة الإجراءات الإسرائيلية المتمثلة بـ تأخير إجراءات منح تراخيص البناء وَالتي قد تمتد أعوام طويلة، وَبعد الانتهاء من عملية البناء تقوم وزارة الداخلية الإسرائيلية بهدمه، وَتُجبر صاحب البناء على دفع ثمن عملية الهدم، وَفي كثير من المرات قد تُجبر صاحب البناء على هدم منزله بيديه، إضافة إلى ذلك، التفاصيل المتعلقة بدفع مستحقات باهظة لـ الضمان الاجتماعي وَالتأمين الصحي، إضافة إلى دفع الرسوم المتعلقة بالبلدية وَالتي من المفترض أن تعود على المقدسي عبر تقديم خدمات جيدة، لكن في واقع الأمر هناك معاناةً للمقدسيين جراء نقص الكثير من الخدمات، وَهذا كما ذكرنا سابقاً يأتي ضمن إطار الممارسات الإسرائيلية التي تفضي غلى تهجير السكان، وَلا تقتصر الممارسات الإسرائيلية على ذلك، ففي الجانب المتعلق بالسياحة هناك الكثير من التعقيدات المتعلقة بالحصول على تأشيرات الخروج، خاصة أولئك الذين لا يحملون الجنسية الإسرائيلية، وَهذا بحد ذاته مأساة حقيقية يعاني منها المقدسيون، ضمن ما سبق من معطيات، بات واضحاً أن النظرة السلبية للإنْسَــان المقدسي وَالذي يحمل لهُــويَّة الزرقاء يجب أن تتغير، فهذا الإنْسَــان لا يعيش وسط ظروف طبيعية، كما أنه يعاني جراء الممارسات الإسرائيلية، وَلا نجافي الحقيقة حين نقول أن المقدسيين يعانون جراء استغلالهم حين ذهابهم للتسوق في أسواق الضفة الغربية، حيث يتم النظر اليهم على أساس أنهم محتلون، وَهذا أَيْضاً مدعاة للمأساة الحقيقية جراء ثقافة مشوهه وَوعي ناقص.
لا يسعنا في هذا المقال الإحاطة بكل الممارسات التي يعاني منها المقدسيين، لكن ما تلجأ إليه إسرائيل بات واضحا وضوح الشمس، بأن الغاية الأساسية منه تهجير السكان الأصليين لمدينة القدس، في ظل غياب المستقبل السياسي للمدينة، حيث أن مدينة القدس تحظى باهتمام بالغ على المستويين الفكر وَالسياسي لدى حُكام إسرائيل، وَلا نذكر جديدا حين نقول بأن الاستيطان من أهم المنطلقات الفكرية للإسرائيليين، ونتيجة للسياسات الإسرائيلية من سنّ قوانين ومصادرة الأراضي وبناء المستوطنات في مدينة القدس، رسمت إسرائيل معالم جديدة للمدينة لصناعة وضع جيوسياسي جديد لها يصعب على السياسي أَو الجغرافي إعادة تقسيمها مرة أُخْــرَى، وتعمل إسرائيل وفق سياسة ازدواجية المعايير، فمن جانب تعمل على طمس المعالم العربية وطرد السكان الأصليين، ومن جانبٍ آخر تزرع المستوطنات في محيط مدينة القدس.
من كُــــلّ ما سبق، نختم بالقول: إن هذه الممارسات الإسرائيلية تجاه مدينة القدس دأبت عليها الحكومات المتعاقبة لإسرائيل، وتؤكد كتابات «يهود بن مائير» موقف إسرائيل تجاه القدس: «إن أية محاولة تقوم بها أية حكومة إسرائيلية في اقتراح لتقسيم القدس أَو أن تكون المدينة عاصمةً لأي كيان آخر، سيتم رفضها بعمق من قبل الرأي العام الإسرائيلي ومن قبل اليهود في جميع أنحاء العالم، وأية حكومة تقترح تقسيم القدس أَو التخلي عن السيادة الإسرائيلية على أي جزء منها ستفقد شرعيتها»، وَبالربط بين التنظير الفكري وَالسياسي للحكام الإسرائيليين نجد أن هذه الممارسات هي ترجمة حقيقية للأفكار التي سوّق لها مُنظرو اليهودية، من حَيثُ الممارسة العملية على السكان وممتلكاتهم في فلسطين، خاصة مدينة القدس.
* رأي اليوم