كتمان السر (2) الأسرارُ الأمنيةُ من أهمّ الموارد التي تشدَّدت فيها الشريعة في ضرورة الكتمان وحرمة الإفشاء .. بقلم/ أم مصطفى محمد
إنَّ من أنواع الكتمان المطلوب للإنْسَــان أن يكتمَ الإنْسَــان سرَّ نفسِه، فلقد دعت الأحاديثُ الشريفةُ الإنْسَــانَ أن يكونَ حافظاً لسرِّه في موردين الأول: حينما يتعلَّقُ نجاحُ عمله بالكتمان، وهذا له مصاديقُ كثيرةٌ في أعمال الإنْسَــان التي قد لا تحقّق أهدافه؛ بسَببِ تدخّلات الناس الذين يعلمون بالأمر؛ لذا ورد عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال “أنجح الأمور ما أحاط به الكتمان”، وسبب ذلك أنَّ علم الآخرين بسرِّ عمله يُكثر من المؤثّرين به، وبالتالي لا يعود مسلَّطًا على تحقيق النجاح، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: “من كتم سرّه كانت الخِيَرَةُ بيده”، أما الموردُ الثاني فحينما يكونُ إفشاؤه لسرِّ نفسه يؤثِّر سلبيًّا على كرامته وسُمعته ونظرة الآخرين إليه، فقد ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قال “إنّ الله عزّ وجلّ فوّض للمؤمن أموره كلّها، ولم يفوِّض إليه أن يذلّ نفسه…”.
من هنا ينبغي على المؤمنين عدمُ التحدُّث عن ماضيهم السيِّء، حتى ولو أرادوا أن يبيّنوا بذلك أنّهم قد اهتدوا إلى الإيْمَـــان بعد الضلال، إضافةً إلى أنّ حفظ الإنْسَــان لسرِّ نفسه يعزِّز فيه منقبة كتمان السرِّ بالنسبة للآخرين ففي الحديث: “من ضعف عن سرِّه لم يقوَ لسرِّ غيره” ويقول الشاعر:
إذا المرءُ أفشى سرَّه بلسانه *** ولامه عليه غيرُه فهو أحمقُ
إذا ضاق صدرُ المرء عن سرِّ نفسِه *** فصدرُ الذي استودعه السرَّ أضيقُ
كذلك نجد أن كتمان الأسرار العائلية من الأمور التي حرص الإسْـــلَام عليها، فكثيراً من الأحيان يصدر عن الإنْسَــان في محيط عائلته الخاصّ تصرّفاتٌ وأقوال لا يفعلُها خارجَ العائلة، ولا يرضى بمعرفة الآخرين عنها، كما أنه قد يُدلي ويُفضي بأمور خاصّة تُعدّ من الأسرار العائليّة، وهذا ما يجب الالتفاتُ إليه من جميع أفراد الأسرة، وقد حذَّرت الأحاديثُ الشريفةُ من هذا الأمر، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “إنّ من شرّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر أحدهما سرَّ صاحبه”، ولعل هذا الأمر لا بدّ من التأكيد عليه حين حصول خصومة بين الزوج والزوجة، أَو طلاق، فمِن القبيح والمعيب على الإنْسَــان حينما يخرج من حالة الوئام مع الآخر، وتحصل خصومة بينهما أَو طلاق أن يتناوله بفضح عيوبه وأسراره يقول الشاعر:
وترى الكريمَ إذَا تصرَّمَ وصله *** يُخفي القبيحَ ويُظهِرُ الإحسانا
وترى اللئيمَ إذَا تقضّى وصله *** يخفي الجميلَ ويظهر البُهتانا
كما أن كتمان أسرار الآخرين من أنواع الكتمان المطلوب فعن الإمام علي عليه السلام أنه قال “المجالس بالأمانة، وليس لأحدٍ أن يحدِّث بحديث يكتمه صاحبه إلاّ بإذنه، إلا أن يكونَ ثقةً أَو ذكرًا له بخير”، فعلى الطبيب أن لا يفشيَ سِـــرَّ مرض من يُعانيه، وعلى العامل في المختبر أن لا يُعلم الآخرين عن نتائج فحوصات من خضع لها، وعلى الموظّف في المصرف (البنك) أن لا يُعلن كم يملك المودِع من مال، وعلى المحقِّق والقاضي أن يحتفظ بأسرار من يحقِّق معه أَو يقاضيه، وعلى العالِم أن يكتم ما أسرَّ إليه المؤمنون الواثقون به، وهَكذا.
ولعلَّ من أهمّ الموارد التي تشدَّدت فيها الشريعةُ في ضرورة الكتمان وحُرمة الإفشاء هي الأمور ذات الطابع الخطير كالأسرار الأمنيّة والعسكريّة، والتي قد تؤدّي معرفة العدوّ بها إلى الإضرار بالمؤمنين والتنكيل بهم وإضعاف شوكتهم، وفي هذا الإطار ورد عن الإمام علي عليه السلام تفسيرٌ لقوله تعالى: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أنه قال: “والله ما قتلوهم بأيديهم ولا ضربوهم بأسيافهم، ولكنّهم سمعوا أحاديثَهم فأذاعوها، فأُخذوا عليها فقُتلوا، فصار قتلاً واعتداءً ومعصيةً” وحول خطورة الإفشاء عن المعلومات الأمنيّة التي تسبِّب خطراً على مسيرة أهل الإيْمَـــان وردت أحاديثُ عديدةٌ عن الإمام زين العابدين عليه السلام الذي كانت السلطات في عصره تبحث عن معلومات أمنيّة عن الإمام عليه السلام وأنصاره، ليكون لها ذريعةً في التنكيل بهم، ومن هذه الأحاديث “كتمانُ سرِّنا جهادٌ في سبيل الله” وأيضاً ورد عنه عليه السلام: “من أذاع علينا حديثنا، فهو بمنزلة من جحدنا حقّنا” كما نجده عليه السلام يقول “من استفتح نهاره بإذاعة سرّنا سلّط الله عليه حرّ الحديد، وضيق المحابس” ويقول أَيْضاً “والله، إنّ أحبّ أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا” فمن الواضح أنّ المراد من إذاعة حديثهم هو إذاعة المعلومات الأمنيّة التي تضرّ بهم وشيعتهم، ولا يُراد منها الأسرار المعرفيّة الباطنيّة كما قد يُتوهَّم، فهم عليهم السلام لم يكونوا باطنيين، ولم تكن أحاديثهم باطنيّة، بل معارفهم واضحة منشورة وضوحَ الشمس في رابعة النهار، ونختم بأنّ خطورة إفشاء السرّ تزداد في عصرنا في ظلّ تطوّر وسائل التواصل الاجتماعي، ممّا يدعو للتنبّه والحذر الشديدين تجنّبًا لعواقب قد لا تكون محسوبة، ولتبقَ وصيّةُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاضرةً قبل أي قول أَو خطوة “إذا أنت هممتَ بأمرٍ فتدبَّر عاقبتَه”.