الجود (1) الجود والعطاء قيمة إنْسَانية حضارية وحبل متين يربط جميع أفراد المجتمع .. بقلم/ أم مصطفى محمد
يقولُ اللهُ تعالى في محكم كتابه العزيز: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).
إنّ الجودَ والعطاءَ قيمة إنْسَانية حضارية مهمة يركز عليها الدين كثيرًا، فقد أراد الإسلام أن يتحسسَ المسلمُ مشاكلَ الناس وخاصة أولئك الذين تضيق في وجوههم سُبل العيش المشروع؛ لذلك نجده قد مجّد الجود وشجع على البذل والإنفاق كأسلوب تكافلي لابد منه فكان أهل البيت عليهم السلام يتسلّقون ذُرى المجد في الجود يقول أمير المؤمنين عليه السلام «إنّي لأرفع نفسي أن تكون حاجةٌ لا يسعُها جودي» فالجود يقود إلى البذل بالموجود، وأفضله في مقاييس مدرسة أهل البيت عليهم السلام ما كان عن عسرةٍ وذلك لكونه يُخرج المسلم من شرنقة الشح والبخل إلى فضاء العطاء والبذل، وفي هذا الصَّدد يقول أمير المؤمنين عليه السلام «أفضل الجود بذل الموجود» وعنه عليه السلام أنه قال «أفضل الجود ما كان عن عسرة» ويقول عليه السلام «جُدْ بما تُجِدْ تُحْمَدْ» فالشكر للإنْسَان المنفق موصولًا من قبل الله ومن قبل الناس وفي كلمة أُخرى يقول أمير المؤمنين عليه السلام «جود الرجل يحبّبه إلى أضداده، وبخله يبغّضه إلى أولاده» فالسّخاء ربما يجلب محبة الأعداء كونه على النقيض من البخل الذي يسبب بغض أقرب الناس للإنْسَان وهم أولاده، فوجود الإمكانات المالية مدعاة لأن ينفق الإنْسَان منها عبر التوسيع على عياله وأرحامه وينفع بها أبناء مجتمعه، يقول الإمام زين العابدين عليه السلام في تفسير قوله تعالى (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ) أنه قال «هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلًا، ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله أَو في معصية الله، فإن عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره، فرآه حسرة وقد كان المال له، وإن كان عمل به في معصية الله قواه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله عزّ وجلّ» لذلك فإنّ على الإنْسَان أن يعيد النظر في تعامله مع ما عنده من مال وثروة فهذا ما يقود إليه العقل والوجدان.
إن الإنفاقَ الخالصَ لوجه الله تعالى محمود في جميع الأوقات والحالات، فهو يمتد كخيط متين لربط أفراد المجتمع فيما بينهم ويستأصل شأفة الفقر كأكبر آفة اجتماعية يقول تعالى (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)؛ لذلك ندرك كيف كان المؤمنون لما نزلت آيات الإنفاق على إطلاقها ينفقون كُــــلّ ما يقع تحت أيديهم بحيث وصل البعض منهم إلى حالة من العسر بعد يسره بفضل روح التكافل التي راحت تتقد في داخلهم إذ كان نطاق الإنفاق على أوسع مدى، فأخذ البعض منهم يسأل الرسول صلى الله عليه وآله عن مقدار الإنفاق وحدوده فكان الجواب القُـــرْآني (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ…) فالعفو هو ما زاد عن الحاجة، فالإسلام دين يسر وسماحة لا يكلف الإنْسَان فوق طاقته وقدرته وَمن جانبٍ آخر سعى الإسلام إلى إزالة الحواجز النفسية التي تحول دون الانطلاق في مسيرة الإنفاق وحاول طمأنة الخواطر التي تخشى من حالة الفقر إذَا ما أقدمت على البذل والعطاء يقول الله تعالى مُطَمْئِناً المؤمنين (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فهذا الوعد بالتعويض بالدنيا، أما في الآخرة فيظهر من قوله تعالى (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) وها هو أمير المؤمنين عليه السلام يقول في هذا الصدد ” من يُعط باليد القصيرة يُعط باليد الطويلة” أي ما ينفقه المرء من ماله في سبيل الخير وإن كان يسيراً، فإن الله يجعل الجزاء عليه عظيما كثيرا» كما نجد الإسلام قد دعا المؤمنين إلى التوقي من حالة الشُح في نفوسهم كونها حاجز نفسي يحول دون إقدامهم على البذل والعطاء، يقول عزَّ من قائل (… وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ويتبع القُـــرْآن أسلوب الترغيب واعداً بالثواب الجزيل الذي ينتظر المنفقين يقول تعالى (… وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) فالقُـــرْآن أراد من المسلمين أن يرتقوا إلى مستوى أسمى من العطاء بحيث ينفقوا ممَّا يُحبُّون، ولا يقتصر الإنفاق على الأشياء الزائدة عن الحاجة وغير المرغوبة أَو الرديئة الجودة، أَو تلك التي لا تميل النفس إلى الاحتفاظ بها يقول تعالى (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عليم).