الجود (2) مفهومُ السخاء السليم البعيد عن الرياء والبذخ والإسراف .. بقلم/ أم مصطفى محمد
إن الإنفاقَ في سبيل الله ينفي البخل والشح ويُسهم بشكل فاعل في عملية تقدم وتطور المجتمع، فالتقدمُ يمكنُ أن يكونَ رهنَ ثقافة التبرع ولكن قد لا تتاح هذه الثقافة؛ بسبب المضادات لها، إذ في مقابل السخاء يقف البخل بالضد من تطور المجتمع، حيث يكف الأغنياء أَو يترددون عن المساهمة مالياً في البناء المجتمعي من خلال التبرع بالأموال ضمن القنوات الشرعية كفريضة الزكاة أَو عبر الإسهام الفاعل في التبرع للفقراء أَو إقامة وإنشاء المشاريع الخدمية والصحية والثقافية وسواها مما يُسهم في تطوير الناس، فعندما يكون الغني بخيلاً فإنه يحرم أعداداً واسعةً من المجتمع فقراء أَو سواهم من فرص التعليم والترفيه والصحة والحياة الكريمة؛ لذلك نجد أن الإسلام قد حث على نشر هذه الثقافة وتطبيقها نظراً لفاعليتها في تحقيق التوازن الشرائي بين أفراد الأُمَّــة، فمن آثار البخل أنه يوجب البغضاء ويمنع الشكر، ويكسب المقت ويشين المحاسن ويشيع العيوب؛ فالبخيل يمقته الغريب وينفر منه القريب، والبخل مما يفسد الأخوة، فمنعك خيرك يدعو إلى صحبة غيرك مما يجعلك غريباً بين أهلك وإخوانك ولا غربة كالبخل، ولا ينحصر السخاء في بذل الأموال أَو حسن الاستقبال أَو إقراء الضيف، فمن اللافت للاهتمام أن المشاركة في البناء المجتمعي لا يقتصر على الدعم المالي من الأثرياء للطبقات الأُخرى الأقل ثراءً، بل ينبغي أن تُسهم المشاركات العلمية والقدرات المختلفة في بناء المجتمع، ومنها العلم على سبيل المثال إذ لا يجوز احتكار العلم وحرمان الفقراء وغيرهم من فوائد العلم وثماره التي تصب في تطوير العقول والأفكار، وتبني الحياة بالصورة الأجود، وتساعد على بلورة مجتمع متطور مستقر ومنسجم يسوده التعاون والشعور بالمسؤولية واعتماد التكافل كأسلوب حياة وثقافة تزيد من الترابط المجتمعي.
لقد كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يزرع في وعي المسلمين مفهوم السخاء السليم البعيد عن الرّياء والبذخ والإسراف، والمرتكز على طاعة الله وفي سبيله يقول صلى الله عليه وآله وسلم «ولا يسمى سخياً إلا الباذل في طاعة الله ولوجهه، ولو كان برغيف أَو شربة ماء» فقد كان مفهوم السخاء في الجاهلية يرتكز على الأنانية والإسراف وتتحكم فيه الأهواء والمصالح الذاتية، فصحح النبي صلى الله عليه وآله هذا المفهوم بحيث يقوم على طاعة الله ويحقق الهدف التكافلي المطلوب منه كإطعام الطعام للجياع أَو سقي الماء للعطاشى يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم «من أدّى ما افترض الله عليه فهو أسخى النّاس» كما أن هناك أحاديث عديدة عن أهل البيت عليهم السلام تحث على الإنفاق ولو كان قليلاً، وتحذر من البخل وما يتركه من آثار تدميرية على بنية المجتمع وعواقب أُخروية تطال الفرد ومن تلك العواقب إثارة سخط الله يقول أمير المؤمنين عليه السلام (لا تستحِ من إعطاء القليل فإنّ الحرمان أقل منه) كما أن العواقب الغير محمودة لمن بخل بالنفقة يحدثنا عنها أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: «ما من عَبد يبخل بنفقة ينفقها فيما يُرضي الله إلاّ ابتلى بأن ينفق أضعافها فيما أسخط الله» إضافة لما تقدّم ينبغي أن يكون البذل للمستحق وإلاّ كان عبثا لا طائل منه، أَو كان لأجل السمعة الفارغة ومن أجل التباهي والرياء ليس إلاّ، وفي هذه الحالة يفقد غايته الأساسية كأسلوب تكافلي، لذلك نجد أن أهل البيت عليهم السلام قد وضعوا شرطا لتحقق مفهوم الجود، وهو أن للآخذ من الشكر أَكْثَــــر مما للباذل، لكونه قَبِل العطاء، فهم عليهم السلام يريدون بذلك صون ماء وجه الأول، وطرد شبح المنّ أَو الغرور من نفس الثاني أَو المُعطي، وهذا الشرط فيه دلالة عميقة تعكس عمق توجيهات أهل البيت عليهم السلام، وسموّ مفاهيمهم وسعة أفقهم، وفي هذا الجانب يقول الإمام زين العابدين عليه السلام «لا يكون الجواد جواداً إلاّ بثلاثة: يكون سخيّاً بماله على حال اليسر والعسر، وأن يبذله للمستحقّ، ويرى أنّ الذي أخذه من شكر الذي أسدى إليه أَكْثَــــر مما أعطاه» وعموماً فالإنفاق أَو العطاء هو من أعظم ما يعتني بأمره الإسلام، وقد توسل إليه بطرق مختلفة كالزكاة والكفارات المالية وأقسام الفدية، وكذا الوقف والوصايا والهبة وما إلى ذلك، وإنما يريد بذلك من المسلمين أن يواسوا إخوانهم وأن لا يدفنوا رؤوسهم في رمال اللامبالاة بالآخرين، فالقُـــرْآن الكريم في عشرات الآيات يحثّ على الإنفاق ويمتدح الذين يمارسونه في السّر والعلن وينوّه على ذلك بمعطياته الاجتماعية.
ونختم بأن الجود بالنفس أقصى غاية الجود، فالجود بالنفس هي التضحية بها وهي رتبة عالية من الإيثار يقف في قمتها أولئك الذين يضحون بأرواحهم في سبيل أن يعيش الآخرون، ويمنعون عنهم الموت والأذى وقلة هم الذين يتخذون مثل هذا القرار.