النفط والإنسان في سلَّمِ قيم العدوان وأنصاره .. بقلم د/ أحمد الصعدي
عاملُ الإنسانية في شخصِكَ وفي شخصِ كُــلِّ إنسان سواكِ؛ باعتبارها غايةً وليست وسيلة. هكذا تنُصُّ إحدى مُسلَّمات الأمر القطعي في أَخْـــلَاق الواجب الكانتية (نسبة إلى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت)، ويعرّفها كما يعرّف فلسفةَ كانت جميعُ السياسيين الغربيين بمن فيهم بنيامين نتنياهو، الذي يدّعي تأثُّرَهُ بكانت لا سيما تعاليمَه الأَخْـــلَاقيةَ، وأنه يسترشدُ بها في كُــلّ قراراته وسياسَاته.
وحتى الشيطانُ لو قُدِّرَ له أن يدليَ بدلوهِ في هذا الشأن لأعلنَ متفاخرًا أن أَخْـــلَاقَ الواجبَ، وأن مسلَّماتِ الأمر القطعي قد سلبتهُ لُبَّهُ وأنه لم يصر شيطانًا إلا بِفضلها. وفي القُـــرْآن الكريم تتبوأ قيمة الإنسان سُلَّمَ القيم الأَخْـــلَاقية، لا سيما حقهُ في الحياة، ألم يبلغنا القُـــرْآنُ بأن مَن قتل نفسًا بغيرِ ذنب كأنما قتل الناس أجمعين؟!. لا يضحي القُـــرْآنُ بحياة الفرد مهما صغُر شأنُهُ في مجتمعهِ أَو في المجتمعِ الإنساني؛ لأَنَّ كُــلَّ النفوس متساوية عند اللهِ، الفقيرُ المعدم والإمبراطور أَو الملك الثري المُسرِف.
وكانَ أحدُ كِبار شيوخ الأزهر، يومَ كان للأزهر شيوخًا، هو الدكتور محمد عبدالله دراز قد كتبَ رسالتَهُ للدكتوراه التي أنجزها في باريس بِعنوان ((دستور الأَخْـــلَاقِ في القُـــرْآن)) عقدَ فيها مقارنةً بين الأَخْـــلَاق في القُـــرْآنِ الكريم والأَخْـــلَاق الكانتية وأظهر ما بينهما من توافُقٍ عن قيمة الإنسان وعن الواجب وَالفضيلة. غيرَ أن تراثَ الثقافة الغربية الغني بأفكار المذهب الإنساني، وتعاليم القُـــرْآن الكريم السامية، كُــلّ ذلك يفقدُ أهميتهُ أَو يحتلُّ أدنى الدرجات في محدّدات سُلَّم قيم عالم الطغيان المعاصر. يستوي في ذلك الشرقُ والغرب، خادمُ الحرمين الشريفين وحاشيتُهُ والأزهر وشيخُهُ والبنتاجون والبيت الأبيض والسي آي إيه وكل الدوائر الغربية التي تولي وجوهَها صوبَ واشنطن وتحذو حذوَها طوعًا أَو كرهًا.
لما يزيد عن أربع سنوات لم يتوقَفْ نزيفُ الدم اليمني يومًا واحدًا، في عدوان يعجز إبليسُ نفسُه عن اختلاق مبررات قانونية لهُ، عدوانٌ لم يسبق لتوحشِهِ أن عرفَ نظيرًا في التأريخ. هذا العدوان المتبربر سبّبَ أكبر أزمة إنسانية بشهادة الأمم المتحدة ((المؤدبة)) جدًا عند اضطرارها للحديث عن الآثار الإنسانية للحرب، وأدّى إلى قتل أزيد من رُبع مليون يمني بشهادة المنظمة الأممية ذاتها. غيرَ أن هذا العدوانَ الفاشي المتواصل لا يُقلِقُ العالم لا المتأسلم ولا مدعي التحضر إلا عندما يستخدمُ المعتدى عليهِ حقَّه المشروعَ في الرد دفاعًا عن النفس.
وكانت آخر الردود العادلة والمؤثرة وأكبرها منذ بدء العدوان الغادر في 26/ مارس /2015 هي عمليةُ التاسع من رمضانَ المباركة. وبين التاسع من رمضان /14/ مايو والحادي عشر من رمضان 16/ مايو تبين جليًّا كُــلّ نفاق العالم العربي والغربي، وسُلَّمُ قيمهِ الحاكمة لوعيهِ الأَخْـــلَاقي. في الحالة الأولى هاجمت طائرات يمنية مسيّرة منشآت نفطية سعودية في منطقة صحراوية من غير أن تسبب ضحايا بشرية فثارت ثائرة طغاة العالم وأنصار الطغيان وبينهم الأزهر الشريف الذي رفع صوته مدينًا ومولولًا معتبرًا المس بأنابيب النفط أكبرَ الكبائر وجريمةً لا تقِرُّها الأديانُ السماوية.
قال الأزهر ذلك بثقة وتبجح وابتذالٍ، وكأن التوراة والإنجيلَ والقُـــرْآن ما أرسلت للناس إلا لتعلمَهم وتبصرهم بقداسة أرامكو وحُرمة المس بالذات النفطية، وكأن الأنبياءَ والرسل لم يبعثوا لهداية البشرية وتعليمها مكارم الأَخْـــلَاق بل لحماية نفط المملكة السعودية، وهذا لأَن إبادة آلاف اليمنيين أهونُ عند صاحب الفضيلة الشيخ المبجل من إراقة قطرة نفط واحدة. ومثلَ الأزهر فعلت جهاتٌ عربية وغربية لم تغِب عنها السلطةُ الفلسطينية التي يذيقُها ابن سلمان الأمرَّين ويذلها ويهددها لتقبل قسرًا بصفقة القرن التي تعني ضياعًا كاملًا للحق والحلم الفلسطينيين.
أما الدولُ الغربيةُ ففعلت ما تفعله دَائماً عندما شعرت بخطر توقف الدمِ في شرايينها، والدم ليس إلا الطاقة. وفي الحالة الثانية، في الحادي عشر من رمضانَ / 16 مايو ارتكب تحالُفُ العدوان الدموي مذبحةً وحشيةً في العاصمة صنعاء، في شارعٍ وصفه الدبلوماسي الأمريكي السابق في اليمن نبيل خوري بأنه شارعُ الفقراء وليست فيهِ أية قاعدة لا هجومية ولا دفاعية.
في هذا الهجوم الغادر – وكل هجمات العدوان غادرة – وفي هذا اليوم الرمضاني أقام خادمُ الحرمين حفلةَ شواء آدمية وسفكَ الدمَ براحة ضمير بل وبشعور من الزهو والنصر على الأطفال والنساء النائمين في بيوتهم. لكن هذه الجريمةَ التي ربما كان هتلر أَو بنيتو موسوليني سيحاولان التهربَ وعدم التفاخر باقترافها، لم نسمع من الأزهر الشريف كلمةً واحدةً، فهو أعمى وأصم وأبكم عندما يكون المجرمُ هو النفطَ السعودي، أما الحكامُ العرب فلا نستغربُ صمتَهم؛ لأَنَّهم لا ينبحون إلا على الضحايا ولا يحركون ذيولهم إلا في حضرة ملك النفط والطغيان.
هكذا إذاً يكتبُ هذا العالم المجرم بدم الضحايا الأبرياء مدونتَهُ الأَخْـــلَاقية السياسية التي تنُصُّ على أن النفط أعلى قيمة من الإنسان، وأن النفط يتبوأ سُلَّم القيم لديهِ، سواء تحدث باسم القُـــرْآن والإسلام والعروبة أَو باسم التوراة والإنجيل أَو الفلسفة الأَخْـــلَاقية والسياسية وحقوق الإنسان.