السيد عبدالملك الحوثي في محاضرته الرمضانية السابعة عشرة:
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنك حميدٌ مجيدٌ.
وَارْضَ اللَّهُم برِضَاكَ عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المنتجَبين وَعَـــنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّـالِحِين.
أَيُّهَـا الإِخْـوَةُ والأَخَــوَاتُ.. السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.
اليومَ هو الـ 17 من شهرِ رمضانَ المبارك، الذي شهد حدثاً تأريخياً مفصلياً واستثنائياً، ويوماً فارقاً في التأريخ، كان هو يومَ بدر يوم التقى الجمعان، وغزوة بدر الكبرى هي حدثٌ عظيمٌ ومهمٌّ وكبيرٌ ومؤثرٌ في مسيرة حياة البشرية، وفي مسيرة الإسْـــلَام العظيمة، وفي شهر رَمْضَانَ المباركِ أَيـْـضًا، كان هناك حدثاً آخر هو فتحُ مَكَّــةَ، وهو كذلك يمثلُ حدثاً مهمًّا وتأريخيّاً وله تأثيراتُه الواسعةُ في ترسيخ قواعد الإسْـــلَام وفي بناء الكيان الإسْـــلَامي وفي تجذير المبادئ والقيم الإسْـــلَامية وفي رفع راية الإسْـــلَام وفي انتصار الأُمَّــة المسلمة.
نحن المسلمين -في هذا العصر- أحوجُ ما نكونُ إلى الاستفادة من التأريخِ وإلى الاستفادةِ من سيرة الرسول (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) رسولُ الله مُحَمَّــدٌ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ-، هو القُدوةُ وهو الأُسوةُ وهو الهادي، الذي يجبُ أن نهتديَ به وأن نستفيدَ من سيرته، وأن نستلهمَ من حركتِه في الحياةِ ما يمثلُ هدايةً لنا ما يمثلُ معالمَ لنا نعتمدُ عليها، في مواقفنا، في تحَــرّكاتنا، في مسيرة حياتنا.
نحن اليومَ كَأُمَّــةٍ مسلمةٍ نواجهُ التحدياتِ الكبيرةِ، ونواجهُ الأخطارَ الكبيرةَ، شئنا أم أبينا، لا يعودُ ذلك إلى مزاجِنا ولا إلى رغباتنا، مسألةٌ قائمةٌ في الواقع ولا يمكنُ الإنكارُ لها ولا التجاهُلُ لها، حتى الذين يحاولون أن يتجاهلوا ذلك، هذا التجاهُلُ لا يجدي شيئاً، الذي يفيدُنا هو الرجوعُ إلى القُـــرْآنِ الكريمِ وإلى سيرة الرسول (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) إلى الرسولِ نفسِه لنقتديَ به، لنتأسى به (لَقَد كانَ لَكُم في رَسولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كانَ يَرجُو اللَّهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثيرًا) (الأحزاب:21).
الإسْـــلَامُ خاض الصراعَ؛ لأَنَّ الصراعَ في واقع الحياة جزءٌ أَسَاسيٌّ من الحياة، لا فكاكَ عنه ولا مناصَ منه، الصراعُ حالةٌ قائمةٌ في الواقع البشري، لدرجة أنها جزءٌ من هذا الواقع في كُــــلِّ عصر في كُــــلِّ زمان في كُــــلِّ مكان؛ ولذلك عندما نأتي إلى واقعنا كَأُمَّــةٍ مسلمة، يجبُ أن نفهمَ أن الإسْـــلَامَ له رؤيتُه حتى في التعامل مع الصراع، والإسْـــلَام من يومه الأول أتى باعتبارِهِ رسالةَ الله، الرسالةُ الإلهية التي تصلُنا بتوجيهات الله وبتعليماتِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، والتي نبني على أَسَاسها حياتنا ومواقفنا ومسيرة حياتنا وأعمالنا، والإسْـــلَام كرسالة إلهية حالُه حالُ الرسالة الإلهية مع كُــــلِّ الرسل والأنبياء وصولاً إلى خاتمهم مُحَمَّــد -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ-، الله -جَــلَّ شَأْنُــهُ- قال: (وَلَقَد بَعَثنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسولًا أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ وَاجتَنِبُوا الطّاغوتَ) (النحل:36).
رسالةُ الله هي تحرِّرُ البشرَ تنقذُهم تخلِّصُهم من العُبُودية للطاغوت، وهي تربطُهم في حياتهم بالعبودية لربهم، لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وهذا أولُ ما في الرسالة الإلهية، وأعظمُ ما في الرسالة الإلهية، أنها رسالةٌ تنقذُ الإنْسَــانَ وتحرِّرُه من استعباد أخيه الإنْسَــان ومن استغلال الإنْسَــان له، الإنْسَــان الآخر، وأنها تؤسِّسُ مسيرةَ حياته على أَسَاسٍ صحيح على أَسَاس سليم، تصله بربه، بخالقه، برب السماوات والأرض، برب العالمين، ليبني حياته على أَسَاس ذلك، في الأعمال في الالتزامات في المواقف، في الحلال والحرام، فيما يفعل فيما يترك، وَأَيـْـضًا تصلُه بالهداية الإلهية في تصوراته ومفاهيمه وأفكاره ونظرته إلى الحياة وفي واقع الحياة، وهذا الجوهر الأَسَاس للرسالة الإلهية، ولهذا عندما أتى رسول الله (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) ليتحَــرّك برسالة الله مبلّغاً وفي نفس الوقت يسعى إلى التحَــرّك على أَسَاسِ هذه الرسالة ليبنيَ عليها واقع الحياة هو ومن اتبعه من الناس، كانت هذه مسألة تمثل مشكلة كبيرة جِــدًّا لكل كيانات الطاغوت الموجودة في الواقع، وكان الانزعاج بشكلٍ كبير جِــدًّا واتجهت كيانات الطاغوت بدءا في مجتمع مَكَّــةَ.
الطاغوتُ في مَكَّــةَ المتمثل بزعامات قريش المنحرفة عن الحَــقّ أبو سفيان، أبو لهب، أبو جهل، وغيرهم ومن معهم من أتباعهم الذين بدأوا هم في ذلك المجتمع حربهم على الرسالة الإلهية ومعارضتهم الشديدة لرسول الله (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ)، في البداية حاولوا أن يُسكتوه، وأن يمنعوه نهائيا عن تبليغ الرسالة الإلهية؛ لأَنَّهم عرفوا أنها رسالةٌ هذا جوهرُها، تختلفُ معهم بدءاً في الموقف العام في الموقف الأَسَاسي في المسيرة العامة؛ لأَنَّها تحرّرُ الإنْسَــانَ وتفصلُه عن كيانِ الطاغوتِ وتبني حياته على أَسَاس مستقلّ ومتحرّرٍ يعتمدُ فيه على تعليمات الله وتوجيهات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، لا يبقى للطغاة والمجرمين الظالمين سيطرة عليه وتحكمٌ به، هذه كانت مسألة مفصلية وحساسة جِــدًّا عند الآخرين عندما لم يتمكّنوا من منع الرسول (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) من الاستمرار في تبليغ رسالة الله، وفي حركته بهذه الرسالة حاولوا أن يؤثروا عليه وأن يقنعوه بالتكيف معهم قدر الإمْكَان وأن يداهنهم عندما عجزوا عن منعه بالكامل عن منعه بشكلٍ نهائي، حاولوا أن يتحَــرّكوا على أَسَاس من الاحتواء لهذه الحركة التي ينهض بها رسول الله (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) فتفاوضوا معهُ وحاولوا أن يتعاملوا معه بالترغيب وبالترهيب وقدموا له إغراءات كبيرة إلى حَــدِّ استعدادهم أن يملّكوه عليهم، إلى حَــدِّ استعدادهم أن يمكّنوه من الثروة الاقتصادية التي بأيديهم، عرضوا له المنصبَ في أعلى مستوى أن يكون ملكاً عليهم، وعرضوا عليه المال بحيث يوفرون له من الثروة ما يكون به أغناهم وأَكْثَـــرهم ثروة، وعرضوا عليه العروض الكثيرة ولكنهم فشلوا في ذلك؛ لأَنَّ رسولَ الله صلواتُ عليه وعلى آله، كان هو يحملُ هذه الرسالةَ في كُــــلّ مضامينها ويحمل من هذه الرسالة روحَها وتربيتَها وأثرَها العظيمَ في نفسه، زكاءً واستقامةً وإخلاصًا وصدقًا وأمانةً، يحملُ من هذه الرسالة قيمَها وأَخْــلَاقها ومبادئها، وليس فقط فكرتها إنما مع الفكرة الروحية، والقيم والمبادئ والأَخْــلَاق، يؤمن بها هو؛ ولذلك لم يتأثر بكل الضغوط، لا الإغراءات والا الترهيب، اتجهوا بعد ذلك إلى الترهيب، إلى المحاربة بكل أشكالها، المحاربة الإعلامية فنظموا حملات دعائية واسعة ونشطوا فيها بشكل كبير ومكثف سواء في كُــــلّ يوم، في كُــــلّ يوم هناك من يتحدث في المجالس، في المقايل، في الاجتماعات، بين أوساط المجتمع، لإطلاق دعايات متنوعة أنه ساحر، أنه مجنون، أنه شاعر، أن الذي يقدمه ليس سوى أساطير الأولين، سلسلة طويلة من الدعايات المتنوعة في كُــــلّ مرحلة، في كُــــلّ فترة، دعاية أَو أَكْثَـــر من دعاية يطلقونها ويتحَــرّكون بها في الساحة، الحرب الاقتصادية في المضايقات الاقتصادية له ولمن اتبعه، الحرب التي سعوا من خلالها إلى استهداف من يلتحق بالدين الإسْـــلَامي، بالتعذيب والاضطهاد والسجن ووصلت حالة التعذيب بالبعض إلى الشهادة، ثم وُصُولاً إلى النشاط العام الذي كانوا يقومون به في موسم الحج.
بعد ثلاثةَ عَشَرَ عاماً من حركة الرسول (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) في مَكَّــةَ وهو يواجهُ الطاغوتَ هناك أذن الله له بالهجرة إلى المدينة المنورة وفي يثرب أنشأ مجتمعًا إسْـــلَاميًّا، وحظيت الرسالةُ الإسْـــلَامية بقابليةٍ عاليةٍ وبحاضنة اجتماعية تمثلت بالأنصار (الأوس والخزرج)، الذين أسلموا وآمنوا وآووا ونصروا وحملوا راية الإسْـــلَام، واستقبلوا الرسول والمهاجرين، استقبلوا رسول الله (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) وانضووا تحت راية الإسْـــلَام، أُمَّــة مجاهدة، واقفة، معطية، وتحَــرّكوا تحت راية الإسْـــلَام، تحت قيادة الرسول (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) لحمل راية الإسْـــلَام.
بعدَ سبعةِ أشهرٍ من هجرةِ النبيِّ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) إلى المدينة وبدأت تلتحق به جموع المهاجرين بدأً من مَكَّــةَ، البعض من مناطق أُخْــرَى، بدأ الرسولُ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) نشاطاتِه العسكريّةَ المتمثلةَ بسرايا الاستطلاع، والأنشطة التي تمثل حالةً من التجهيز والاستعداد، لماذا؟ بناءً على الوعي بواقع هذه الحياة وبطبيعة الظروف القائمة في الواقع البشري وبالفهم الصحيح لقوى الشر والطاغوت أنها قوى مستكبرة ومستبدة، وأنها بطبيعة ما هي عليه من الطغيان والإجْـــرَام والطمع والفساد والعدوانية والشر، لن تتركَ للأُمَّــة الإسْـــلَامية أن تنشأ كَأُمَّــةٍ مستقلّة ومتحرّرة عن التبعية لقوى الطاغوت، وأن تبني حياتها وتبني واقعها على أَسَاس من نهج الله وتعاليمه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فهم صحيح يعني لطبيعة الظروف والواقع البشري وفهم صحيح لقوى الطاغوت، لطبيعة ما تحمله من نظرة استكبار ومن توجهات وسلوكيات ونزعات ونزعة عدوانية.
فبدأ استعداداته بتوجيهات من الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، والذي حدث بالفعل أن الرسول بعد استقراره في المدينة، لم تتجاهل قوى الطاغوت الحركة الجديدة للرسول والظروف الجديدة التي تهيئ المسلمين البناء لأنفسهم كَأُمَّــةٍ مستقلّة، قوى الطاغوت كانت تنظر إلى هذه الخطوة بنظرة نظرة الشر، نظرة عدوانية ولهذا بدأت أَيـْـضًا هي المساعي من جانبها للتحضير لاستئصال هذه الأُمَّــة وضرب هذا الكيان الإسْـــلَامي العظيم الذي بدأ رسول الله (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) ببنائه، فاتجهت قريش من جانبها لبعض التحضيرات العدوانية والتحضير لمرحلة عسكريّة حاسمة، وبدأت نشاطُها للتأثير على المحيط الذي يعيشُ فيه النبيُّ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) محيط المدينة، بالتنسيق مع اليهود وبالتنسيق مع القبائل الأُخْــرَى، وقريش كانت تستند في تزعمها للحرب ضد الإسْـــلَام، ضد رسول الله (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) كانت تستند إلى جانبين مهمين وأَسَاسيين تستغلهما:
الأول: تستندُ إلى مركَزِها وثقلها في المنطقة الذي توفر لها؛ بسَببِ وجودها في مَكَّــةَ المكرمة، مَكَّــةَ والبيت الحرام والمشاعر المقدسة هناك.
الثاني: كانت تحظى في الساحة العربية بالاحترام والتقدير من بعد زمن نبي الله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وكان العربُ يؤمنون بالحج ويحجّون ويقدّسون الكعبةَ، البيتَ الحرام، وكذلك يقدسون مشاعر الحج، وكانت قريش بسيطرتها على مَكَّــةَ وإدارتها لشؤون الحج ومراسم الحج وتواجدها هناك؛ ولأنها البقيةُ الباقية لذرية نبي الله إسماعيل عليه السلام هناك في مَكَّــةَ، ومن موقع إدارتها للحج وتواجدها في المشاعر المقدسة كانت تستغلُّ هذا الثقلَ في التأثير والنفوذ في علاقاتها مع بقية المناطق العربية والقبائل العربية كما كانت تستغل ثروتها المادية، كانت تعيشُ رخاء اقتصادياً وإمْكَانياتٍ اقتصاديةً متميزة عن بقية المناطق الأُخْــرَى، بفضلِ مَكَّــةَ المكرمة بفضل البيت الحرام، بفضلِ دعوة نبي الله إبراهيم بالرزق لقاطني مَكَّــةَ ومجاوري البيت الحرام، (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا) (البقرة: 126). فكانوا يستغلون ما هم عليه من الثروة والإمْكَانات المادية من جهة، ويستغلون ثقلهم نتيجة المركز الديني في البيت الحرام من جانب آخر، فكان لهم نفوذهم الواسع في المنطقة العربية وفي القبائل العربية وتأثيرهم الكبير الذي وظّفوه في الحرب ضد رسول الله (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) وضد المسلمين، وسعوا بالتنسيق مع القوى الأُخْــرَى والقبائل الأُخْــرَى ومع اليهود إلى العمل المستمر للحيلولة دون أن يتمكّن المسلمون من بناءِ أُمَّــةٍ مسلمةٍ مستقلّةٍ متحرّرة تحملُ راية الإسْـــلَام، وتَدينُ بالإسْـــلَام وتبني حياتَها على أَسَاسٍ من تعاليم هذا الإسْـــلَام؛ ولذلك ما إِنْ أتت السنةُ الثانية للهجرة حتى كان الوضعُ العام يتفاقمُ في التوتر وُصُولاً إلى انفجار الموقف عسكريّا، واتجه الأَعْـــدَاء، اتّجهت قريشٌ بجيشها الجرّارِ للحرب التي تهدف من خلالها إلى استئصال شأفة المسلمين والقضاء على الرسول (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) وكان ذلك في شهر رمضان المبارك من السنة الثانية للهجرة.
الرسولُ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) تحَــرّكَ كذلك تحَــرّكًا للتصدي لهذه المحاولات الرامية إلى القضاء على المسلمين، وتحَــرّك في المدينة المنورة وحاول أن يستنهضَ المسلمين للتحَــرّك للتصدي للأَعْـــدَاء، ومن بيئة كانت لا تزال تعاني من حالة من الاستضعاف ومن التردّد لدى البعض، ومن وجودِ حالاتٍ سلبية في الساحة الإسْـــلَامية، تعيشُ حالةَ ضعف، لا تتأثر بالإسْـــلَام بالدرجة الكافية، التي تساعدُها على الوقوف الموقف الصحيح الذي يتناسب مع توجيهات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ومع طبيعة الظروف ومستوى التحدي والخطر، فرسول الله (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) استنهض المسلمين وتحَــرّك واستجاب له البعض، والبعض الآخر كانوا متردّدين، البعض كانوا سلبيين، كانوا سلبيين جِــدًّا، الحالة السلبية هذه تزعّمها المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ، الذين عملوا على التأثير في نفوس الكثير من الناس والتثبيط والتخذيل والإرجاف والتهويل وإضعاف العزم لدى الكثير من المسلمين، ولكن الرسولَ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) لم يبالِ ولم يكترث بأولئك الذين كانوا يتحَــرّكون على هذا النحوِ السلبيِّ في تخذيل الناس وفي إضعاف الموقف من الساحة الداخلية، كما كان حتى البعض ممن تحَــرّكوا وانطلقوا لهم موقف متردّد ومخاوفهم كانت مخاوف كبيرة، وكانوا يجادلون رسولَ الله (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ)، لكن رسولَ الله (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) ببصيرته العالية وفَهْمِه الصحيح وإيْمَــانه العظيم وعزمه الحديدي الذي لا يلين، كان يحرص على تنفيذ أوامر الله وتوجيهاته ويجعل لها أولوية مطلقة ويتحَــرّك على أَسَاسها دون الاكتراث بكل أولئك المثبطين والمخذلين والمجادلين والمناقشين والمتردّدين والمضطربين وتحدث القُـــرْآن الكريم عن ذلك في قول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ) (الأنفال: 5 – 6)، وكذلك يتحدث في آية أُخْــرَى: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال:49).
فالحالةُ هذه التي تحَــرّك فيها رسولُ الله (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) ومعه الصادقون والأوفياء من المؤمنين الذين انطلقوا بروحيةٍ عالية واستعدادٍ كبير واستبسالٍ في سبيل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ووصلوا إلى منطقة بَدْر، هذه المنطقة التي تبعُدُ عن المدينة بما يقارب 160 كيلو متراً، وصل إلى هناك والتقى بجيش المشركين هناك وكان جيشاً كثيرَ العدد، ويمتلك الإمْكَانياتِ العسكريّةَ والقدراتِ العسكريّةَ بحسب نوعها آنذاك، ما لا يمتلكُه المسلمون، ولكن رسولَ الله (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) لم يكن يتحَــرّك في موقفه العسكريّ بناء على التكافؤ المادي، التكافؤ في العدد والعدة، لا، كان يعتمد على الله ويثق بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويركز على الحالة المعنوية العالية وعلى الصبر والاستبسال والاندفاع الكبير للمؤمنين الذين يعتمدون على الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويحظون برعايته المعنوية وبنصره وتأييده في الموقف.
كانت معركةُ بدر معركة مهمةً جِــدًّا، تحقّـــق فيها أول انتصار وأَكْبَــر انتصار آنذاك في تلك المرحلة غيّر موازين المعركة، وغير المستقبل بكله، أسّس لمستقبل جديد، فلذلك كان يوما فارقا في التأريخ، كان ما بعده يختلف عما قبله، في تلك المعركة قُتل عدد ما يقارب السبعين من المشركين من أَعْـــدَاء الإسْـــلَام وكان فيهم قيادات أَسَاسية وشخصيات عسكريّة مهمة وأبطال من أبطال الأَعْـــدَاء، فمثّل هذا كسرا لشوكة الشرك، لشوكة الأَعْـــدَاء وأثر تأثيراً كَبيراً حتى في الأحداث المستقبلية، ما بعد غزوة بدر وصولاً إلى فتح مَكَّــةَ في السنة الثامنة للهجرة والذي كان أيضاً في شهر رمضان، كان لهذا الانتصار التأريخي والعظيم، أثرٌ كبيرٌ في الساحة، في واقع المسلمين ارتفعت المعنويات، اطمأنت النفوس، استقوى أمرُ الأُمَّــة، ازدادت القناعةُ والتصميم على مواصلة المشوار تحت راية الإسْـــلَام، وتأثيرٌ كبيرٌ في الساحة والمحيط العربي آنذاك، في القبائل العربية الأُخْــرَى ولدى الأطراف الأُخْــرَى، وكان حدثاً مهماً جِــدًّا استحق أن يسميه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- (يوم الفرقان)؛ لأَنَّه كان يوماً فارقاً في التأريخ، وأسّس لمرحلة جديدة، وحسم الوضع في معركة كانت معركة مصيرية.
كانت تلك المعركة لو استشهد فيها الرسولُ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) وتمكّن الأَعْـــدَاء من قتل المسلمين وحسم المعركة لصالحهم، لاستمر الطاغوت في سيطرته العامة على الواقع وبتأثيره الكبير جِــدًّا في الساحة، ولانطفأ نور الإسْـــلَام، ولكن اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يأبى إلا أن يُتمَّ نورُه، كان لذلك الانتصار أهميَّةٌ كبيرة جِــدًّا في ارتفاع راية الإسْـــلَام وفي استمرارية بناء هذه الأُمَّــة المسلمة المتحرّرة من ولاية الطاغوت، من ولاية الطاغوت؛ لأَنَّ الحالة القائمة في الواقع البشري، إما أن تكون تحت ولاية الطاغوت، وإما تحت ولاية الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ ولذلك يقولُ اللهُ في القُـــرْآن الكريم: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) (البقرة:257). ويقول الله -جَــلَّ شَأْنُــهُ-: (فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا) (البقرة:256). وهكذا تأتي الآياتُ الأُخْــرَى التي تؤكّــدُ أن ولايةَ الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولاية يتحرّرُ فيها الإنْسَــانُ من الطاغوت ومن سيطرته، ويعتمد في حياته على هداية الله، على منهج الله، على توجيهات الله، على تعليمات الله، ليبنيَ عليها مسيرةَ حياته ويبني عليها مواقفه، وهذه المسألة هي المسألة الحساسة جِــدًّا في كُــــلّ زمن وفي كُــــلّ عصر.
نحن في هذا العصر نواجهُ الطاغوتَ المتمثلَ في أمريكا وإسرائيل ومن يدور في فلكهم، ونحن بين خيارين إما أن نبني مسيرة حياتنا على أَسَاس مستقلٍّ، ومتحرّر من هذه الهيمنة بالاعتماد على تعليمات الله، وتوجيهات الله، ومنهج الله، وبمقتضى انتمائنا لهذا الإسْـــلَام العظيم، أَو أن نصنع كما يريد الآخرون أن يتكيفوا مع الطاغوت، أن يتكيِّفوا وأن يقولبوا واقعَهم الديني بما يتلاءم مع الطاغوت، وهذه الحالة التي كان يسعى لها الطاغوت في حربه على رسول الله (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) ولكنه فشل، رسول الله لم يتكيف، من قبله في حركه الرسالة السابقة، أهل الكتاب كانوا قد تكيفوا، اليهود تكيفوا مع الطاغوت وآمنوا بالجبت (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) (النساء:51).
تكيّفوا هم وحرّفوا الرسالةَ الإلهيةَ وانحرفوا عن كثيرٍ من مبادئها الرئيسية والأَسَاسية، وتعاليمها المهمة، وابقوا منها طقوساً وشكلياتٍ بالقدر الذي لا يحتكون به مع الطاغوت، وأصبحوا تحت ولاية الطاغوت.
المنافقون لا مانعَ عندهم أن يتكيفوا من واقع انتمائهم الإسْـــلَامي، أن يتكيفوا مع الطاغوت وكانوا على هذا النحو حتى في زمن رسول الله (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) ونزل قول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) (النساء:60).
هكذا، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، أن يقبلوا بحاكميته بحاكمية الطاغوت عليهم، يؤكّــد القُـــرْآن الكريم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا) (النساء:61). فلا مانع لدى المنافقين والذين في قلوبهم مرضٌ والذين لم يعوا جوهر هذا الدين، أَسَاس هذا الدين، المبادئ الرئيسية لهذا الإسْـــلَام، لا مانعَ عندهم من واقع انتمائهم لهذا الإسْـــلَام، الانْتِمَاء غير الواعي، غير السليم، أن يتكيفوا مع الطاغوت، وأن يبتعدوا عما أنزل الله، في كثير من المبادئ، في كثير من التوجيهات، في كثير من التعليمات، وأن يتحَــرّكوا وفق ما يأمر به الطاغوت وتحت ولاية الطاغوت؛ ولهذا كانت مسيرة الرسول (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) المعبرة عن حقيقه الإسْـــلَام، وعن مبادئ الإسْـــلَام، وعن قيم الإسْـــلَام، مسيرة تحرّرية، مسيرة مستقلّة، مسيرة تكفر بالطاغوت، وتؤمن بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، مسيرة تبني الأُمَّــة المسلمة على أَسَاسٍ من الاستقلال، وليس على أَسَاسٍ من التبعية لأعدائها، ليس على أَسَاس من التبعية للطاغوت والتكيّف مع الطاغوت، والتحَــرّك تحت ولاية الطاغوت.
اليومَ كُــــلُّ الذين يتحَــرّكون تحتَ الراية الأمريكية ويوالون أمريكا ويسعَون إلى التحَــرّك بأمتنا تحت ولاية أمريكا، إنهم جَميعاً تحت ولاية الطاغوت، إنهم يتولون الطاغوت، وهذا غير مقبول أَبـَـدًا في نهج الإسْـــلَام العظيم.
اللهُ يقولُ: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) (النساء: 76). والطاغوتُ هو مشروعٌ شيطانيٌّ في الواقع البشري، هو يرتبط بالشيطان، ولهذا كان مرتبطا في الآية المباركة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ) (النساء:76).
نحن بحاجةٍ إلى أن نلتفتَ من جديد إلى الإسْـــلَامِ كما هو في مبادئه العظيمة التي تكفل لنا أن نبنيَ واقعنا على أَسَاس مستقلّ ومتحرّر من التبعية لأعدائنا، من الخضوع لولاية الطاغوت حتى ننعم بولاية الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، التي يُخرجنا الله بها من الظلمات إلى النور، إلى النور، والتي نحظى من خلالها بالعزة والكرامة، وننعم بها بالتحرّر من عبئ الطاغوت، في ظلمه وطغيانه وإجْـــرَامه واستعباده وقهره وإذلاله للإنْسَــان، واستغلاله للإنْسَــان، وكانت مسيرةُ الرسول (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) مسيرةَ جِهَــاد، ومسيرةَ تضحية، وأتت الآياتُ الكثيرةُ في القُـــرْآن الكريم التي تجعَلُ من الجِهَــاد في سبيل الله، عنواناً رئيسياً وفريضةً عظيمةً ومهمةً في الإسْـــلَام من أَهَمِّ فرائضِ الإسْـــلَام، تحمي الأُمَّــةَ، تكسبُ بها الأُمَّــةُ المنعةَ والعزةَ والقوة، وتُحَرِّر الأُمَّــةَ من ولاية الطاغوت ومن سيطرة الطاغوت، وتحمي الأُمَّــةَ من الذل والهوان والاستعباد والقهر.
إن شاء الله نسلِّطُ الضوءَ على المزيدِ من هذا الموضوعِ، أَو في هذا الموضوع في المحاضَرة القادمة.
نَسْأَلُ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنْ يُوَفِّـــقَنَا وإيّاكم لما يُرضيه عنَّا.. وَأَنْ يَرْحَــمَ شُهْدَاءَنا الأبرارَ، وَأَنْ يشفِــيَ جرحانا، وَأَنْ يفــرِّجَ عن أسرانا وَأَنْ يَنْصُرَنَا بنَصْرِهِ.. إِنَّـهُ سَـمِيْـعُ الدُّعَـاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه..