السيد عبدالملك الحوثي في محاضرته الرمضانية التاسعة عشرة:
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنك حميدٌ مجيدٌ.
وَارْضَ اللَّهُم برِضَاكَ عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المنتجَبين وَعَـــنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّـالِحِين.
أَيُّهَـا الإِخْـوَةُ والأَخَــوَاتُ.. السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.
وَتقبَّــلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ الصِّيَــامَ والقيامَ وصالحَ الأعمال، اللهم اهدِنا وتقبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّميعُ العليمُ، وتُبْ علينا إِنَّكَ أَنْتَ التوابُ الرحيم.
في الحديثِ عن الفريضة الإلهية المهمة التي هي الجِهَـاد في سبيل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يتضح لنا من خلال الواقع ومن خلال العودة إلى القُــرْآن الكريم ومعرفة السنن الإلهية والتأمل في توجيهات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن اللهَ وهو الذي في كُــلّ ما شرعه لنا وأمرنا به إنما يأمرنا بما هو خيرٌ لنا وأنه -جَــلَّ شَأْنُــهُ- يوجهنا إلى ما فيه الرشاد والفلاح والفوز لنا؛ لأَنَّه غنيٌّ عنا وعن أعمالنا عن طاعتنا لا تنفعُه طاعتُنا ولا تضره معصيتنا.
فعندما أمرنا بالجِهَـاد في سبيله قال -جَــلَّ شَأْنُــهُ- (وَمَن جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفسِهِ) (العنكبوت: 6) قال -جَــلَّ شَأْنُــهُ- (ذلِكُم خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمونَ) (التوبة: 41) الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جعل من أعظم ما يرعى به عباده وأعظم نعمة وأجل نعمة أنعم بها عليهم نعمة الدين، الدين الإلهي الذي نتحَــرّك فيه وننظم مسيرة حياتنا على أَسَاسه بالالتزام بتلك التعليمات والتوجيهات التي مصدرها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهي من منطلق رحمته وهو أرحم الرحمين، ومن منطلق حكمته وهو أحكم الحاكمين، وتوجيهات تصلنا بتدبيره وهو الذي يدبر شؤون السماوات والأرض وهو ملك السماوات والأرض، وهو الذي بيده الموت والحياة ويذل من يشاء ويعز من يشاء وإليه المصير، وهو الذي يحاسب وهو الذي يجازي، فتوجيهاته وأوامره ودينه الذي ندين به في هذه الحياة هو مهم بالنسبة لنا؛ لأَنَّ مصيرَنا في الحياة الدنيا في تدبير الله وفيما يكتبه لنا أَو علينا ومصيرنا في الآخرة سيكون بناء على مدى التزامنا بهذا الدين أَو موقفنا منه.
فالدينُ في أَسَاسه هو نُظُمٌ لحياة البشر على أَسَاسٍ من هدي الله وتوجيهاته واللهُ رحيمٌ بعباده، ما كان ليهملَهم في مجالات مهمة وجوانبَ أَسَاسيةٍ إن لم يقدم لهم فيها الهداية والتوجيه يمكن أن يترتب على ذلك الضرر الكبير عليهم في واقع حياتهم، اللهُ رحيمٌ بعباده هو القائل -جَــلَّ شَأْنُــهُ- (وَمَا اللَّهُ يُريدُ ظُلمًا لِلعِبادِ) (غافر: 31) وقال -جَــلَّ شَأْنُــهُ- (وما الله يريد ظلما للعالمين)، وهكذا يريد (وَما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلعَبيدِ) (فصلت: 46) لا هو يظلم ولا هو يريد لهم أن يُظلَموا.
من أَكْبَــرِ ما نعاني منه في واقع الحياة وفي المقدمة المسلمون، المعاناة من الظلم نحن أُمَّــة مظلومة نحن أُمَّــة تتجه الكثير من الأُمَم من مختلف الديانات والأقوام بالعداء لنا والتسلط علينا والطمع فينا وفي أرضنا وفي مقدراتنا وتتوجه للاستحواذ علينا والسيطرة علينا والتحكم بنا وهذا ما حدث على مر التأريخ كم هجمات عانت منها الأُمَّــة من خارج الأُمَّــة، التتار في هجمتهم المدمّرة على العالم الإسْــلَامي الصليبيون في حملاتهم المدمّرة التي فتكوا فيها بالمسلمين وقتلوا وهتكوا العرضَ وسبوا النساء، سبوا الآلاف المؤلَّفة من نساء الأُمَّــة الإسْــلَامية وأخذوا البعضَ منهن إلى أوروبا واحتلوا أجزاءً واسعةً من بلاد الأُمَّــة الإسْــلَامية وفيما بعد ذلك الاستعمار البريطاني، الهجمات التي أتت من دول غربية كثيرة، الاستعمار الفرنسي، الاستعمار الإيطالي، الاستعمار، الألماني لبعض الدول العربية كذلك والإسْــلَامية، ما قبل ذلك الهجمات من البرتغاليين، كم عانت الأُمَّــة في تأريخها من حالة الاستعمار وكم عانت من حالة الاستهداف، واليوم نعاني من الاستهداف الأمريكي والاستهداف الإسرائيلي والاستهداف من دول أُخْــرَى والاستعمار والهيمنة والسيطرة والتحكم بالأمة في قراراتها وتوجهاتها وفي مواقفها والاستئثار بخيراتها والنهب لمقدراتها، لماذا لماذا كُــلُّ هذه المعاناة؟ لماذا هذا الاستهدافُ؟ لماذا هذا الواقعُ الذي تعيش فيه الأُمَّــة مطمعا لغيرها؟ ويرى فيها الآخرون فريسة سهلة يتنافسون عليها ويتسابقون عليها ويرون فيها مغنما عظيماً وهائلا ومغرياً، يتقافزون عليه مع ما عانت منه الأُمَّــة من الاستبداد الداخلي والظلم الداخلي من خلال الدولة الأموية الدولة العباسية دول كثيرة تعاقبت على هذه الأُمَّــة، هل توجيهات الله وهل دينه لم يأتِ فيه ما يمثل حماية للأُمَّــة ما يبني الأُمَّــة لتكون أُمَّــةً قويةً ذات منعة في مواجهة هذه التحديات والأخطار؟ هل الدين الإسْــلَامي نتيجة التمسك به أَنْ نَكُوْنَ نحن كمسلمين أضعف الأُمَم؟ أذل الأُمَم الأُمَّــة التي يدوسها الآخرون ويطمعُ بها الآخرون وتتوارثها قوى الاستعمار من الديانات الأُخْــرَى من الأُمَم الأُخْــرَى يأتي الصليبيون يأتي بعدهم البريطانيون الفرنسيون الإيطاليون والبرتغاليون قبلهم، يأتي بعد ذلك الأمريكي ليكون الوارث، وهكذا في كُــلّ مرحلة من المراحل يأتي وارثٌ يرث هذه الأُمَّــة وكأنها قطعة من الممتلكات التي يتداولها الآخرون. هذه حالة مؤسفة حالة مأساوية حالة محزنة أَنْ نَكُوْنَ هكذا أُمَّــة ضعيفة، مرة يأتي الأمريكي قبله البريطاني ومن قبله الفرنسي، في كُــلّ فترة يأتي أحد من هنا أَو من هناك ليرثنا ليرث السيطرة علينا والتحكم بنا والنهب لثرواتنا ومقدراتنا هذه مأساة هذه حالة غير لائقة بنا بحسب ديننا وتوجيهات الله لنا.
عندما نعودُ إلى القُــرْآنِ الكريم نجدُ أن اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهو الحكيمُ والرحيم والملك والعظيم والعزيز والجبار والقهار لا يريد لنا أَبَـدًا أَنْ نَكُوْنَ على هذا النحو الأُمَّــة الضعيفة التي دَائمًا يأتي الآخرون جيلاً بعد جيل مرحلة بعد مرحلة ليطمعوا به ويتوارثوها ويسيطروا عليها، ومن يد إلى يد يستلموها هذه حالة سلبية جِــدًّا في كُــلّ فترة يأتي مستعمر يسيطر حتى يضعف عندما يضعف يأتي المستعمر الآخر فيستلم الدور، وذاك يسلم له تفضل هذه الأُمَّــة الإسْــلَامية ليس هذا فحسب بل في كُــلّ حقبة استعمارية يقومون أولئك المستعمرون يقومون برسم مسار هذه الأُمَّــة لمراحل قادمة حتى على المستوى السياسيّ والجغرافي خطط جديدة ومسارات جديدة وتقسيمات جديدة مثلما فعلوا بتجزئتنا، كنا أُمَّــة كبيرة فقاموا بتجزئتنا إلى دويلات، والآن تحتكم الأُمَّــة إليهم عند الاختلاف على الحدود أنتم من قمتم بتقسيمنا والآن لدينا خلافٌ عندما قمتم بتقسيمنا أين وضعتم الحد بين هذه المنطقة وتلك، ويضعون عليها من العملاء الذين يَدينون بالولاء لهم وينفذون مؤامراتهم ومُخَطّطاتهم ويواصلون المشوار في التحكم بالأمة لمراحل زمنية طويلة.
اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو العظيمُ هو الرحيمُ هو الحكيمُ هو العزيز وثمرةُ دينه هي عزةٌ هي حرية هي كرامة هي قوة أن تتصل بتوجيهات الحكيم هي توجيهات حكيمة تكسبك الحكمة، تصرف صحيح سياسة صحيحة عمل صحيح رؤية صحيحة فكرة صحيحة، أن تتصل بالعزيز في توجيهاته وتحظى برعايته تكسب العزة ولهذا يقول الله (وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسولِهِ وَلِلمُؤمِنينَ) (المنافقون: 8) الله يريد لنا أَنْ نَكُوْنَ أعزاء ولهذا يقول في آية أُخْــرَى (أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكافِرينَ) (المائدة: 54) (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) الدين في جوهره في مبادئه في قيمه في تشريعاته، دين الله الإسْــلَام العظيم هو على النحو الذي إِذَا التزمنا به وتمسكنا به وتحَــرّكنا على أَسَاسه ونهضنا في واقع حياتنا على أَسَاسه يبنينا أُمَّــة مستقيمة مستقلة متحرّرة من التبعية وقوية في مواجهة التحديات، وينظم حياتنا في كُــلّ المجالات ومنها مجال الصراع، والصراع الذي كما كرّرنا كَثيراً جزء من واقع هذه الحياة لا مناصَ منه حالة قائمة فكيف نمارس هذا الصراع ويتحول في واقعنا إلى حالة إيجابية، حالة إيجابية على كُــلّ المستويات على المستوى التربوي والإيْمَاني والأَخْــلَاقي والنهضوي وعلى مستوى العمل في فضله وأجره عند الله وما يترتب عليه أَيْضاً في الآخرة وعلى المستوى الاجتماعي والداخلي للأُمَّــة وهذا هو فضل وأثر الجِهَـاد في سبيل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ لأَنَّه الذي ينظم لنا كيف نواجه التحديات والأخطار كيف ندفع الشر كيف ندفع الفساد كيف ندفع الطغيان كيف ندفع المنكر وكيف نتحَــرّك في حركة الحياة، هذه فيما يتعلق بالصراع على أَسَاس من التعليمات الإلهية في الدوافع والضوابط والمبادئ والتصرفات والممارسات وفي السلوك العام، هذه مسالة مهمة جِــدًّا أهملتها الأُمَّــة وتهربت منها الأُمَّــة فماذا كانت النتيجة الضعف الوهن التدجين الاستغلال الاستنزاف كوارث عانت منها الأُمَّــة.
في مقدمةِ الآثار الطيبة لفريضة الجِهَـاد في سيبيل الله الأثر التربوي إيْمَانيًّا هناك أَشْيَاءُ كثيرة في الدين وبل ما من شيء من تعليمات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إلا ولتطبيقه والالتزام به أثرٌ إيجابي في النفس، وفي الواقع هذه قاعدة عامة لِكُلِّ ما أمرنا الله به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، أثر إيجابي في النفس في المشاعر في الوجدان، يطهر مشاعر الإنْسَــان، يزكي النفس البشرية، يسهم في ترسيخ مشاعر الخير في تنمية مكارم الأَخْــلَاق وتجذيرها في الوجدان والمشاعر يصلح النفس، وفي نفس الوقت أثر إيجابي في واقع الحياة، أثر إيجابي في حياة الإنْسَــان نفسه فيما يحتاج إليه في صلاح حياته واستقرار حياته وازدهار حياته وحل مشاكله.
الجِهَـادُ في سبيل الله له أثرٌ تربوي عظيم في نفسية الإنْسَــان، لاحظوا الكثيرَ من الأعمال الكثير من المساعي التربوية للنفس البشرية لكي تكون أعظم إيْمَانا الحالة الإيْمَانية هي حالة بينك وبين الله في محبتك لله في خوفك من الله في خشيتك من الله في تعظيمك لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وبالتالي في طاعتك له والتزامك العملي بتوجيهاته في هذ الحياة كثير من الجهود التربوية من الوعاظ والمعلمين والبعض من العلماء والمرشدين الذين لديهم توجه جزئي للقبول ببعض الدين ورفض الآخر والذين يقتصرون على بعض من الإسْــلَام والدين ويشطبون ما تبقى منه كم يبذلون من جهودٍ في مواعظهم ومحاضراتهم وتثقيفهم وتعليمهم ليعززوا المعاني الإيْمَانية في نفسية الإنْسَــان ومشاعره، كيف يجعلون منه إنْسَــانًا خاشعا لله خائفا من الله خاضعا لله، كم يبذل الواحد منهم من جهد وهو يخيف الآخرين من القبر وأهواله وسكرات الموت وغير ذلك في سعي حثيث للإيصال بالإنْسَــان إلى درجة أن يبكي فإذا بكى الإنْسَــانُ من الأهوال والمآسي والأمور الرهيبة والأهوال الكبيرة يرتاحون ويعتبرون أنهم قد حقّــقوا نجاحا كبيرا في التأثير على هذا الإنْسَــان، فقد أوصلوه إلى درجة أن يبكي من تلك الأهوال الرهيبة جِــدًّا من سكرات الموت والحالات تلك ومن القبر وأهواله تلك التي يحكونها له، ثم في حالة أُخْــرَى قد يعتبرون أنفسهم فتحوا فتحا عظيما؛ لأَنَّهم نجحوا بهذا الإنْسَــان أن يصل في صلاة الجماعة وهذا إنجاز كبير جِــدًّا أنهم وصلوا مع هذا الإنْسَــان إلى درجة أن يكف عن بعض من الجرائم الشنيعة الجرائم الأَخْــلَاقية والسرقة مَثَـلاً أَو أنه في الزَّيِّ التزم في الزي الإسْــلَامي إلى حَــدٍّ ما يعني جوانب معينة من الدين، الاقتصار عليها هو الخطأ ويعتبرون أنفسهم في ذلك صاغوا شخصية مؤمنة ووليا من أولياء الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وبالذات إِذَا انظم إلى ذلك أنه يهتم ببعض الأذكار التي قد يرددها حتى وهو في منزله مستلقٍ على ظهره في فراشه هو والمسبحة في هذه الحالة أصبح شخصية مؤمنة عظيمة، ووليا كبيرا من أولياء الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ما هو النموذج الذي يبنيه الإسْــلَام الإسْــلَام في منهجه العظيم والقُــرْآن في تأثيره الكبير سيبنيك مصليا ذاكرا لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ملتزما دينيا ولكنه يبنيك لأعظم ما هو من ذلك، إنه يجذر فيك من معاني الإيْمَان ما يفقده الكثير من تلك الأنماط الشخصية التي يصيغونها لتكون هي النموذج الإيْمَاني بحسب تقديراتهم، مَثَـلاً ذلك وهو على المسبحة مستلقٍ في فراشه وقد أصبح يعيش المشاعر الإيْمَانية ولكنه في الوقت نفسه يتفرج على واقع أمته، الظلم الذي ملأ هذه الساحة الإسْــلَامية ليس له أي موقف بل مشاعره جامدة تجاه ما تعانيه الأُمَّــة عذابات هذه الأُمَّــة مظلومية هذه الأُمَّــة مسألة لا تهز فيه شعرة ولا تؤثر أي أثر في وجدانه، بل قد يصل إلى درجة أنه معرض عن أمته بكل ما تعانيه وبكل ما في واقعها لا يتابع الأخبار لا يعرف ماذا يدور ولا ماذا يجري، وإن تابع فهو قد تثقف بثقافة تجعله قاسي القلب، خشن المشاعر تجاه الأُمَّــة بكلها، يعيش مشاعر سلبية تجاه الجميع، ولا يبالي بما حَلَّ بهم ولا بما يعانون منه، ويشعر دَائمًا بأنه غير معني بكل هذا الواقع، وأنه قد أدّى ما عليه وما يوصله الجنة من أوسع أبوابها، بقي فقط أن ينتقل إلى الدار الآخرة، وفي يوم القيامة تلك الحسنات التي التقطها من هنا ومن هناك من بعض المندوبات وبعض المستحبات ستكون كافية لأَن تكون الملائكة مسارعة جِــدًّا من أول ما يظهر في ساحة المحشر لالتقاطه والترتيبات العاجلة لتسفيره إلى الجنة، هكذا يتوقعون.
القُــرْآنُ الكريم يبني شخصيةً مختلفة عن هذه النماذج التي لا تحقُ حقًّا ولا تُبطِلُ باطلاً، لا تقيم عدلاً، لا تحقّــق الخير لأمتها، لا تدفع الشر عن أمتها، لا تسهم أي إسهام في واقع حياة الناس في القضايا الكبيرة والرئيسية والمهمة، القُــرْآن الكريم يبني مصليا مؤمنا ملتزما، ولكن يبني إنْسَــانًا واثقاً بالله، عظيم الثقة بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، إنْسَــانًا يخشى الله وحده ولا يخشى كُــلّ هؤلاء البشرية في كُــلّ أصقاع الأرض ولن يترك من أجل كُــلّ الطغاة والمتكبرين عملا واحدا أَو مسألة واحدة يريدها الله منه أَو يأمره بها، إنْسَــانًا لا يترجم إيْمَانه فقط بأخذ المسبحة على الفراش وهو يضطجع ويرتاح، وإنما يترجم هذا الإيْمَان ثقة عظيمة بالله وهو يواجه التحديات والأخطار، إنْسَــانًا ليس أقصى ما يصل إليه في إيْمَانه أن يذهب إلى المسجد في مدينة هادئة ومستقرة لأداء صلاة الجماعة، ولكنه حاضر أن يذهب إلى الميدان ليقدم روحه ليبذل حياته في سبيل الله، إنْسَــانًا يحقّــق في واقعه قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة: 111). إنْسَــان حاضر أن يقدم الروح والحياة والمنزل والممتلكات وكل شيء في سبيل الله وأن يضحي بكل ما يملك من أجل أن يرضى الله عنه.
هذه التربية الراقية جِــدًّا، إنْسَــان يحمل الرحمة للناس ويشعر بمسؤوليته تجاه الآخرين، لا يعيش حالة الأنانية، يكفيه أن ينجو هو بنفسه، ببعض من المستحبات والمندوبات والالتزامات المحدودة ولا يبالي بالآخرين، لا، إنْسَــان يتوكل على الله ويعرف ما معنى التوكل على الله، وليس إنْسَــاناً يجيد التخلص والتهرب والتَّنَصُّــل عن المسؤولية من خلال مبررات وأعذار وتبريرات لا أول لها ولا آخر، لا، إنْسَــان يسارع ويسابق في الخيرات وفي مقدمة هذه الخيرات تلك الأعمال ذات الشأن العظيم عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، إنْسَــان حين يقرأ في المصحف قول الله تعالى: (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) (النساء:95-96). يتوق إلى أن ينال هذا الشرف، يتوق إلى أن يصعد في هذه الدرجات إلى الأعلى، وليس إنْسَــانًا يتجاهل كُــلّ ذلك، وعنده نظرة غريبة جِــدًّا، فرق بين إنْسَــان منتهى حبه لله وغاية خشيته من الله أن يحملَ المسبحةَ ويصل إلى المسجد، هذا حَدُّه الأخير، وبين إنْسَــان منتهى حبه لله وخشيته من الله أن يضحي بنفسه حتى لو تقطع إربا إربا في سبيل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، إنْسَــان يتشوق شوقا إلى أن يبذل أغلى شيء يملكه في سبيل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويقدمه إلى الله، يقدم نفسه قربانا إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وإنْسَــانًا يتهرب من أن يواجه أي عناء ولو أبسط عناء في سبيل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويتفلسف لذلك ويبحث ويحاول أن يخرج مسألة من هنا وعذرا من هناك وتبريرا من هناك، لماذا؟ ليساعد نفسه في القعود والجمود والتَّنَصُّــل عن المسؤولية، فرق كبير، ولذلك نجد أن الأثر، حتى الأثر التربوي لهذه الفريضة، أثر عظيم يصنع إيْمَاناً عظيماً يجعلك تعيش معنى التوكل على الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالفعل، حالة واقعية تعيشها فأنت تتخذ القرارات الكبيرة وتتبنى المواقف الكبيرة بالرغم من حجم التحديات الهائلة، لماذا؟ لسبب واحد، أنك حسبت حساب التوكل على الله، ترى ما يمتلكه أعداؤك من إمْكَانياتك هائلة وقدرات كبيرة وترى ما تعانيه أنت من ظروف صعبة وتحديات كبيرة وعوائق كثيرة، لو قرّرت أن تنطلق بالاستناد إلى مستوى ما تملكه وما بيدك لن تتخذ هذا القرار أَبَـدًا، لو كان هو المعيار لقرارك، لكنك من واقع إيْمَانك حسبت حساب التوكل على الله، الثقة بالله، العمل بما هو رضا لله وهدفك الكبير هو الحصول على رضوان الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وأنك في سيبل الوصول إلى هذا الهدف حاضر بأن تبذل كُــلّ شيء وتضحي بكل شيء وتعانى أية معاناة، وأن تعبر كُــلّ الأخطار من أجل الوصول إلى هذا الهدف، فارق بين هذا وذاك، والحديث يطول عن هذه المسألة عن الأثر التربوي والإيْمَاني للإنْسَــان الذي يتجه في مسيرة حياته لتطبيق الدين بشكل متكامل ومنه هذه الجوانب الأَسَاسية المتصلة بالمسؤولية وبين إنْسَــان شطب مسألة المسؤولية بالكامل وركز بديلاً عنها على بعض المستحبات والمندوبات مع بعض من الالتزامات المحدودة، هذا جانب، الأثر التربوي والأثر الإيْمَاني.
أما فيما يتعلق بفضل العمل، فهذه نعمة عظيمة، الأعمال متفاضلة في الأجر والقربة عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، عندما تحدثنا بالأمس وذكرنا الرواية عن الرسول صلوات الله عليه وعلى آله، التي تقدم لنا تصورا عن عظيم فضل الجِهَـاد في مقابل الأعمال الأُخْــرَى (لنومة في سبيل الله) نومة، وأنت ترقد، ترقد في الجبهة رقدة خفيفة قد تكون ساعات محدودة، نومة وقد لا تكون ساعات، قد تكون ظروف الجبهة لا تسمح لك حتى بأن تنام لساعات وأنت في سبيل الله في ميدان العمل في سبيل الله والجِهَـاد في سبيل الله والتضحية في سبيل الله (أفضل من عبادة ستين سنة في أهلك)، ستين سنة هي عمر، عمر كامل وَإِذَا كنت تتعبد لله في أهلك ستين سنة معناه أنك تعبدت لعمر كامل، وكيف هذه العبادة، عبادة على نحو عادي، لا، تقوم ليلك لا تفتر، وتصوم نهارك لا تفطر، عبادة بشكل مكثف، الليل كله عبادة وقيام والنهار كله صيام ولستين سنة متتابعة، كلها لا تساوي نومة، نومة في سبيل الله! فكيف بالموقف، كيف بالتضحية، كيف بالأعمال والجهود الأُخْــرَى في الميدان، هذا هو الفضل هذا هو الأجر، يا من يركز على المستحبات والمندوبات ويترك الواجبات والمسؤوليات؛ لأَنَّ أثر هذه العبادة أثر في واقع الحياة أثر عظيم وشامل، تلك العبادة الفردية أثرها فردي، تأثيرها خاص، لكن هذه عبادة لها أثر في الواقع، إحقاق الحَــقّ، إقامة العدل، دفع الشر، دفع الظلم إنقاذ الناس من شرور كبيرة ومخاطر رهيبة.
من الآثار المهمة لهذه الفريضة العظيمة أنها تمثّل كما قلنا بالأمس حمايةً للأُمَّــة، حمايةً للأُمَّــة، من كوارث رهيبة جِــدًّا، عندما ندرس بعضاً من التجارب القائمة في الواقع المعاصر وفي التأريخ المعاصر، ما حصل للمسلمين في البوسنة، عشرات الآلاف من المسلمين قُتلوا بدمٍ بارد، وقتل جماعي، آلاف المسلمات تعرضنَ للاغتصاب، اضطهاد رهيب جِــدًّا، في الأخير عندما تحرّكوا ليجاهدوا كان لهذا أهمية كبيرة ومثَّلَ عاملاً أَسَاسياً في أن تقف بحقهم تلك المجازر الرهيبة جداً وأن يُدفع عنهم ذلك الشر الرهيب والفظيع، ما يعانيه مسلمو الروهينجا الآن، معاناة كبيرة جداً كيف لو كانوا أُمَّــةً قوية مجاهدة تمتلك القدرات التي تحمي نفسها، هل كان سيحدث لهم ما حدث؟ أن يُقتل منهم أَكْثَــر من مائة ألف مسلم، أَكْثَــر من مائة ألف مسلم، بدمٍ بارد بكل بساطة يُقتلون ويُضطهدون ويُستذلّون، وتعرضت النساء للاغتصاب، كم هي التجارب الكبيرة جِــدًّا والكثيرة؟ وكم هي التجارب الناجحة؟ تجارب الجِهَـاد والتحَــرّك في سبيل الله، كم هو الفارق؟ بينما في غزة في فلسطين وماقي غير غزة، كم كان الأثر في التصعيد الأخير الإسرائيلي للضربات التي لقّنه المجاهدون في فلسطين بها، كان أثراً مهماً جِــدًّا، عامل ردع وإذلال للعدوّ، وفرضوا عليه أن يوقف تصعيده، لماذا؟، لمّا أصبح هناك أُمَّــة مجاهدة تتحَــرّك على أَسَاس الجِهَـاد في سبيل الله للتصدي للإسرائيلي، كم كان أثر تجربة حزب الله في لبنان؟ كم وكم وكم، التجارب تجارب ثقافة التدجين وثقافة التحَــرّك والجِهَـاد والعمل، فوارق كبيرة جِــدًّا وواضحة وجليّة، وفي التأريخ كذلك، في التأريخ كذلك تجارب كثيرة.
من أَهَــمّ أيضاً ما يُستفاد من هذه الفريضة العظيمة أنها تمثّل عاملاً نهضوياً للأُمَّــة، الأُمَّــة إِذَا كانت تحرص على أَنْ تَكُوْنَ أُمَّــةً قوية، متى تحرص على أَنْ تَكُوْنَ أُمَّــة قوية؟ إِذَا كانت أُمَّــة مجاهدة، إِذَا كانت أُمَّــةً تنهض بهذا الواجب وتقوم بهذه المسؤولية، حينها ستحرص على أَنْ تَكُوْنَ أُمَّــةً قوية لتكون أقدر في مواجهة أعدائها، ولذلك يأتي التوجيه القُــرْآني (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال:60). في هذا السياق في سياق الجِهَـاد، في سياق هذه الفريضة العظيمة والمهمة، والأمة إِذَا اتجهت لأَن تُعِدً ما تستطيعُه من القوة، يأتي في ذلك الاهتمام بالجانب الاقتصادي، كيف تكون أُمَّــةً منتجة كيف تكون أُمَّــةً مصنّعة، كيف تكون أُمَّــةً مبتكرة، كيف تواجه مستوى التحديات وكل تحدي يستلزم قوة معينة إمْكَانات معينة قدرات معينة، وهكذا تستمر في تطوير نفسها، وفي تطوير قدراتها وفي امتلاك كُــلّ عناصر القوة، وستبحث عن كُــلّ عناصر القوة، أما ثقافة التدجين فلا يُبنى عليها إلا الضعف، فليس لها من نتاج إلا الضعف، إلا الخور، إلا الاستكانة إلا الإهمال، إلا الضياع، فرق كبير، الثقافة التي تنهض بالأمة تبني الأُمَّــة لتكون قوية في كُــلّ المجالات، في كُــلّ المجالات وفي كُــلّ شؤون الحياة، وبين ثقافة تُضعف الأُمَّــة، تجعل من الضعف ثقافة، حتى حالة نفسية، حالة نفسية، التربية على الجِهَـاد وعلى النهوض بالمسؤولية وعلى مواجهة التحديات والأخطار، حتى في بناء النفوس، تبني النفوس لتكون نفوساً قوية، تبني الناس ليكونوا أقوياء حتى في نفسياتهم ومشاعرهم، وثقافة التدجين تُربي على الضعف حتى في النفوس لتكون نفوساً ضعيفة، نفوساً مهزوزة، نفوساً يُهينها الآخرون ويدوسها الآخرون ويسحقها الآخرون وهي لا تُتقن إلا حالة الاستسلام وحالة الإذعان وحالة الخنوع وحالة السكينة، حالة الاستكانة التي هي حالة سلبية.
فإذاً فارق كبير بين ما يمثّل عاملاً نهضوياً يبني الأُمَّــة، والآخرون هم يركزون على هذه النقطة، يدركون إيجابية الصراع لمن يتعامل معه على أَسَاس أن يجعل منه عاملاً للنهضة، عاملاً للبناء، عاملاً لاكتساب القوة، وسلبيته فعلاً لمن يريد أَنْ يَكُوْنَ ضعيفاً وأن يستسلم، لا يتحَــرّك، هذه حالة رهيبة جِــدًّا، تنهار شعوب ويتحول أهلها في الكثير منهم إلى لاجئين في دول أُخْــرَى، ويتركون واقعهم، يتفككون كأمة ينهارون انهيارا كاملاً، أمر خطير وسلبي، لكن من يجعل منه عاملاً نهضوياً في الدول الأُخْــرَى هم يفعلون ذلك، الصين، في الثقافة الصينية لديهم هناك تحدي، ولديهم عدو، ولديهم طموح في التفوق واكتساب القوة، عند الأمريكيين كذلك، عند كُــلّ القوى الناهضة في العالم، لا تنهض أُمَّــة إلا وقد جعلت من التحدي والخطر والعدوّ حافزاً لنهضتها، إِذَا شُطِبْ هذا الجانب تضعف تكون أُمَّــة باردة، أُمَّــة لا تفكر بأَنْ تَكُوْنَ قوية ولا تسعى لأَنْ تَكُوْنَ قوية ولا تهتم بأَنْ تَكُوْنَ قوية.
كان واجبنا نحن المسلمين أَنْ نَكُوْنَ أَكْثَــر الأُمَم اهتماماً باكتساب القوة، في كُــلّ عناصر القوة، على المستوى النفسي والتربوي والاقتصادي والعسكري، وفي كُــلّ مجالات الحياة، قبل غيرنا من الأُمَم، فما بالنا، ما بال الآخرين وكأنهم هم من يكون في أَهَــمّ مصادر ثقافاتهم وأفكارهم عبارة (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال:60).
كان المفترض بنا أَنْ نَكُوْنَ نحن السبّاقين قبل غيرنا، ثم كذلك مع كونه عاملاً نهضوياً، عاملاً لاكتساب القوة، عاملاً للبناء، هو كذلك عامل مهم ومؤثر كبير في ما يتعلق بالجانب الاجتماعي، الأُمَّــة التي تبني حياتها بشكلٍ صحيحٍ وسليم، وتوحِّد هدفها، وتتوحد عندها النظرة في تشخيص العدوّ والصديق، في تشخيص مصدر الخطر، ثم تسخّر وتوظّف كُــلّ طاقاتها وإمْكَاناتها وقدراتها لتكون أُمَّــةً تواجه ذلك الخطر الذي تتفق على تشخيصه كخطر، هذا سيساعدها على الوحدة، على الإخاء، على التلاحم فيما بينها، على التماسك فيما بينها على التعاون فيما بينها؛ لأَنَّها تحس بخطر مشترك، خطر على الجميع وتنظر إليه كأولوية في العمل على دفعه، هذا يساعدها على أَنْ تَكُوْنَ أُمَّــة متعاونة متظافرة الجهود ومتآخية فيما بينها، وعلى العكس من ذلك، الأُمَّــة إِذَا فقدت هذه النظرة، لم تصبحْ أنظارها مركزة إلى عدو هناك يشكل خطراً على الجميع وتحدياً على الجميع وأن هذا يفرض عليها أن تتظافر جهودها للتصدي لذلك الخطر، ولكي تكون أيضاً وحدتها والإخاء فيما بين مجتمعها عاملاً من عوامل القوة الرئيسية؛ لأَنَّنا كلنا نؤمنُ بأن الوحدةَ قوة، أن التجمع قوة، أن التآخي قوة، أن تظافر الجهود قوة، أن التعاون قوة، فنرى في هذا عاملاً من أَهَــمّ العوامل الرئيسية للقوة التي تساعدنا في مواجهة العدوّ ودفع الخطر الذي ننظر إليه جميعاً كخطر، إِذَا فقدنا هذه النظرة نكون أُمَّــة يسهل عليها أن تختلف وأن تتفرق وأن تتشتت، لا ترى قضية تؤمن بها، يؤمن بها الجميع تجمعها وتجتمع عليهم، ترى نفسها مستغنية عن بعضها البعض؛ لأَنَّها لا تحمل القضية الكبيرة والاهتمامات الكبيرة، ولا حتى التركيز على النهوض بمسؤوليات كبيرة تتطلب التعاون، ولا إدراك الخطر الكبير الذي في سبيل دفعه لَا بُـدَّ من التعاون.
فلا شعور بمسؤولية جماعية ولا إدراك لمخاطر شاملة، ولا أي حافز يدفعها إلى الترابط فيما بينها، وإدراك قيمة هذه الألفة وهذه الأُخوَّة وهذا التعاون، يَسهُل عليها أن تتبعثر وتتفرق ثم تكون ضحية لحالتين، ثقافة التدجين من جانب وتشتغل شغلها في الكثير من الناس وتؤثر فيهم، فتصنع منهم أناساً لا يمكن أن يمثلوا شيئاً للأُمَّــة لا في دفع شر ولا في إقامة حَــقّ ولا في كذلك مواجهة التحدي، ناس لا يعتمد عليهم، لا يعتمد عليهم.
يكونون سلبيين بأَكْثَــرَ مما يكونون إيجابيين، وفي الآخرين ممن لا تؤثر فيهم ثقافة التدجين، يعانون من حالة الاستنزاف والاستغلال في القضايا الهامشية والقضايا التافهة، أَو في خدمة العدوّ أَو الاستغلال لهم في جانب العدوّ، وهذه قضية خطيرة أيضاً فتأتي قبيلة تفتح لها حرباً شرسةً جداً مع قبيلة أُخْــرَى، إما على قضية تافهة جداً، مشكلة وتشاجر بين شخص من هذه القبيلة وشخص من تلك القبيلة وكانت فيه كلمة سلبية من ذلك على ذلك، وهكذا وأدى إلى صراع واقتتال ثم سرت المشكلة إلى القبيلتين ثم قام نزاع كبير ثم تضحيات كبيرة وقتلى كثُر وجرحى كثُر وأرامل وأيتام، ومشاكل وتضحيات جسيمة في وسط قضية تافهة، أَو على محجر يمكن حله إما بالحكم والشرع وإما بالصلح، أَو على أية قضية تافهة، تحصل تضحيات كبيرة واستنزاف وصراع قد يدوم لسنوات، وقد يكون ضحاياه الكثير من الناس والدمار والخراب والكلفة المالية الهائلة والغرامات الكبيرة ويحصل هذا كَثيراً.
أو استغلال من جانب الأعداء، يأتون لمن عادى لمن لا يزال فيه روح الإباء والقوة والقدرة على القتال والتفاعل والشجاعة ويستوعبونه ليقاتل في خدمتهم وهذا حصل كَثيراً في تأريخ الأُمَّــة، الكثير قاتلوا مع البريطانيين أَيَّام الاستعمار البريطاني، ملايين من أبناء الأُمَّــة، ملايين من المسلمين قاتلوا تحت الراية البريطانية أَيَّام الاستعمار البريطاني، ساهموا حتى في السيطرة على مناطقهم، في فلسطين حتى في احتلال فلسطين يوم احتلها البريطاني آنذاك، استطاع في بعض المعارك أن يعتمد على عرب، على عرب، عندما واجه صعوبات ومواجهة أراد أن لا يخسر من جنوده جنّد من العرب حتى من البدو من تقدموا واقتحموا وقاتلوا، حتى لا تكون خسائره في ضباطه وجنوده، تكون من العرب.
في جنوب اليمن في المحافظات الجنوبية جنّد الآلاف وقاتل بهم وجعل منهم جيشاَ لخدمته وفي مناطق أُخْــرَى فعل كذلك، الآخرون فعلوا كذلك.
الفرنسي جنّد الكثير وقاتلوا معه حتى في أوروبا، الإيطالي جنّد الكثير وقاتلوا معه حتى في ليبيا، وفي المناطق التي سعى لاستعمارها وهكذا فعل الآخرون.
فنكون في واقعنا، إما ضحية لثقافة التدجين التي تبرد الأعصاب وتميت روح العزة والإباء والكرامة وإما ضحايا الاستنزاف والاستغلال في قضايا هامشية أَو في خدمة أعداء الأُمَّــة، بينما هذه الفريضة العظيمة إِذَا ارتبطنا بها في مبادئها وفي قيمها وفي ثقافتها وفي ما يرتبط بها من وعي وتشخيص صحيح وسليم للعدوّ والصديق هي ستحفظنا وتحافظ علينا من الاستنزاف ومن الاستغلال.
اليوم هو الحال نفسه، البعض يقعون ضحية للتدجين والبعض يُستَغلون ليتجندوا مع أعداء الأُمَّــة، يتجندوا تحت الراية، راية النظام السعوديّ والنظام الإماراتي وكلاهما مجنَّد بشكل واضح وصريح مع أمريكا في خدمة أمريكا، الارتباط المكشوف والواضح مع أمريكا ومؤامرات أمريكا ومُخَطّطات أمريكا، فإذن أين هو الأفضل؟ أن نتحَــرّك في ما هو خير لنا عند الله، ننفذ استجابة عملية لتوجيهات الله، إحياء لفريضة من فرائض الله، فيها العزة والكرامة والحرية والاستقلال فيها ما يمثل عاملا لبناء واقعنا ومؤثرا بشكل إيجابي على المستوى التربوي والإيْمَاني والنفسي والاجتماعي، ما يعزز الألفة والإخاء تحت راية الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وفي سبيله، ما يطهر الدوافع، وما يطهر أَيْضاً التوجهات والأهداف يرسم لك أهدافا عظيمة، ويربيك على دوافع عظيمة إيْمَانية طاهرة، ثم التضحية فيه تضحية عظيمة ومحسوبة، حتى عندما تقتل وأنت في هذا الطريق فارق كبير بين أن تقتل وأنت في سبيل الله حقاً أَو أنت تعيش حالة الاستغلال لطغاة ومجرمين وفاسقين أَو لقضايا هامشية وتافهة فارق كبير جداً، في سبيل الله أنت شهيد وماذا يقول الله عن الشهداء: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا، بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) (آل عمران: 169-170). حتى عندما تضحي بحياتك هنا وأنت في هذا الطريق أنت لا تخسر أنت تنتقل فوراً إلى حياة وعد بها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، حياة وبشكل عاجل تنتقل إليها تعيش فيها ضيافة كريمة عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- حيث تحظى بضيافته إلى يوم القيامة (بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 169-171). تحظى بالشهادة في سبيل الله، تنتقل من هذه الحياة التي لَا بُـدَّ أنك ستنتقل منها على كُــلّ حال، إنما استثمرت حتى نهاية حياتك فيها بالشهادة في سبيل الله لتنتقل إلى ضيافة الله، تحيا حياة سعيدة وبكرامة عظيمة وفي رعاية من الله عظيمة إلى يوم القيامة، يوم القيامة الفوز العظيم بمرافقة أولياء الله من أنبيائه والصديقين والصالحين والشهداء من عباده والدخول إلى جنة المأوى كم هو الفارق؟!!
نكتفي بهذا المِقْدَارِ، نَسْأَلُ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنْ يُوَفِّـــقَنَا وإيّاكم لما يُرضيه عنَّا.. وَأَنْ يَرْحَــمَ شُهْدَاءَنا الأبرارَ، وَأَنْ يشفِــيَ جرحانا، وَأَنْ يفــرِّجَ عن أسرانا وَأَنْ يَنْصُرَنَا بنَصْرِهِ.. إِنَّـهُ سَـمِيْـعُ الدُّعَـاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه..