أركان الهدى (1) جِهَــادُ الإِمَــام عَلِيٍّ عليه السلام .. بقلم/ أم مصطفى مُحَمَّــد
عندَ تصفُّحِ كُتُبِ التأريخ والسِّيَر في العصر الإسْـــلَامي بغيةَ البحثِ عن أوائل الذين لبّوا الجِهَــاد في سبيل الله وَنصرة الدين الحنيف وَمساندة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكل المحن وَالحروب التي واجهت الدعوة الإسْـــلَامية يكون أبو الحسن عليه السلام على رأس المتقدمين للدفاع عن حرمة الإسْـــلَام وَالمسلمين، فلقد كان سيف ابن أبي طالب عليه السلام أحد أسباب بقاء الدين إلى يومنا هذا، كما أشار بذلك الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله) حين قال (ما قام الإسْـــلَام إلا بسيف عليٍّ ومالِ خديجة)، فبهذا السيف أوصل أميرُ المؤمنين عليه السلام شجعانَ العرب وَقادتَهم إلى الهلاك بعد منازلات عديدة دارت بينهم، فلقد كان الجِهَــاد عند الإِمَــام عَلِيّ عليه السّلام جزءاً مهماً من حياته الشريفة دون غيره من الناس، فبالرغم من أن الشجاعة وحبّ الجِهَــاد كانت ظاهرة بارزة في حياة بعض الصحابة إلاّ أنها عند الإِمَــام عَلِيّ(عليه السّلام) كانت تبدو قيمتها أَكْثَـــر جلاءً في المهمات الصعبة وعند تراجع الآخرين وعدم قدرتهم على تجاوزها، فلقد كان الإِمَــام عَلِيّ عليه السّلام يتقدمُ بتفوّقِه المعهودِ لفكّ الطوق عن رقاب المسلمين؛ ولذا كان لأمير المؤمنين عليه السلام الحظُّ الأوفرُ والمساحة الأَكْبَــر من مقاتلة أَعْـــدَاء الله والإسْـــلَام رغم أنه كان في مطلع عمره وبداية شبابه إلا أنه جعل الدنيا وإغراءاتها إلى جنب وأقبل عازماً على الجِهَــاد مجسدا بذلك أروع معالم الطاعة لنبي الله (صلى الله عليه وآله) في تقدمه على مقارعة قادة الشرك والكفر، وهذا ما تشهد به جميع الحروب التي خاضها ضدّ المشركين حتى قيل فيه “إذا اعتلى سيفُه قَدَّ “و القد القطع بالطول” وَإِذَا اعترض قطَّ “وَالقط القطع بالعرض”.
لقد أعد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وليَّه علي بن أبي طالب (عليه السلام) إعداداً جعله يصبح بحق هو السيفَ الحارسَ لدينه والعَضُدَ المدافع عن نبيه فصار ضرغامه الذي يفتخر المشركون بقتلاهم الذين سقطوا بحد سيفه حيث لا يثبت له شجاع ولا يطيق هيبته محارب، إِذَا مشى إلى الحرب هرول، وَإِذَا أمسك بذراع رجل لم يستطع أن يتنفس، وما صارع أحداً إلا صرعه، فهو قالع باب خيبر الذي عجز عنه الرجال الأشداء وهو القائل “وَاللَّهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا، وَلَوْ أَمْكَنَتِ الْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَيْهَا” فبطولته عليه السلام يعجز عن وصفها الواصفون.. حتى تغنى بشدة بأسه الأبطال وقتل ببطولاته الشجعان، فكان بحق فارس الميدان الأول والأوحد؛ كونه كان يُلقي بنفسه في أهوال الحرب بين الأسنة والرماح فلا يبالي إن وقع هو على الموت أَو وقع الموت عليه.. وهو في كُــــلّ صولة وجولة يخرج مؤتزرًا بإزار النصر قد اعتزم بعزم الله فيلحق بعدوه شرّ هزيمة منكرة.
إن مَن يطالع سيرة الإِمَــام عَلِيّ عليه السلام يجد أن الجِهَــاد كان هو الروحَ التي يحيى بها الإِمَــامُ عَلِيٌّ عليه السلام، فمن مناقبه (عليه السلام) يوم الخندق أنه قال فيه النبي (صلى الله عليه وآله): “ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين” وذلك لكون قريشٍ قد تجمعت وقائدها أبو سفيان بن حرب وغطفان قد تجمعت وقائدها عيينة بن حصين واتفقوا مع بني النضير من اليهود على قصد النبي (صلى الله عليه وآله) وحصار المدينة، فأخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بحراسة المدينة في عمل الخندق عليها فأقبلوا على رسول الله كالجراد المنتشر ولقد قص علينا الله تعالى قصتهم حين قال (إذ جاؤوكم من فوقكم، ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالا شديدا)، ولعل ذلك اليوم من أصعب الأَيَّــام التي مرت على المسلمين حيث اقتحم المشركون الخندقَ وعبروه وجالت خيلُهم في السبخة بين الخندق وبين المسلمين، وجعل عمرو بن عَبدود ينادي “هل من مبارز” فقام النبي (صلى الله عليه وآله) في أصحابه وقال: “من لهذا فلم يجبه أحد إلا علي (عليه السلام)، حيث قال أنا له يا رسول الله حينها أذن له رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الخروج إليه وعممه بعمامته وألبسه درعه وقلده سيفه وقال: “اللهم اعنه عليه اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه اللهم فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين”، ثم قال: “لقد برز الإيْمَــان كله إلى الشرك كله”، فقاتله الإِمَــام عَلِيّ عليه السلام رغم صغر سنه فصرعه وأرداه قتيلاً، فالجِهَــاد في حياة الإِمَــام عَلِيّ عليه السلام لم يكن مُجَــرّد شجاعة وبطولة في ساحات الوغى، بل كان رسالة سامية وغاية شريفة ترتبط بالملكوت الأعلى ولذلك رُوي عنه أنه قال (أما بعد فإن الجِهَــاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخَاصَّــة أوليائه وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشملة البلاء وديث بالصغار والقماءة وضُرب على قلبه بالأسداد وأديل الحَــقّ منه بتضييع الجِهَــاد وسيم الخسف ومنع النصف).
لقد شكِّل الفكر الجِهَــاديّ للإمام عليّ عليه السلام أحد أهمّ وأبرز سمات شخصيّته القياديّة الّتي استوعبت جميع جوانب القيادة على المستوى الفكريّ والسياسيّ والعسكريّ والاجتماعيّ.. ولقد اكتسب الجِهَــاد لوناً مُميّزاً وبُعداً خاصّاً عند الإِمَــام عَلِيّه السلام حيث نجده ينظر إليه من منظار أوسع وأشمل ممّا نعرفه ونعلمه من خلال مصطلحات اللغويّين وكلماتهم فهو عنده وسيلة من الوسائل الّتي تُقرّب الإنْسَــان إلى الله ورسوله يقول عليه السلام “إنّ أفضل ما توسَّل به المتوسّلون إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الإيْمَــان بالله ورسوله، والجِهَــاد في سبيل الله، فإنّه ذروة الإسْـــلَام” ولعل ما نواجهه من عدوان اليوم قد أبرز لنا فئة من الناس المتخاذلين الذي دعاهم هذا السيد المؤمن السيد عبدالملك الحوثي حفظه الله حفيد أمير المؤمنين عليه السلام إلى جِهَــاد هؤلاء الظالمين لكنهم بدلاً عن أن يلبوا دعوته نجدهم قد لووا رؤوسهم ووضعوا أصابعهم في اذانهم وكأنهم يريدون لنا أن نعيش ما عاشه أمير المؤمنين عليه السلام مع أمثال هؤلاء المتخاذلين حيث قال (أَلاَ وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَيْلاً وَنَهَاراً، وَسِرِّاً وَإِعْلاَناً، وَقُلْتُ لَكُمْ: اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ، فَوَاللهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ في عُقْرِ دَارِهِمْ إِلاَّ ذَلُّوا. فَتَواكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ، وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الأوْطَانُ. وَهـذَا أَخُو غَامِد وَقَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الاْنْبَارَ، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ، وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالأُخْرَى الْمُعَاهَدَةِ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا، وَقُلْبَهَا، وَقَلاَئِدِهَا وَرُعُثَهَا، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاِسْتِرْجَاعِ وَالاِسْتِرْحَامِ. ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ; فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هـذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً; فَيَا عَجَباً! وَاللهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَجْلِبُ الْهَمَّ مِن اجْتِمَاعِ هؤُلاَءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَن حَقِّكُمْ! فَقُبْحاً لَكُمْ وَتَرَحاً، حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمى يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلاَ تُغِيرُونَ، وَتُغْزَوْنَ وَلاَ تَغْزُونَ، وَيُعْصَى اللهُ وَتَرْضَوْنَ! فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ: هـذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ، أَمْهِلْنَا يُسَبَّخُ عَنَّا الْحَرُّ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ: هـذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ أَمْهلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ; كُلُّ هذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ; فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ تَفِرُّونَ، فَأَنْتُمْ وَاللهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ!