موقع “VICE عربية”: برنامج الغذاء يوزّعُ المواد الفاسدة في اليمن وادّعاءاته تناقض الواقع
المسيرة | متابعات
يتواصلُ انكشافُ الفساد الممنهج والكارثي الذي تمارسُه الكثيرُ مما تسمى “منظمات الإغاثة” الدولية والأُمَـــمية، وعلى رأسِها “برنامج الغذاء العالمي” في اليمن، من خلال إدخال المواد الغذائية والدوائية الفاسدة ومحاولة توزيعها كـ “مساعدات”، حيث كشف تحقيقٌ جديدٌ نشره موقع “فايس عربية” (وهو موقعٌ عربي مستقل) عن تفاصيلَ جديدة من هذه الكارثة، تتبَّعَ خلالها شهاداتِ العديد من المواطنين الذين وصلتهم المساعدات التالفة، إلى جانب شهادات أُخْرَى أدلى بها مسؤولون حتى في حكومة المرتزقة نفسها، إضافةً إلى وثائقَ متنوعةٍ، أثبتت جميعُها أن المنظماتِ الدوليةَ وبرنامج الغذاء العالمي بالذات يتعمدون ممارسة هذا الفساد بصورة مستمرة في مختلف مناطق اليمن، وأن جميعَ التضليلات التي يقدمونها للتغطية على هذه الكارثة ليس لها أي أساس في أرضِ الواقع.
نازحون: برنامج الغذاء والمنظمات يقدمون لنا مواداً قاتلة
ضمن الشهادات الواردة في التحقيق الذي حمل عنوان “إغاثة فاسدة بإشراف أُمَـــمي”، نقل موقع “فايس عربية” عن الدكتورة مكية الأسلمي، مديرة المركز الصحي بمديرية أسلم التابعة لمحافظة حجة، تأكيدَها على “وجود شكاوى من نازحين في نفس المنطقة بأنهم تسلموا قمحًا أسودَ وغير صالح للاستخدام، بعد توزيعه من قبل برنامج الغذاء العالمي”.
وقالت الأسلمي: إن “الشكاوى تضمنت الإشارة إلى أن القمح الذي يتضمن في كثير من الأحيان نُخالةً بنسبة تصلُ إلى نصف الكميات التي يتم تسليمها (الحصص)، وأن هذه النخالة تتضمن قشريات قد تؤدي لمضاعفات صحية”، وأشارت إلى أنه “في أحيان كثيرة يأتي القمحُ في أكياس مدوّن عليها أنه صالح لمدة تسعة أشهر من تأريخ الإنتاج، دون أن يكونَ هناك تأريخُ إنتاج من الأساس”.
ويضيفُ التحقيقُ نقلاً عن إحدى النازحات في مديرية أسلم بمحافظة حجة، والتي قالت إنها تسلمت عدةَ مرات قمحاً مُقدماً من برنامج الغذاء العالمي بشكل وجودة مختلفَين في كُـــلّ مرة: “في إحدى المرات تسلمنا قمحاً أبيض، والأُخْرَى تسلمنا قمحاً لونُه أسود ورائحتُه كريهة”. وأوضحت “أنه لم يكن لديها وعائلتها أي خيار سوى تناوله، على الرغم من لونه الغريب وطعمه شديد المرارة؛ لعدم وجود بديل”.
أما النازح الآخر، عَبدالله عدالي، بحسب التحقيق، فقد “ألقى بالمساعدات التي تلقاها في القمامة”، وقال: “النزوح ليس بالأمر السهل، وعندما تضطرك الظروف إلى هذه الخطوة، لا يصبح أمامك إلا العيش على ما تقدمه المنظمات الإغاثية، لكن ذلك لا يعني أن تقبل بمواد غير صالحة للاستخدام.. اخترت الحفاظ على صحة أبنائي وحمايتهم من أية مشاكلَ صحية في مثل هذه الظروف”.
وأورد التحقيق أَيْــضاً شهادةَ “علي موسى” البالغ من العمر 40 عَاماً، والذي قال: “بعد طول انتظار لحصتنا من المساعدات الطبية، حصلنا أخيرًا عليها وقد أوشكت فترة صلاحيتها على الانتهاء بدرجة لا يمكن معها استعمالها بشكل آمن”.
ويضيف موسى بنبرة حزينة: “ما جدوى توصيل أدوية منتهية الصلاحية من الأساس، هل هو مجرد إثبات موقف بغض الطرف عن سلامتها، أَو ملائمتها للحالات الطبية التي يصنف جانب ليس بالقليل منها بـ(الحرج)، جراء تدني مستوى الخدمات الطبية ونقص الأدوية، أم أن وراء الأمر إهمال أَو فساد طال حتى المنظمات الإغاثية الدولية؟”.
ثم ينهي موسى شهادتَه قائلاً: “نموت بطلقات الرصاص أَو بغذاء ودواء قاتل”.
وينقل التحقيق أَيْــضاً عن عَبدالله علي (44 عامًا) من أبناء مديرية التحيتا بمحافظة الحديدة، أنه قبل نزوحه إلى المحويت “تلقى ولمرة واحدة مساعدات إنْسَـــانية من إحدى المنظمات الإغاثية منذ قيام الحرب، على الرغم من أنه يعيلُ أسرةً من زوجة وثلاثة أبناء، إلا أنه تلقّى في المرة الوحيدة مساعداتٍ كان بينها أسماك معلبة (تونة)، وبسكويت، ودقيق (طحين) منتهي الصلاحية وغير صالح للاستخدام، حتى رائحته كانت كريهة، على حَــدِّ وصفه”.
وأشار التحقيق إلى أن هناك الكثيرَ من القِصص المشابهة “تلقى أصحابها مساعداتٍ إما فاسدةً أَو منتهيةَ الصلاحية، “ما يجعلها والعدم سواء” حَــدّ قول أصحابها، فتحصلهم على مواد غذائية أَو أدوية غير صالحة للاستخدام الآدمي يجعلُها بلا فائدة، بل ويمكن أن يزيدَ من معاناتهم بمضاعفاتٍ صحية مُميتة”.
الشهاداتُ التي أوردها التحقيقُ تدين بوضوح الكثيرَ من المنظمات الدولية الإغاثية وعلى رأسها برنامج الغذاء الذي يحتفظ بالنصيب الأَكْبَـــر من فضائح المواد الفاسدة، كما توضح هذه الشهادات مدى “الانتهازية” المقيتة التي تتعامل بها هذه المنظمات مع المعاناة الإنْسَـــانية اليمنية، وهي الانتهازيةُ التي لا تقفُ عند توزيع “المساعدات” المسمَّمة فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى محاولة التملص من مسؤولية هذه الكارثة واختلاق أعذار تظهر استهتاراً كَبيراً بأرواح المواطنين المحاصَرين.
مزاعمُ “برنامج الغذاء” تناقِضُ الحقيقة
وكشف التحقيق أنه كانت هناك رسالتان إحداهما وجهتها جمعية حماية المستهلك اليمنية عام 2017، إلى ممثل برنامج الغذاء العالمي، “تتضمن استفسارًا عن ضبط باخرة تحمل اسم “إمبريال” مليئة بالقمح الفاسد والمتعفن كانت على وشك التفريغ في ميناء عدن” والأُخْرَى من “جمعية حماية المستهلك العالمية” إلى البرنامج أَيْــضاً وَ”تتضمن استفساراتٍ عن شرائهم مساعداتٍ منتهيةَ الصلاحية”.
وأضاف التحقيق أن برنامج الغذاء العالمي رد على الرسالة التي وجهتها “جمعية حماية المستهلك العالمية” فقط بعد 11 يوماً، زاعماً أن الضرر يلحق بالمواد الغذائية؛ بسَببِ عملية “النقل”، فيما تجاهل تَمَاماً رسالةَ الجمعية اليمنية التي أكّـــد مديرُها الدكتور فضل منصور، أنها قدّمت استفساراتٍ بنفس تفاصيل رسالة الجمعية العالمية، لكن البرنامجَ تجاهل تلك الاستفسارات.
وأضاف الدكتور منصور “أن كَثيراً من السلع التي يستوردها البرنامج تصلُ مينائي الحديدة وعدن وهي منتهية أصلًا، وهذا يدل على أنه تم شراؤها وقد قاربت على الانتهاء”، مشيراً إلى أن “شحنة دقيق وصلت إلى ميناء الحديدة يوم 18 مايو 2019 مستوردة من سلطنة عمان التي لا تبعد كَثيراً عن اليمن، لكن على الرغم من ذلك وصلت الكمية بالكامل منتهية الصلاحية وغير صالحة للاستخدام الآدمي، وتم رفض الشحنة من قبل الهيئة اليمنية للمواصفات والمقاييس”.
وأوضح التحقيق أن مسؤولي البرنامج في اليمن، رفضوا أجراء لقاء مع الموقع، واكتفوا بالتصريح عبر الإيميل، بعد أيام، زاعمين أن أَيْــضاً أن عمليةَ “النقل” هي سببُ تلف المواد، إلى جانب “درجة الرطوبة”!
تصريحاتٌ أكّـــد الموقعُ أنها تتناقَضُ مع الحقائق التي توصل إليها التحقيق، “حيث أن أغلب الصور والشهادات تؤكّـــد أن معظم الشحنات تم إتلافها في الميناء، ما يؤكّـــد أنها وصلت إلى الموانئ وهي إما منتهية الصلاحية أَو فاسدة”.
وأضاف الموقع أن الوثائق التي حصل عليها تثبت أن “هذه المواد في الأساس غير مطابقة للمواصفات حتى وإنْ لم تتعرض للتلف أَو التخزين، حيث تشير إجمالي التقارير أن المواد التي تم فحصها لدى وصولها كانت غير مطابقة للمواصفات القياسية وهي مشارفة على الانتهاء”.
ومن بين تلك الوثائق التي استعرضها التحقيق، “وثيقة الرفض رقم 84/4 الصادرة من هيئة المواصفات والمقاييس من صنعاء بتأريخ 2-2-2016 والتي تؤكّـــد رفض باخرة قمح أحمر مقدمة من برنامج الغذاء العالمي؛ باعتبارها غير صالحة للاستخدام الآدمي”، وَ”تقرير رقم 169 صادر عن إدارَة ضبط الجودة بهيئة المقاييس بصنعاء بتأريخ 30-12-2018 بعد فحص عيِّنة دقيق أحمر، والتي تبين أنها غيرُ مطابقة للمواصفات المعتمَدة”.
سلطاتُ المرتزقة تعترفُ بإتلاف مساعدات فاسدة
وأورد التحقيق أَيْــضاً إثباتاتٍ أُخْرَى من سلطات المرتزقة نفسها، حيث استعرض كشفا صادرا عن “هيئة المواصفات” التابعة للمرتزقة في عدن ويوضح أنه “بتأريخ 12-8-2018 رفضت الهيئةُ إدخالَ شحنة قمح أبيض من الميناء وجود حشرات في أكياس القمح مما يجعلها غير صالحة للاستخدام، وفي نفس الكشف بتأريخ 31-7-2018 رفضت الهيئة في عدن إدخال شحنة دقيق قمح إلى عدن؛ بسَببِ وجود تكتلات فطرية في بعض الأكياس ومخلفات غير نباتية”.
كما نقل التحقيق عن مدير عام “هيئة المواصفات” التابعة لحكومة المرتزقة في عدن، المهندس حديد الماس، قوله: “نضطر إلى إتلاف شحنات (مساعدات) يوميًّا وبشكل مستمر”، مُشيراً إلى أن هذه الشحنات تكون “غيرَ صالحة للاستخدام الآدمي”.
هذه الدلائلُ الواضحة تُثبِتُ أن سعيَ بعض منظمات الإغاثة، وعلى رأسها “برنامج الغذاء”، للتشويش على هذا الفساد باتهامات “سياسية” وأعذار غير منطقية، ليس سوى محاولة للتهرب من مسؤولية هذه الكارثة التي تسمّم حياة اليمنيين، ومحاولة أَيْــضاً للضغط من أجل استمرار هذا الفساد الذي يبدو بوضوح أن هذه المنظماتِ تستفيدُ منه بشكل كبير، وتسعى جاهدة للحفاظ عليه.
الأدويةُ الفاسدة.. وباءٌ آخر تنشرُه منظماتُ “الإغاثة” الدولية
التحقيقُ تضمّن جزءاً مخصصاً لـ “الأدوية الفاسدة” التي تقدمها أَيْــضاً المنظمات الدولية، وعلى رأسها برنامج الغذاء العالمي.
وفي هذا السياق ينقل الموقع مجدداً عن الدكتورة مكية الأسلمي، مدير المركز الصحي في مديرية أسلم، قولها: “إنه في بداية العام 2019 وزع برنامج الغذاء العالمي خليط صويا مخصصاً للأمهات الحوامل والمرضعات رغم انتهاء صلاحيته، ووجدنا في الخليط سُوساً، ولونُه ورائحتُه وطعمه كان متغيراً، إضافة إلى توزيع فاصوليا مسوّسة أَو فاسدة وذات رائحة كريهة، وكأنها ناتج شحوم”.
كما ينقل الموقع أَيْــضاً عن علي موسى، وهو أبٌ لثلاثة أطفال، من مديرية عبس في حجة، والذي قال “في مطلع نوفمبر 2018 قام فريق ميداني لـ منظمة لإنقاذ الطفل Save The Children البريطانية بجولة ميدانية وقاموا بتوزيعِ كمية كبيرة من دواء Plumpy doz الخاص بعلاج سوء التغذية عند الأطفال، وحصل كُـــلُّ طفل من المنطقة على ثلاثة أَو أربعة عبوات من ذلك الدواء.. راجعت الأدوية لأتفاجأ بأنه متبقٍّ على انتهاء صلاحيتها ثلاثة أيام فقط، وأنا أعلم بأن الأدوية لا توزّعُ أَو يتم تداولها إذا ما كان تأريخ صلاحيتها قريب الانتهاء، وأنا أتحدث هنا عن أشهر وليس أياماً معدودة، خاصةً إن كانت مخصصةً للعمل الإغاثي في بلد مثل اليمن الذي يعاني من نقص التجهيزات الطبية من الأساس، ما يصعُبُ معه علاجُ آثار تناول الأدوية حال كانت فاسدةً أَو منتهيةَ الصلاحية”.
ونشر الموقعُ ضمن التحقيق وثيقة عن إتلاف أدوية منتهية الصلاحية للمنظمة ذاتها كانت في طريقها للتوزيع على مجموعة من المستفيدين، “ووفقًا للوثيقة التي تتضمن محضر إتلاف وقائمة الأدوية غير الصالحة للاستخدام، فإن عملية الإتلاف تمت بحضور مندوب عن المنظمة في صنعاء”.
ونقل الموقع عن رئيس الهيئة العليا للأدوية في صنعاء، الدكتور محمد المداني، قوله: إن هناك ثلاثَ شحنات كبيرة من الأدوية تم ضبطها وإتلافها في ميناء الحديدة خلال عامي 2017 و2018 وإن “هناك شحنات لا تزال حتى الآن محجوزة لمنظمات ننتظر الموافقة على إتلافها من وزارة الصحة؛ لأَنَّها منتهية وغير مطابقة للشروط”.
فسادٌ متعمَّدٌ
التحقيقُ أشار أَيْــضاً إلى أن توزيعَ المواد الفاسدة والتالفة يتم بشكلٍ متعمدٍ من قبل المنظمات، ونقل عن أحد المتطوعين في منظمة إغاثة محلية بصنعاء، قوله: “تلجأ بعض المنظمات الدولية في اليمن إلى توزيع المساعدات منتهية الصلاحية وغير الصالحة للاستخدام، مع علمهم المسبق أنها لا تصلح”!.
حقيقةٌ تثبتها أَيْــضاً تصرفاتُ “برنامج الغذاء العالمي” الذي يتضح من خلال هذا التحقيق ومن خلال تقارير وتحقيقات ومعلومات كثيرة نُشرت في مختلف وسائل الإعلام خلال الأسابيع الماضية، أنه كان حريصاً على تكريسِ مسألة توزيع المواد الفاسدة والتالفة، وظل يحاول إدخالَها إلى اليمن بشكل متكرّر، وبدلاً عن أن يتحمّلَ مسؤوليتَه “الإنْسَـــانية” حول ما يحدُثُ، قرّر في نهاية الأمر أن يلجأَ إلى الابتزاز وتسييس عمله وأعلن إيقافَ نشاطاتِه متذرِّعاً بذرائعَ سياسيةٍ حاول من خلالها أن يغطيَ على هذه الحقائق الصادمة التي أوردها التحقيقُ المستقلُّ الذي بين أيدينا.