الانسحابُ الإماراتي من اليمن.. الرسائلُ والمبرّرات

المسيرة: علي الدرواني

لطالما ظل المستشارُ الإماراتي عبدالخالق عبدالله المقرَّب من محمد بن زايد انعكاساً للسياسات الإماراتية ومعبراً عنها من خلال تعليقاته وكتاباته ومشاركاته في كُـــلّ الوسائل الإعلامية، وعلى رأس هذه السياسات المشاركة الإماراتية في العدوان على اليمن، والتي أخذت نسبةً كبيرةً من اهتمام المذكور، خلال الخمس سنوات الماضية، وكانت من آخر مشاركاته على وسائل التواصل الاجتماعي تغريدة قل أيام يؤكّــدُ فيها أن (الإمارات لن تترك اليمن إلّا بعد تحريره وتحرير عاصمته ومدنه من الاحتلال الحوثي) حسب تعبيره.

هذا المستشارُ التويتري نفسُه خرج، أمس بمقال يجب أن نقفَ على بعض النقاط الواردة فيه والمغالطات والمكاشفات والرسائل لأصدقاء الإمارات وخصومها.

في البداية وقبل التعليق على بعض ما ورد في المقال فَإنَّه وعلى مدى الفترة الماضية ظلت أنباءُ الانسحاب الإماراتي من اليمن مجرَّدَ تسريبات لا تقومُ على شيء ولا تستحقُّ تسويدَ صفحات الدفاتر بالحبر بشأنها، حتى نشرت سي إن إن مقالاً للمستشار الإماراتي عبدالخالق عبدالله الذي حاول من خلاله التأكيدَ على قرار الانسحاب الذي لم يعلن رسمياً حتى الآن.

المستشار إياه وفي مقاله الذي استهله بصيغة التشكيك (إن صحّت الأنباءُ عن رغبة الإمارات خفضَ قواتها)، ناقَضَ نفسَه بنفسه في ثنايا المقال الذي خصّصه لتأكيد قرار الانسحاب والتبرير له، بقوله: (فالمؤكّــد أن قرارَ الإمارات قرارٌ نهائي واتُّخذ بعد تفكير عميق…) والعبارة الأولى تقللُ من نسبة تأكيد الانسحاب، في العبارة الثانية، لدرجة تقترب من الصفر.

لكن هذا التناقض لم يمنع ذلك الكاتب من محاولة الغمز واللمز في السعودية وإيصال الرسائل لصنعاء وطهران، كما لم يخلُ حديثُه من تبرئة حكام بلاده من تبعات ما جرى ويجري في اليمن، ظناً منه أن بضعةَ حروف يكتبها ستكونُ هي المرافعة والحكم بالبراءة في نفس الوقت.

ولقراءة ما بين سطور الكاتب، فهناك رسالتان واضحتان، واحدة للرياض، والثانية لصنعاء وطهران معاً، ذكر الكاتبُ أن (مشاركة الإمارات في حرب اليمن لم تكن مشاركة رمزية وعابرة بل كانت فاعلة وفعالة ومن الصعب الاستغناء عنها أَو استبدالها بسرعة وبسهولة). عند هذه النقطة لا شك أن الكاتب يريد أن يعلي من شان بلاده والرفع من أهميّة المشاركة العسكرية في العدوان، ولا يفوت فرصة أن يغمز من قناة في الرياض ويلمح أنها بعد خروج أبو ظبي من المعادلة العسكرية لا تستطيع المضيَّ وحيدةً، وهو هنا يعكسُ حالةً من التذمر الإماراتي تجاه تصرفات السعودية والمحسوبين عليها في اليمن والذين يستهدفون الوجودَ الإماراتي في عدد من المناطق المحتلّة وعلى رأسها عدن وسقطرى وشبوة، وبالتالي فهو يؤكّــدُ على طبيعة الخلاف المتفاقم بين الرياض وأبو ظبي والذي يتم ترجمته أكثرَ من مرة بصدامات مسلحة في أكثر من منطقة أَيْــضاً ولا سيما في عدن.

هذا من جهة، ومن جهة أُخْــرَى ليست بحاجة إلى استدلال فهي تذكيرٌ بالمشاركة الإماراتية في صناعة أكبر مأساة إنْسَانية عرفتها البشرية في القرن الأخير، ومسؤوليتها عن أبشع المجازر والمآسي التي عصفت ولا تزال تعصفُ بالبلاد وشعبها، والتي يمكن أن تستمر بتداعياتها سنوات طويلة إلى الأمام، وبالتالي تضعُ الإمارات على اللائحة السوداء وقادتها على قائمة المطلوب محاكمتُهم بجرائم حرب مشهودة في اليمن بحق النساء والأطفال والمدنيين بشكل عام.

ثم يعود عبدالله لتأكيد الرسالة للرياض ويؤكّــد أن (الإمارات أدّت واجبَها القومي على أكمل وجه، وربما أكثر من غيرها، بعد أكثر من أربع سنوات من المشاركة الفعالة في حرب اليمن، ودفعت ثمن هذه المشاركة باهظاً، وحتما أكثر من غيرها، بشرياً ومادياً ومعنوياً وسياسياً)، بالتأكيد لا يمكن لأحد أن ينفيَ الخسائرَ الكبيرة التي تلقتها الإمارات في اليمن والتي توصف عبر التأريخ بأنها مقبرة الغزاة، تلك الخسائر تعد واحدةً من أَهَمّ الأسباب للخروج الإماراتي المحتوم، سواء صدقت الأنباء عن هذا الانسحاب أم لا، لكن اللافتَ هو تأكيدُ المستشار عبدالله على أن الإمارات دفعت أكثر من غيرها ثمناً بشرياً ومادياً، وهو ما يؤكّــد حجم الخسارة التي منيت بها القوات الإماراتية الغازية لبلادنا، والتي تكتمت عليها باستثناء أبزر خسائرها في مأرب وباب المندب.

الملاحظُ الآن ومن خلال هذه العبارة أن السعودية والإمارات تشهد بدايةً مبكرةً لجدل محتدم حول جردة الحساب، للمغنم والمغرم على السواء، فحسب المغرم يكون المغنم، على قاعدة الغنم بالغرم، هكذا تريد الإمارات أن تصوِّرَ الأمر، وبناءً عليه يأتي السؤال عن ما هو حجم المغنم الذي تريده أبو ظبي من الرياض، أَو بعبارة أدق، لتسمح لها الرياض بأخذه في اليمن، وليس الجواب صعباً هنا، فمن الواضح أن الإمارات بدأت تشعر بمزاحمة سعودية في المناطق التي ظنت أنها ستكونُ من نصيبها، على سبيل المثال في عدن وسقطرى، وبعدها في المهرة، ثم حضرموت، والآن في المخاء والخوخة، ولكُــلٍّ من السعودية والإمارات أدواتها، ومن خلال تلك الأدوات اليمنية للأسف تتصارعان وتتبادلان الأدوار، والضرب تحت الحزام، ولا يزال صراعهم محتدماً في تعز التي تعاني من ويلات صراع الحلفاء الألداء هناك على مدى العامين الماضيين على الأقل.

(الكرة الآن في ملعب الخصم الحوثي والإيراني، وعليهما الرد على خطوة الإمارات بأحسن منه) ربما تكون هذه الجملة من أبرز الرسائل لكنها في نفس الوقت حملت في طياتها كثيراً من المغالطة سواء من حيث اعتبار الانسحاب الإماراتي إن صح خطوةً تستحقُّ الثناء والإحسان، أَو من حيث يريد تصوير اليمن جزءاً من إيران وليست دولة مستقلة بذاتها، ومهما يكن فَإنَّ الإحسانَ المطلوبَ إماراتياً، هو تجنيبُ مطاراتهم غارات الطائرات بدون طيار اليمنية، التي رأينا مشاهدَ موثقةً لضرب واحدة منها، هذه الرسالةُ تخفي وراءَها الكثيرَ من القلق والخشية الإماراتية من تصاعد الرد اليمني، وقد تناقلت عددٌ من التقارير الغربية ما يدل على أن الإمارات تخشى من أن يصيبها ما يصيب السعودية ومطاراتها وتكرر الهجمات عليها في الشهرين الأخيرين، ولا سيما أنها لن تتحمل تتابع ضربات كتلك، وعلى كُلٍّ فَإنَّ على الكاتب وأولياءِ نعمته أن يعلموا جيداً أنهم سيخرجون من اليمن عاجلاً أَو آجلاً، والفضلُ والمِنَّةُ في هذا لله سبحانه وتعالى أولاً وأخيراً، على تثبيته لشعبنا وإنزاله السكينة عليهم طوال هذه الأعوام، وعلى تأييده ونصره وتمكينه لقيادتنا وجيشنا ولجاننا الشعبية في إيلام العدوّ السعودي والإماراتي وجعله يضربُ حساباته أخماساً في أسداس، رغم ما يمتلكه من دعم وأموال وسلاح ويقف معه من دول، وغيرها.

بعد استغلال مستشار بن زايد لأنباء الانسحاب في إيصال الرسائل لحلفاء وخصوم أبو ظبي، والتي ناقشتها الحلقة الأولى من هذه القراءة، عاد عبدالله إلى موضوع التبرير للانسحاب، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن ما احتوت عليه الرسائل السابقة هي أَيْــضاً توضعُ في سياق المبرّرات، من قبيل الصراع مع الرياض على المغنم والمغرم، أَو تحاشي الرد اليمني، وكذلك الابتعاد عن خطر اندلاع اشتباك محتمل بين طهران وواشنطن، بالإضافة إلى ذلك ساق المستشار إياه عدداً من الأسباب والمبرّرات، المتنوعة بين السياسي والميداني والإنْسَاني.

من الناحية السياسية، ربط المستشار الإماراتي مزعوم الانسحاب باتّفاق استوكهولم، وأشار في حديثه إلى أن الوقت الآن هو للمبادرات غير التقليدية والتنازلات الشجاعة، وهنا تتقافز الأسئلةُ الكبيرة في وجه حكام الإمارات، فأين كانت هذه الشجاعة مدفونة منذ خمس سنوات؟ ثم عن أية تنازلات يتحدثون، هل سيسلمون دبي مثلاً؟ المطلوب من الإمارات ليس التنازل؛ لأَنَّها لا تملك أيَّ حق، وكل ما في الأمر هو أن تتخلى أبو ظبي عن أوهام التوسع، وتعود إلى حجمها الطبيعي، وتترك النهج الذي تغريها به خزائن الأموال، وتدع هي والرياض شعب اليمن يقرر مستقبلَه، دون وصاية، فاليمنيون هم أهل الإيْمَان والحكمة، وهم أرق قلوباً وألين أفئدة، بشهادة خير الأنبياء وخاتمهم، صلوات الله عليه وعلى آله، وليسوا غلاظاً كبَدْوِّ الصحراء، لا سيما عندما يتخلصون من التأثيرات والضغوط التي تمارس على بعضهم في فنادق الرياض وأبو ظبي.

وبخصوص اتّفاق السويد، لماذا لم يتم إلى الآن تنفيذ اتّفاق ستوكهولم إن كنتم تضعونه في هذا المكان من الأهميّة؟ ألستم من يعرقل جهود إعادة الانتشار، ووقف إطلاق النار، وتدفعون بمرتزقتكم في فرق التنسيق إلى رفض كُـــلّ الحلول، والمقترحات والمبادرات وما أكثرها، وهي مبادرات حصلت على إشادة حتى من الأمم المتحدة، التي تقف معكم وإلى جانبكم في عدوانكم على اليمن، أين أنتم من مبادرة إعادة الانتشار والتي تم تنفيذ مرحلتها الأولى من طرف واحدة، إن كنتم حريصين على السلام، وإتاحة المجال لهذه الجهود؟ فقد بات واضحاً أن ما تحكيه افعالكم يخالف ويتناقض بشكل كبير مع ما تضج به أقوالكم.

وليس بعيداً عن الشق السياسي، ولكن من جهة غير مقصودة للكاتب، عندما قال: (فقد أكّــد أكثر من مسؤول إماراتي أن الإمارات ودول التحالف العربي تمكنت من تدريب وتسليح قرابة 90 ألف جندي داعم للشرعية في اليمن) وإذا وضعنا خطاً تحت دعم الشرعية في اليمن وأهملناها قليلاً، فقد أشار إلى أمر لم يعد خافياً على أحد من أبناء الشعب اليمني، وقد أكّــدته تقارير خبراء مجلس الأمن حول ممارسات الإمارات في جنوب اليمن، وإنشاء مليشيا تابعة لها، بعيداً عن الدولة اليمنية، وبعيداً عن الشرعية المزعومة التي يتذرعون بها في غزو واحتلال اليمن، وإن صح الانسحابُ المزعوم ولم يكن مجرد خدعة فَإنَّه دليلٌ بين على الأهداف الحقيقية من عدوانها على اليمن، وتأكيد أن الشرعية الوهمية مجرد شماعة قذرة علقت عليها الرياض وأبو ظبي أهدافاً خبيثة للانقضاض على البلاد وثرواتها.

وأما من جهة الميدان، وهنا مربط الفرس، فبعد أن تحدث عبدالخالق عن (تقليص القوات إلى نصف العدد الراهن الذي يبلغ 5000 جندي، كما سيشمل سحبَ الآليات والمدرعات والدبابات والأسلحة الثقيلة وطائرات الهليكوبتر ونظم الدفاعات الصاروخية والاعتراضية المتطورة من عدة جبهات) برّر ذلك بالهدوء الذي تشهدُه جبهةُ الساحل الغربي، رغم أن الخروقات مستمرة بشكل لم تعد مجرد خروقات، فهناك زحوفات ومحاولات تسلّل وقصف مكثّــف، على عدد من المناطق والمديرات، ولا ننسى أن المدنيين في مديرية الدريهمي لا يزالون يعانون تحت الحصار.

إن تبريرَ الكاتب بأن (الانخفاض الكبير في المواجهات اليومية في ساحات القتال هو الدافع الأهم لخفض التواجد العسكري الإماراتي في اليمن) يجعلنا نضعُ أيدينا على النقطة الأهم ميدانياً والتي التفَّ عليها الكاتب هنا، وذلك بما يخص السبب وراء انخفاض المواجهات، وهو حجم الخسائر التي تكبّدتها قوات العدوان ومرتزقتها، في جبهة الساحل الغربي بالتحديد، وهي الخسائر التي أجبرتهم على الذهاب إلى السويد والخروج بإعلان الاتّفاق لحفظ ماء وجههم، وتجنب الهزيمة المنكرة، والخروج بما تكبّدوه من الخسائر، ورغم أن الاتّفاق لم يوفر لهم كُـــلّ ما يريدون ويحلمون به من أهداف، إلّا انهم ما كانوا ليقبلوا به لو شعروا للحظة أن بيدهم اخذ المزيد من المكاسب عسكرياً.

وأخيراً في المجال الإنْسَاني، وهو المجال المؤرق لدول العدوان والأكثر حساسية، لا سيما في ظل التقارير الحقوقية والإنْسَانية التي تصف ما يجري في اليمن بأكبر مأساة في العالم من صنع البشر، وتحمل كُـــلّ هذ التقارير الدولية والأممية المسؤولية المباشرة على عاتق الرياض وأبو ظبي، بالإضافة إلى تقرير خبراء مجلس الأمن الذي وضع أسماءَ قادة الإمارات والسعودية على قائمة المسؤولين الذين يجب مسائلتُهم عن الجرائم المرتكبة في اليمن، وفي تقريرهم الأخير أكّــد الخبراء أن الجرائم في اليمن لا يمكن أن يحاسب عليها أفراد فقط، بل هي من جرائم الدول والأنظمة، بما يعنيه هذا التوصيف من مستقبل أسود ينتظر هؤلاء الحكام المجرمين؛ ولهذا فإنَّ عبارةَ الكاتب (لا أحد يستطيعُ بعد قرار سحب قواتها من اليمن أن يضع اللوم على الإمارات أنها مسؤولة عن إطالة الحرب في اليمن) كانت تعبيراً واضحاً عن عميق القلق لدى حكام الإمارات من هذا المصير المحتوم، والذي يليق بقتلة أطفال ونساء اليمن.

لكن، ورغم أن الكاتب يتحدث عن عدم لوم الإمارات بعد انسحابها من اليمن، إلّا أنه فيما يبدو يمنّي نفسَه ويوهم أولياءَ نعمته أنه بمجرد الخروج من اليمن، لن يكونوا مسؤولين عما جرى فيها.. فمن أعطى الإمارات أَو غيرها صكَّ الغفران من جرائمها بحق الشعب اليمني المستمرة منذ خمس سنوات، وهي الجرائم الوحشية التي حصدت عشرات الآلاف من المدنيين، وهدمت عليهم منازلهم ليلاً، وقتلتهم في أعراسهم وعزائهم وأسواقهم ومدارسهم، في أية شريعة بل في أي دين أَو أي عرف؟!، وهذه الدماء والأيتام والأرامل والدمار والجوع الذي خلفه عدوانكم لا تسقط بالتقادم، ولا بد من يوم يدفع فيه المجرمون بحق شعب اليمن ما يكون شفاء لصدورهم وإيفاء بحق شهدائهم ورفعاً لرؤوسهم وتثمينا لتضحياتهم.

وفي الختام، فَإنَّنا أمام مرحلةٍ جديدة ستأخذ مساراتٍ جديدةً أَيْــضاً، سياسياً وعسكرياً، ويجبُ أن لا ننخدعَ بالانسحاب الإماراتي المزعوم، لا سيما والإمارات لا تزال تستقبلُ مئاتٍ من العناصر المرتزقة لتدريبهم في أراضيها، ورغم إيْمَاننا الراسخ بان الاحتلالَ المفروض والعدوان على بلادنا إلى زوال حتمي، عاجلاً أَو آجلاً، إلا أننا لا يمكن أن نتحدثَ عن أي انسحاب لأيٍّ كان، إلّا عندما يتم تطهيرُ اليمن من كُـــلّ وجود للغزاة والمحتلّين، وسيكون ذلك قريباً بإذن الله.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com