إحاطاتُ مارتن بن غريفيث المتشائل .. بقلم د/ أحمد الصعدي
بدا المبعوثُ البريطانيُّ الأُمَمي إلى اليمن ، مارتن غريفيث في آخرِ إحاطة له أمام مجلس الأمن (الخميس الفائت 18/يوليو) جامعاً في مزاجه بين حالتين متناقضتين هما التشاؤم والتفاؤل فحق لنا أن ندعوَه المتشائلَ ، مستذكرين عنوانَ رواية الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي (الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل) .
فما الذي يدفعُ المتشائلَ ، مارتن غريفيتث ، إلى التشاؤم والتفاؤل في آن واحد؟ لنبدأَ بدواعي التشاؤم وهي مرتبطةٌ بما يعانيه من قلق . فالمبعوثُ الأُمَــمي قلقٌ جداً ، وقَلِقٌ بوجه خاص؛ بسَببِ استخدام اليمنيين حقَّهم الطبيعي والمشروعَ في الرد على العدوان المتوحش على بلادهم الذي دخل عامَه الخامس . لا شيء يقلق السيدَ الإنجليزي ذا الأعصاب الباردة إلا قصفُ اليمنيين لما سماها البُنية التحتية المدنية في المملكة العربية السعودية ، المملكة الأليفة والوديعة والمسالمة! أما المصدرُ الثاني للقلق الذي يعاني منه المتشائلُ مارتن غريفيث فمبعثُه إمكانيةُ انخراطِ اليمن في حرب إقليمية . والحربُ الإقليمية المقصودةُ هي التي قد تنشأُ بين أمريكا وحلفِها العدواني الذي يضُمُّ بريطانيا والكيان الصهيوني والسعودية وأتباعَها من الأعراب وبين إيران .
أليس غريباً أن يقلقَ المتشائلُ الأُمَــمي على اليمن من حربٍ إقليمية إذا كانت الحربُ الدائرة عليه قد استهدفت كُــلَّ شيء فيه ، وقتلت وجرحت عشراتِ الآلاف وشرّدت الملايين وفرضت حصاراً خانقاً إلى حَدِّ أن أيةَ حرب أُخْــرَى لا تعني له إلا انشغال تحالف العدوان بتلك الحرب الجديدة ، لا سيما أن الدولَ التي ستنخرِطُ في الحرب على إيران -إذا حدثت الحرب- كلها منخرطةٌ في العدوان على اليمن . وهكذا يكونُ التفسيرُ الوحيدُ لقلق غريفيث ولرغبته بالنأي باليمن عن أية حرب إقليمية ، وهي الرغبةُ التي استحسنها الأمريكيون والسعوديون . . إذ تكمُنُ في محاولة جعل اليمنيين يبقون مكتوفي الأيدي أمام عدوانٍ يحتل أراضيهم ويقتلُهم ويحاصرُهم ، ويتوقفون عن مقاومتِهِ وعن قصفِ قواعده العسكرية حتى يركزَ كُــلَّ قواه وجهوده للحرب على إيران ، وحالما يفرغُ من مهمته تلك يعودُ لتصعيد عدوانه على اليمن! ، يا سلام على هذا الذكاء أيها التمساح الإنجليزي رشيق الحركة ومعسول الكلمات . ولكن تمهَّلْ قليلاً: ألم يبرِّرِ المعتدون حربَهم على اليمن بالادّعاء أنهم يحاربون إيران؟ ، وألم يقل المبعوثُ الأمريكي إلى إيران قبل أيامٍ معدودة أن بلادَه سترُدُّ على إسقاط إيران لطائرة التجسس الأمريكية بتصعيدِ الحرب في اليمن؟! فكيف إذاً يستقيمُ الكلامُ عن الحرب ضد إيران في اليمن والنأي بالحرب على إيران في اليمن عن الحرب على إيران في إيران؟! هذا عن تشاؤم المتشائل غريفيث ، أما عن أسباب تفاؤله فتبقى غامضةً ؛ لأَنَّه قال أمام مجلس الأمن : إن هناك مَن يتهُمُه بالتفاؤل وإن هذه التهمةَ تسُرُّهُ جداً . أما نحن المواطنين اليمنيين فلا نرى للمبعوث إلا جولاتٍ ولقاءاتٍ وإحاطات وجهازاً متضخماً من المساعدين والأمنيين ، ومكاتب موزعة في بلدان مختلفة . فإذا استمر المبعوثُ في هذه الحركة الصاخبة واستمر التمويلُ المسرِفُ ، وكفت الصواريخُ اليمنية والطائرات المسيّرة عن زيارات أراضي دولتَي العدوان -السعودية والإمارات- ستكون لدى غريفتث كُــلُّ أسباب التفاؤل والغِبطة والسرور . فالحركةُ عند المبعوث الأُمَــمي هي كُــلُّ شيء ، لا سيما إذا حصر الموتَ والدمارَ وكُلَّ ويلات الحرب في اليمن فقط من غير أن تطالَ قواعدَ المعتدي ومطاراتِه ضرباتٌ دفاعية يمنية واجبةٌ ومشروعة .
ظريفٌ أنت يا غريفيث ، إذ تنعش ذاكرتنا فنستحضر إدوارد برنشتين (1850/1932) أحد أكبر منظِّري الجناح الانتهازي التحريفي في الاشتراكية / الديموقراطية الألمانية وفي الأُمَــمية الثانية ، الذي رأى أن تحسينَ معيشة الطبقة العاملة في ظل الرأسمالية هو كُــلّ شيء ، ورَوَّجَ لصيغته الانتهازية القائلة ((الحركةُ كُــلّ شيء ، الهدفُ النهائيُّ لا شيء)) . ويبدو أن الأُمَــمَ المتحدةَ وهيئاتِها ومبعوثيها أفضلُ مَن استلهم هذه الوصية البرنشتينية ويُطَبِّقُها على أكملِ وجهٍ .