المطبّعون يهرولون بالطاعة نحو احتلالهم وحتوفهم
المسيرة: وضاح عيسى*
ما كان مخفياً أصبح الآن معلناً، وما كان ممنوعاً في السابق، بدا اليوم مُباحاً وبفجاجة وقحة، والمقصودُ هنا تطبيعُ أنظمة رجعية تدّعي العروبةَ والإسْلَام مع كيان الاحتلال الإسرائيلي العدوّ الغاصب للأرض والحقوق العربية، فالتطبيع -كما نعلم- هو من أكبر الكبائر، ومن الحرمات القطعية، ونعلم أيضاً أن من يفكّرُ لمجرد التفكير به يصفُه الناسُ بأشنع الصفات، ويُصنَّفُ في خانة الخيانة بمدلولها الدنيء، لخيانته للشرف والمبادئ والقيم العليا فيحارب وينبذ، فهل بقي هذا الحال على ما هو عليه أم تغيّر؟.
التطبيعُ مع العدوّ الصهيوني الذي صراعُنا معه صراعُ وجود، هو من أكبرِ الكبائر ومن المحرّمات ومَن يقوم به خائن، بالمفاهيم العربية والإسْلَامية والقيمية والأخلاقية والقانونية، وهذه المفاهيمُ لم ولن تتغير، وبالمقابل، المطبِّعون أنفسُهم لم يتغيروا، ويبدو أنهم لن يتغيروا، وهم في الحقيقة خائنون بكل المقاييس، لكن الذي تغيّر هو انتقالهم بالتطبيع مع العدوّ الصهيوني من السر إلى العلن، فمَن كان يخفيه سراً ويظهر عكسه في العلن؛ باعتباره ممنوعاً لأسباب ما أسلفناه، بات اليوم يشهرُه على رؤوس الأشهاد -أي التطبيع مع العدوّ الصهيوني- عدو الأُمَّـة العربية، بعد أن أسقط عنه وبلا أي خجل أَو وجل ما يطلق عليه بالمحرم وأكبر الكبائر، وهرول إليه بكل وقاحة، بعد أن اخترع في نفسه وفي ذهنه وأذهان من لف لفه “عدواً وهمياً”، لـ “يسقط” عن عدو الأُمَّـة العربية حقيقتَه العدوانية القطعية و”يبرِّؤه” من إرهابه وعنصريته ودنسه وأهدافه العدوانية!.
لعل ما نشهده اليوم من هرولة للأنظمة الرجعية نحو التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي تجري بشكل فج، قد تعدت حدودَ التطبيع نحو التنسيق والتعاون على أعلى المستويات وبمختلف المجالات على حساب الأُمَّـة العربية وأبنائها ودمائهم ومصالحهم ومقدراتهم، حتى باتت تهدّد وجودهم وهُويتهم وانتماءَهم، وكُلُّ ذلك مقابل استمرار بقاء تلك الأنظمة على كراسيها وعروشها وكروشها، ومتابعة أداء الدور الوظيفي الملقى على عاتقها من قبل مشغليها في الغرب على أكمل وجه بما يخدم أهداف عدوَّ الأُمَّـة ومُخَطّطاته العدوانية، فنراها تتسابقُ وتتبارى فيما بينها طلباً لوضاعتها في الحصول على رضا الأمريكي ومباركته لها بانصياعها وهرولتها نحو التطبيع والتنسيق مع العدوّ الصهيوني ضد مصالح العرب وتقديم الطاعة والخدمة المجانية له في تحقيق أهدافه الإجرامية..!.
مع تخطِّي دونالد ترامب عَتَبَةَ البيت الأبيض زادت وتيرةُ التطبيع بين الأنظمة الرجعية والكيان الصهيوني بأشكال متعددة، من دلائل التطبيع الخليجي- الإسرائيلي المعلن عنها في الآونة الأخيرة، ما افتتح عن طريق الرياضة، حيث شارك كيان الاحتلال في أنشطة رياضية وثقافية أقامتها دول خليجية، قبل أن تتبعها زيارة رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، وأعقبها عقد “الورشة الاقتصادية” الأمريكية المشبوهة في إحدى عواصم الخليج بدافع “تصفية” القضية الفلسطينية، وتبعتها زيارة وزير خارجية كيان الاحتلال إسرائيل كاتس إلى دولة خليجية ولقائه مسؤوليها، لكن الزيارة لم يفصح عنها رسمياً لا من قبل الدولة المضيفة، ولا من الكيان الإسرائيلي!.
وعلى غير العادة الإسرائيلية في الإفصاح عن أية زيارة تقوم بها وفودها، بقيت زيارة كاتس سرية وتم التعتيم عليها إلى أن كشف موقع “إسرائيل بالعربية” التابع للخارجية الإسرائيلية لاحقاً عنها وعن تفاصيلها وأسبابها ولقائه مسؤولي الدولة الخليجية وبحثه معهم تعزيز العلاقات الاقتصادية مع كيان الاحتلال، ومناقشة آليات التعاون والتنسيق المشترك لمزاعم “تهديدات” إيران، على حَــدِّ تعبير الموقع الإسرائيلي في بيان لخارجية كيان.
الموقعُ الإسرائيلي أعلن أن زيارةَ كاتس للخليج تأتي ضمن سياق مشاركته في مؤتمر الأمم المتحدة لشؤون البيئة، وبحثه مع مضيفيه لما أطلق عليها تسمية مبادرة “مسارات السلام الإقليمي” التي تشمل في إطارها الاتصال الاقتصادي والاستراتيجي الخليجي- الإسرائيلي عبر الأردن وشبكة السكك الحديدية الإسرائيلية وميناء حيفا على البحر المتوسط، وتصريحاته التي أبدا فيها حماسه لوجوده في منطقة الخليج وتمثيل مصالح إسرائيل فيها، واستمرار العمل لتعزيز سياسة التطبيع الإسرائيلية- العربية بالاعتماد على قدرات “إسرائيل” الاستخباراتية، حسب كاتس!.
زيارةُ كاتس إلى منطقة الخليج هي الثانيةُ لوزير إسرائيلي، حيث سبقته إليها ما تسمى وزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيلية ميري ريغيف في 29 تشرين الأول الماضي، وقد قوبلت زيارة ريغيف بتنديد شعبي عربي واسع، ولم تقف صورة التطبيع عندَ كُـــلّ ما سبق، فما يظهر لا يقابل ما يخفى، ولا بما مُخَطّط له تطبيعياً في الراهن والمستقبل، إذ كشف يوسي كوهين رئيس “الموساد” الإسرائيلي في مؤتمر عن دور جهازه الاستخباري في التقريب ما بين “إسرائيل” وأنظمة عربية، وعن ما سماها “فرصة فريدة لإبرام اتّفاق تسوية”، ورأى أن “الأجواء الحالية تشجّعُ على فرصة ربما تكون الأولى في تأريخ المنطقة للتوصل إلى تفاهم إقليمي يمكن أن يؤدي إلى اتّفاق تسوية شامل، وأنّ لدى إسرائيل مصالحَ مشتركةً وتعاوناً مكثفاً وقنوات اتصال مفتوحة مع دولٍ في المنطقة”.
ورغم ما يعلن عن لقاءات مسؤولين عرب مع إسرائيليين وزيارات متبادلة ومبادرات مشبوهة، يبقى في الخفاء ما هو أعظمُ وأخطر، حيث كشف الغطاءُ عن وجود اتصالات سرية بين النظام السعودي وَالكيان الإسرائيلي للتوصل إلى اتّفاقية عسكرية جديدة تفتح أبواباً كانت مغلقة في السابق، وتُدخل كيان الاحتلال في عمق المنطقة العربية، وبيّنت مواقع إخبارية أن كيانَ الاحتلال يسعى للحصول على أرض لإنشاء مطار شمالي السعودية يكون ملكاً للاحتلال ويستخدمه لطائراته العسكرية التي تعربد في المنطقة، بمقابل مادي طويل الأمد، وأن مباحثاتٍ تُجرى للحصول على موافقة النظام السعودي بالسماح لجنود العدوّ الإسرائيلي بالإقامة في الموقع مع وضع أجهزة للمراقبة والتجسُّس الخاصة بأمن المطارات العسكرية.
الطلبُ الإسرائيلي قُدم للسعودية قبل أشهر، وبدأت فعلياً مشاوراتٌ ولقاءات حوله، وفقاً لمصادرَ عربيةٍ مسؤولةٍ بيّنت أنه ينُصُّ على استئجار الاحتلال للمنطقة العسكرية نظير مقابل مادي طويل الأمد، وسيسمح هذا الطلب بأن تكون الأرض السعودية ملكاً للاحتلال، وأن هذه الخطوة إذا تم التوافُقُ عليها بين الجانبين ومنح النظام السعودي أرضاً لكيان الاحتلال ستكون سابقة تأريخية، وخطوة متقدمة في العلاقات السعودية – الإسرائيلية، ستفتح مدخلاً جديداً للأنظمة الرجعية التي تقف مع النظام السعودي في علاقاتها مع “إسرائيل”.
ويبدو من خلال ما يجري الحديث عنه، وحسب ما يسرب من معلومات ومعطيات، بأن مكانَ المنطقة العسكرية التي تدور المباحثات حولها تقع بالقرب من مطار الأمير سلطان بن عبدالعزيز الإقليمي الذي يبعُدُ نحو كيلومترين عن مدينة تبوك في الشمال السعودي، وهي منطقةٌ حسّاسةٌ ومهمة استراتيجياً وعسكرياً لقُربها من كيان الاحتلال الذي يسعى لتكونَ محطةً عسكريةً لطائراته ونقطة تعاون عسكري كبير بين النظام السعودي و”إسرائيل” بزعم “مواجهة خطر إيران ونفوذها في المنطقة الخليجية”، ليتمكّن من خلالها في زرع أجهزة تجسُّس ومراقبة انطلاقاً منها.
النظامُ السعودي لن يعلنَ عن هذا الاتّفاق مع كيان الاحتلال لا الآن، ولا في حال إتمامه؛ لذلك سيتحدّثُ إن اضطره الأمر بأن المنطقة العسكرية تابعةٌ للقوات الأمريكية، لكن في الحقيقة سيكونُ الوجود العسكري الإسرائيلي كبيراً فيها، وَفْقاً للمحللين والمتابعين للشأن العربي والإسرائيلي الذين يرون أن العلاقات السعودية – الإسرائيلية في أوج مراحلها اليوم، حيث شهد عام 2018 سلسلة زيارات ولقاءات تطبيعية بين النظام السعودي وكيان الاحتلال في مختلف المجالات، وقد كشفت وسائل إعلام العدوّ الإسرائيلي عن الزيارات التي يقومُ بها اللواءُ أحمد عسيري -نائب رئيس المخابرات السعودي المقال- إلى كيان الاحتلال في مناسبات مختلفة، وهذا ما أفصحت عنه صحيفةُ “وول ستريت جورنال” الأمريكية.
ويشير مختصون في الشؤون الأمنية والعسكرية إلى أن “إسرائيلَ” تسعى منذ سنوات للحصول على أرضٍ سعودية لتكون مطاراً عسكرياً لجيشها، ليقربها أَكْثَـــرَ من المنطقة العربية، وأن السعوديةَ قد تقبل الطلب الإسرائيلي، وتمنحه أرضاً يقيمُ عليها قاعدةً عسكريةً بذريعة “التحالف الدولي” في مواجهة إيران، يكونُ النظامُ السعودي جزءاً أساسياً فيه، وهذا ما يستغله العدوّ الصهيوني، إضافةً إلى الظروف التي تمر بها المنطقة، ليتقدم خطوة وراء خطوة في التقرب من العمق العربي عبر العلاقات التي يفتح أبوابها، والمطارات والموانئ العسكرية، بحيث لا نتفاجأ مستقبلاً بوجود الجيش الإسرائيلي على أراضٍ سعودية لا سيما أن النظامَ السعوديَّ فتح كُـــلَّ أبوابه مع العدوّ الإسرائيلي، فإن لم يكن بالمعلن فبالسر!.
وهذا الأمر لم يخفِه الإعلامُ الصهيوني، حيث أشاعت صحيفة “معاريف” في ١٩ تشرين الأول الماضي أن “الحلف بين إسرائيل والدول العربية المعتدلة بدأ يرتفع درجة، من اتصالات سرية في الغرف المغلقة ليصبح أَكْثَـــر علنية وانكشافاً، وإن كان لا يزال يدار برعاية منتديات دولية أَو في هوامشها”، وبيّنت أن “لقاءات رئيس الأركان الإسرائيلي مع نظرائه العرب، هو دليل على التعاون بين إسرائيل والدول العربية المعتدلة والذي أصبح أَكْثَـــر علانية”، كما كشفت عن مشاركة رئيس الموساد الإسرائيلي مع وزير خارجية النظام السعودي السابق عادل الجبير ودبلوماسيون عرب في مؤتمر دولي في نيويورك أيلول الماضي، وعقد لقاءات سرية معهم ذات هدف ومصلحة، وستبقى هذه اللقاءات محدودة ولن ترتفع إلى السطح بشكل علني، طالما لم تقدم في المستوى الفلسطيني، لكنها تؤكّـد مواصلة “إسرائيل” المشاركة المجال العسكري وفي قوة خاصة تعمل في الأردن ويتقاسم أعضاؤها المعلومات الاستخبارية”!.
مهما هرول المهرولون نحو التطبيعِ مع عدو الأُمَّـة العربية وشعوبها، وتقديم أولئك الصاغرين فروض الطاعة للعدوّ لإبقائهم على دورهم الوظيفي في خدمة أهدافه العدوانية حفاظاً على عروشهم، فإن مساعيهم الدنيئة ساقطة أمام الإرادة الشعبية العربية الحرة والشريفة، التي عاهدت نفسها والوطن على النضال المتمسكة بخيار المقاومة وتقديم الغالي والنفيس لاستعادة الحقوق المغتصبة وطرد المحتل الصهيوني وأعوانه الخانعين الخائنين، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
* كاتبٌ ومحلِّلٌ سوري