صراعُ الأدواتِ والدُّمَى
يُعلِنُ متحدِّثُ القوات المسلحة عن موعدٍ للكشف عن منظومتَي دفاعٍ جوية، ونشر توثيقٍ لعمليات إسقاطِ طائراتٍ معادية، بعد بيان البنتاغون الذي نعى فيه طائرة إم كيو 9، الأمريكية، التي أسقطتها الدفاعات الجوية اليمنية، وبعد طولِ إثخانٍ بشكل يومي في العمق السعودي بطائراتٍ مسيّرة، وصواريخَ بالستية، في الوقت الذي يحشدُ مرتزقةُ الإمارات ومرتزقةُ السعودية أنصارَهم لخوضِ ليلةٍ دامية في شبوة، وما بين المشهدين تفاصيلُ لا تبعُد أن تكونَ مشاهدَ تكميليةً لكليهما.
انتصاراتُ المجاهدين من الجيش واللجان الشعبية تتراكم، وتتنوّع، وتمضي قدُماً في ذات الخط والمسار الذي بدأته من أول يوم، لا تحيد عنه ولا تميل، ولا تقيل ولا تستقيل، بينما فشَلُ تحالفِ الأحزاب الأمريكية في اليمن يزداد اتِّساعا، ووضوحا، وتيهانا، واصطراعا، وبحثًا عن وِجهةٍ لم يُضِعْها مرتزقتُه لتوِّهم، بل من أول يوم جنّدوا أنفسهم فيه أدواتٍ للمشروع الأمريكي الصهيوني الذي ينفَّذ بقفازاتٍ سعودية إماراتية.
قال مرتزقة السعودية: ليست الإماراتُ على شيءٍ، وقال مرتزقة الإمارات: ليس الدنابيع السعوديون على شيء، وَصَدَقَ جميعُهم، وهم الكاذبون، وحروبهم ضد الشعب اليمني وضد بعضهم أيضا لم تكن لهم، كما أن سِلْمَهم لا يعبِّرُ عن رغبةٍ حقيقية لديهم، والسؤالُ الذي يطرح نفسه: لماذا هذه الحرب بين طرفي المرتزقة في الجنوب اليوم؟ ولماذا استطاع المخرج السعودي والإماراتي احتواءها قبل عام؟ وأين منها السعودية والإمارات؟ وهل تعكس الحرب الساخنة على أرض الجنوب حربا باردة بين الأداتين الأمريكيتين السعودية والإمارات؟
من الواضح أن كِلا السعودية والإمارات في اليمن بلا مشروع، بل هما مجرد قفازَيْنِ مُلوَّثَيْنِ تحركها اليد الأمريكية الصهيونية، وهي اليد التي تحمل مشروع التقسيم والتفتيت والبعثرة لليمن والمنطقة.
في بداية العدوان أوحى الشيطانُ الأمريكي إلى عبدِه السعودي والإماراتي أن هناك فرصةً في اليمن لإظهار الفحولة المصطنعة والتي يمكن الاستعاضة بها عن النقص الحاد في مشاعر الرجولة تجاه النووي الإيراني، فرأى الصبيان السعوديون والإماراتيون “نزهة” يمكن امتطاؤها للوصول إلى أمجاد النصر وأحلام الجدارة لاستلام الحكم والهيمنة في المنطقة، لكنَّ اليمن التاريخية والحضارية برهنت للمرة الألف أنها عصية على الواهمين، وبيَّنت أن الجاهل بتاريخها وجغرافيتها لا يمكنه إدارة مدرسة ابتدائية فكيف بأمة حضارية ضاربة جذوها في التاريخ؟!.
مضَتْ هذه الأدواتُ في عدوانها على اليمن بلا خطوط ولا سقوف، وطوّعت لنفسها أكثر وأكبر الإمكانات السياسية، والمادية، والعسكرية، والبشرية، ولكنها بعد أكثر من أربع سنوات لم تجنِ سوى الفشل والسمعة الأسوأ على مستوى العالم، وسوى تركةٍ ثقيلة من العار الذي لا تغسله محيطات الدنيا، والدمار الذي سيظل شاهدا على حجم الإفلاس الأخلاقي والقيمي والإنساني.
حين يلعب الصبيانُ فمن الضرورة وجود محكمة من كبار القوم لفصل القضايا التي ما تلبث أن يثيرها حُمْقُ الطفولة بين الفينة والأخرى، فكيف والحال أنها لعبة خطرة، تشبه لعبة العدوان على اليمن؛ ولهذا فإنَّ الأمريكي لا بد أنه حاضر بشكل دائم لترتيب الإجراءات لهؤلاء الصبية، ولا سيما وهم يُحَرِّكون الدُّمى في الأماكن المتقاطعة والمتناقضة، وقد يتركهم في لحظة إذا رأى أن تركهم مفيد لمشروعه في التمزيق والتناحر.
ليس بعيدا أن ما يجري نوعٌ من تبادل الأدوار بين “بِزْران” السعودية والإمارات، هكذا قد أفسِّرُ بعضَ الأحداث، لكنَّ أمورا كثيرة باتت تبرهن أن المخرج الأمريكي يريد أن تمضي اللعبة على هذا النحو من التشاكس والتماكس، لخدمة مشروع التمزيق والتفتيت والبعثرة، ولهذا قد يوحي للسعودي والإماراتي بدفع “دُمَاهم” إلى مربّع التناقض والاختلاف، أو في أقلِّ الأحوال يتركهم وشأنَهم للتحرك في الهامش المسموحِ به، وهو الشأنُ الذي لا يستند إلى استراتيجية ولا مشروع ولا رؤية، والذي بالتأكيد سيصل بأطرافه إلى مربَّع الصراع.
لعلَّ ما يجري في الجنوب قد بدأ منذ الصفعة الإيرانية المدوِّية، بإسقاطها الطائرة الأمريكية المتطوِّرة على مياه الخليج، فظنَّ السعودي والإماراتي والإسرائيلي أنه الحصادُ الذي انتظروه طويلا للصراع الكبير، والذي سيُلْحِق بالإيراني ضررا كبيرا، فيكون عقوبةً للعدو الذي يُفْتَرَضُ أنه هو من قضى على أحلام فحولتهم الخائبة، غير أنّ الجميع استيقظ على تراجعٍ أمريكي مُخْزٍ، واعتذارٍ باردٍ وسخيف، أوحى للجميع أن أمريكا ليست غبية للدخول في صراعٍ قد تبدأه، ولكنها لا تتصوّر نتائجه، فأُسْقِطَ في يد الإماراتي، وتيقَّن أن صراع “الفِيَلة” سوف “يهرس” الزرع الأخضر في أرض الملعب، وأن الصواريخَ لن تكون بردا وسلاما على ناطحاتهم الزجاجية، وفي ذات الوقت أدركوا أن الطائرات المسيرة والصواريخ البالستية اليمنية ليست “بيضة ديك”، بل هي برامجُ استراتيجية، وحصيلة هائلة، دأب عليها أصحابها لتكون بمخزون استراتيجي، وعلى نحوٍ دراماتيكي متصاعد، وباتت يمكنها أن تُحوّل “دبي” إلى خرابةٍ كبيرة، ومناحةٍ عالمية، وها هي أسراب المستثمرين تغادرها ولا تعود إليها.
من هنا بدأت الانعطافة الإماراتية، فتحرّكت في الهامش الأمريكي، وتواصلت بالإيراني، وتذكّرَتْ مقولةً لشيخها “زايد” قالها ذات مرة لمسؤول بريطاني حرّضه على الحرب لاستعادة الجزر الثلاث، فقال له: “أنت ستبقى هنا نصف ساعة، ثم تعود إلى بلدك هنا، ونحن هنا موجودون في هذه الضفة من الخليج، وإيران موجودة على الضفة الأخرى منذ آلاف السنين”.
أعلَنَتِ الإماراتُ انسحابَها من اليمن، وفتَحَتْ خطًّا للحوار مع إيران، فكانت الامتعاضة السعودية، والشعور بالطعنة الخلفية، التي عبّر عنها مغرِّدٌ سعودي من ذبابها الإلكتروني ساعةَ قال: “الخائن هو الذي يَعِدُك أن يكون رفيقك في رحلتك الصحراوية، ثم يتركك في منتصفها”، يشعر السعوديون أنهم في وسط الصحراء تائهون، وحليفهم يحاول أن يجد طريقا مختلفة بعيدة عنهم، بينما يترك الأمريكي “صبيانه” ليحسموا أمرهم، ويترك لهم بين الفترة والأخرى أن يحلوا مشاكلهم بطريقة التغالب التي لن تخرج عن إطاره المرسوم سلفا.
السعودية حتى اليوم لا تملك رؤية للخروج من هذه الحرب الفاشلة، والإماراتُ تريد أن تخرج، ولكنها لم تكوِّن رؤية صحيحة وآمنة عن طريقة الخروج، هذه الضبابية انعكست على واقع مرتزقتهم في الميدان، مرتزقة الإمارات يُسرِعون الخُطَى لفرضِ الأمرِ الواقع، ليكون هناك جنوبٌ تحافظ فيه الإمارات على نفوذها، للحصول على النتائج التي دخلت الحرب من أجلها، وهي الهيمنة على السواحل، وميون، وسقطرى، والموانئ، والسعودية ترى أنها لم تحصل على شيء من الغنيمة المتوفرة، وتخسر كلّ شيء، بل إنّ أمنها واقتصادها على كف العفريت اليمني، الذي تتصاعد قوته بشكل واضح يوما بعد آخر.
اختلافُ “خُدَّام” أمريكا، انعكس على “خُدّام الخُدّام”، فالجميعُ يريدُ حصتَه من الغنيمة، وليس هناك غنيمة سوى الجنوب المحتل، وربما نجحت زيارة ابن زايد إلى السعودية في تجاوُزِ واقع “عدن” الذي فرضه مرتزقة “الانتقالي”، لكن امتداد الأطماع الإماراتية إلى شبوة، وحضرموت، والمهرة، أمرٌ غير مقبول لدى السعودية، حيث يبدو “الصبيُّ” الإماراتي فيها طامعا بأكثر من حجمه في اللعبة، والتي أصلا يفترض أن تكون قسمة أدوارها بيد “الصبي” السعودي.
بدأ الصبيان بالضرب تحت الحزام لكليهما، فالسعودية سمحت لمرتزقتها بالنباح ضد الإمارات بشكل رسمي وشعبي، وفي المقابل نباح مرتزقة الإمارات ومغرديها لا يقل سوءا عن غرمائهم، ولكن ضد الدنبوع وحكومته، فأنيس الصبيحي مقابل حمد المزروعي، وضاحي خلفان في مواجهة العقيلي سليمان، ويلتزم قرقاش الصمت السلبي، حتى إذا آلمته سياط “ناكري الجميل” وَجَدَ متنفَّسًا في تغريدة وزير خارجية دولة الرتويت “البحرين” ليخرج ما في مكنونه من حَنَقٍ وغيظ على نكران مرتزقة السعودية تضحيات الإمارات.
ويتوزّع الإخوان بين السعودية وقطر واسطنبول ليمثلوا دورين، دورا ضد الإمارات فقط من قلب السعودية، ودورا ينفِّذه الإخوان القطريون والعثمانيون؛ إذ لا يفتأون عن مهاجمة السعودية والإمارات معا، تماما مثل مخلّفات “عفاش” من مرتزقة طارق، فمَنْ نَزَلَ على المائدة الإماراتية يقف خلف الإمارات قلبا وقالبا، وبات يدعو للانفصال، بينما مَنْ حَطّتْ به الرحال على الموائد السعودية فإنه بات يهاجم الإمارات.
صراعُ الأدوات سيستمر في شبوة وبقية المحافظات المحتلة، ما دام المنتج السعودي والإماراتي مختلفين، وما دام هذا يخدم المشروع الأمريكي في التمزيق والتفتيت وإثارة الحروب الكثيرة والمعقَّدة في المنطقة، والتي تتْرُكُ ندوبا غائرة وجروحا عميقة في جسد الشعوب، ومن المحتمل أن يستغل الإماراتي هذا الهجومَ السعودي بأفواهِ الدنابيع، والذي يصفه بالنكران، لإكمال الخروج من المستنقَعَ اليمني، وإن بالطريقةِ التي يُحاوِل بها الحفاظ على ما يمكن من النفوذ في الجنوب عبر أدواته، بينما سيظل السعودي يصارع الغباء وانعدام الرؤية وضياع البوصلة، فحرب هنا، وحرب هناك، وحرب ضد العدو، وحرب ضد الحليف، حتى الوصول إلى مرحلة الانهيار الكبير، وما بين هذا وذاك كثيرٌ من التخبُّطِ والخسارة والهزائم.
إن اقتدار واجتراحَ اليمنيين الأحرار لكثير من الإنجازات والانتصارات، ومراكمة هذه الإنجازات التي باتت يومية، هي بصيص الأمل لكل حر في هذا البلد وكل الشعوب الحرة، للخروج من هذه الحروب الأمريكية الفاشلة، والتي برْهَنَتْ على صوابية المسار الحر لليمنيين الأحرار في مواجهة هذه الحرب العبثية، ولعل الانتصار الكبير والمدوِّي باتَ قريبَ المَنال بعون الله ونصره، وليست هذه المعركة بعيدة عن النواميس الإلهية التي قد يضرب الله الظالمين ببعضهم بما اقترفوه من جرائم وموبقات، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الأنعام:129].