اليمانيون ودورُهم في الهجرة وتأسيس دولة الإسلام
سعاد الشامي
لا يمكنُ قيامُ دولة من دون شعب يقطنُ أراضيَها أَو سلطة تنظّم أمورَها الداخلية والخارجية.. كما لا يمكنُ لدولة أن تقومَ في ظِلِّ افتقارها أَو فقدانها لأحد أركانها الثلاثة وهي: الأرض، الشعب، وسلطة الحكم، ما يؤدّي هذا تلقائياً إلى اختلال موازين الدولة وانهيارها.
وضمنَ منهجِ استخلاف الحياة وشريعة الله في تدابير شؤون الكون وفق المبادئ الربانية والقيم الإلهية، ابتعث اللهُ الرسلَ والأنبياءَ، فمنحهم سلطةَ الحكم وتنزيل الكتب عليهم كدساتيرَ سماويةٍ لحكم البشر وهدايتهم وتحقيق الغاية السامية التي من أجلها خلق العباد، وكان اللهُ قد أَعدَّ لحمل الرسالة الخاتمة لكُلِّ الرسالات السماوية أعظمَ شخصية في التاريخ البشرية، وهو محمدٌ صلواتُ الله عليه وعلى آله الطاهرين؛ ليجعله رسولاً للعالمين، وَهَبَه من العلم ما لم يهبه أحداً من خلقه أجمعين، فكان القائدَ العظيم والسياسي الفذ، والاقتصادي العبقري والعسكري المحنَّك والمعلم البارع والمربي الحكيم الذي لم يؤسّس دولتَه الإسلامية على مبادئ النظريات الوضعية التي يشوبُها القصورُ ولم يستندْ في حكمه إلى مُيُول النفس البشرية المندفعة على حُبِّ الذات والمجبولة على الشهوات والأطماع، بل أسّسها على نظام سماوي محكَم من لدن خبير عليم كفيل بتحقيق السعادة والصلاح لكل بني البشر.
لقد بعث اللهُ سيدَنا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والعربُ يعيشون أسوأ مراحل الضلال وسُمِّي ذلك العصر بالعصر الجاهلي؛ نتيجة لجهلهم الإنساني وغيهم العقائدي وضلالهم الفكري وعاداتهم المتنافية وطبيعة الإنسان وفطرته، فلا وزنَ لهم ولا دولة تجمعهم ولا قيادة أَو حكومة تمثلهم وترعى مصالحَهم، ولا منهج فكري سوي يوحد مسارهم ويوجه قواهم نحو غاية سامية وهدف عظيم في هذه الحياة.
استمرَّ محمدٌ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم في دعوته لقريش للالتحاق بدين الإسلام عشرة أعوام؛ لعلّهم بذلك ينالون شرفَ السبق في بناء دولة الإسلام وقيادة الناس وحمل رسالة السماء؛ كونهم قومه، متحملاً عتوهم، صابراً على عنادهم وجحودهم وطغيانهم.. وعاتبه اللهُ تعالى في تأويل قوله “فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا”، 6 سورة الكهف.. مؤكّـداً له أن لا جدوى من محاولاته مع قومٍ فسدت قلوبُهم وتاهت أرواحُهم وعميت بصائرُهم عن تقبُّل هدي الله.
خسر المجتمعُ المكي شرفَ نُيل حمل رسالة الإسلام ونُصرة النبي الأعظم.. وأدرك محمدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ وَسَلَّــمَ- بأن بيئةَ قريش لم تعد هي الأرضَ الخصبةَ للإسلام، فتجه للبحث عن قوم آخرين في مكانٍ آخرَ ليكونوا أنصارَه وأهلاً لحمل هذه المسؤولية المقدَّسة معه، وقد شاءت إرادةُ الله أن يؤهِّلَ اليمنيين ليحظَوا بهذا الشرف الرفيع والمكانة العظيمة، فعقد عليه الصلاةُ والسلام مع قبيلتي الأوس والخزرج اليمنية بيعتَي العقبة الأولى والثانية واللتين مثّلتا الخطوة الأولى في تأسيس دولة الإسلام بعد أن توفرت أركانُها الثلاثة فالشعبُ هم المهاجرون والأنصار والإقليم يثرب والسلطة بيد النبي والله هو من منحه إياها كما منحها لكافة رسله السابقين.
وفي يثرب وبعد الهجرة وبفضل الأنصار، شرع النبيُّ عليه السلام في اتخاذ الخطواتِ اللازمة لإعلان دولة الإسلام، وتمثلت تلك الخطوات بما يلي:-
1_ دمج المجتمع الجديد بكيان واحد وإلغاء كُـلّ المسميات السابقة لهم وجعلهم مجموعةً واحدةً سُمِّيت بجماعة المسلمين ومساواة جميع أفرادها في الحقوق والواجبات دون تمييز.
2_ إذابة الفواصل بين أفراد المجتمع من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وزرع روح المحبة والإيثار وترسيخ مبادئ الأخوّة الإيْمَــانية.
3_ بناء المسجد كمقرٍّ للعبادة ومبنى للحكم وإدارة شؤون الدولة وتعليم المؤمنين ما يأهِّــلُهم لحمل المسؤولية العظيمة التي تنتظرُهم..
4_ إعلان القرآن الكريم دستوراً للدولة والنظام الداخلي لكل مؤسّساتها.
5_ إعلان عاصمة دولة الإسلام وتسميتها بالمدينة المنورة.
6_ تحقيق عامل الاستقرار للدولة والأمن والأمان للمجتمع من خلال تفعيل العلاقات الخارجية مع المجتمعات القريبة من المدينة وإبرام معاهدات مع الجماعات الأُخرى على أُسُسِ حُسنِ المعاملة والجوار واحترام الحقوق بين كُـلّ الأطراف.
7_ البدء بإعداد جيش الدولة وتدريبه وتأهيله نفسياً وجسمياً من خلال ثقافة القرآن الكريم؛ واستعداداً لمرحلة بناء الدولة وتجهيز الحماية لها والسعي لتوسيع رقعتها.
وهكذا أسّس رسولُ الله صلى اللهُ عليه وآله وسلم وبمعية الأنصار قاعدةَ دولة الإسلام بأركانها القوية التي تضمنُ العزةَ لها والعلوَّ للمؤمنين وتظل قويةً ودائمة. وتنطلق وهي مؤهلة في كُـلّ زمان ومكان؛ للقيام بدورها في حمل رسالة السماء ونشرها لتصلَ مشارق الأرض ومغاربها.
وبناءً عليه كان اليمانيون من أوائل المؤمنين مع رسول الله، وكان يعتمدُ عليهم في جميع غزواته في الوقت الذي خذله أقاربُه وتآمروا عليه. وكان لهم مكانةٌ خَاصَّةٌ –أي لليمانيين الأنصار- عند الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، حيثُ قال فيهم:
اللهم بَارِكْ لنا في شامنا، اللهم بَارِكْ لنا في يمننا، قالوا: يا رسولَ الله وفي نجدنا، فأظنه قال الثالثة: هناك الزلازل والفتن، وبها سيطلعُ قرنُ الشيطان.