السيد عبدالملك الحوثي يباركُ للمقاومة الإسلامية في لبنان العمليةَ البطولية في الرد على الاعتداء الإسرائيلي:
لولا قوةُ المقاومة في لبنان وفلسطين لكانت إسرائيلُ استباحت الأُمَّــةَ في كل بلدانها
حزبُ الله والمقاومة الفلسطينية رأسُ الحربة للأُمَّــة والسياجُ الفولاذي الذي يحميها.
الاستقلالُ الأمني والاقتصادي في مكةَ جعلها ملائمةً لأن تكونَ المنطلَقَ للرسالة الإلهية
ارتباط مجتمعُ مكةَ بالملأ المستكبر دفَعَه للكفر بالرسالة الإلهية
المحرِّفون والمنحرفون حاولوا أن يقزّموا الرسالة ويفرغوها من لُبِّـها كمشروع إلهي يحرر الإنسانَ ويبني الحياة
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إِنَّـــكَ حَمِيْــدٌ مَجِيْــدٌ. وَارْضَ اللَّهُم برِضَاكَ عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المنتجَبِين وَعَـــنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّـالِحِين.
أَيُّهَـا الإِخْـوَةُ والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.
بدايةً نبارِكُ للمقاومة الإسلامية في لبنان العمليةَ البطوليةَ في الرَّدِّ على الاعتداء الإسرائيلي، حزبُ الله هم من حفظوا ماءَ وجه الأُمَّــةِ في الصراع مع العدوِّ الإسرائيلي، وهم بمواقفهم البطولية وتاريخِهم الجِهادِي العظيم مَن صنعوا المعادلةَ التي تجسِّدُ العزةَ، والتي تستعيدُ الكرامةَ، وهم مع المقاومة الفلسطينية رأسُ الحربة للأُمَّــةِ في مواجهة التهديد الإسرائيلي، والسياجُ الفولاذيُّ الذي يُقَلِّصُ من أخطار هذا التهديد، ويحمي الأُمَّــةَ إلى حَــدٍّ كبيرٍ، لولا هذه القوةُ -التي هي في طليعة هذه الأُمَّــةِ في التصدي لهذا الخطر- لَكَانَ الواقعُ مختلفاً كلياً، لكانت إسرائيلُ في عربدتها، في طغيانها، في إجرامها، في استهتارِها بهذه الأُمَّــةِ، تسلُكُ مع هذه الأُمَّــةِ سلوكَ الاستباحة، ولكانت الضرباتُ والاعتداءاتُ الإسرائيليةُ في كُـلّ بلدٍ من بلدانِ المنطقة، ولَكانت التدخلاتُ السافرةُ والجرائمُ الوحشية في كُـلّ بلدٍ من بلدان هذه المنطقة بدون استثناء، لكن وجود هذه المقاومة في فلسطين وفي لبنان قلَّصَ من هذا التهديد ومن هذا الخطر إلى حَــدٍّ كبير، يجبُ أن تعرفَ الأُمَّــةُ بكلها قيمةَ هذه المقاومة وما تعنيه بالنسبة للأُمَّــةِ كُـلّ الأُمَّــة.
نعودُ إلى سياق حديثنا بالأمس فيما يتعلَّقُ ببعضٍ من الدروس المهمة التي نستفيدُها من الهجرة النبوية، وكان سياقُ حديثنا بالأمس يركِّزُ على أنَّ اللهَ -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى- أعدَّ مَكَّـةَ والبيتَ الحرام لتكونَ المنطلقَ المهيَّأ للرسالة الإلهية الخاتمة، وكيف أنَّ الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى- جعل نبيَّه إبراهيمَ -عَلَـيْهِ السَّـلَامُ- يودِعُ في مَكَّـةَ المُكَـرَّمة مَن يقوم برعاية البيت الحرام، ومَن يتولى هذا المركَزَ الديني العظيم والمهمِّ من نَسْلِه، وهو ابنُه إسماعيلُ -عَلَـيْهِ السَّـلَامُ-؛ ليمتدَّ هذا النسلُ عبرَ الأجيال بكلها وُصُولاً إلى رسولِ الله محمدٍ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْـهِ وَعَلَى آلِــهِ- الذي بعثه اللهُ بالرسالة خاتم النبيين، وسيد المرسلين، فمَكَّـةُ المُكَـرَّمةُ أعدَّها اللهُ لتكونَ المنطلَقَ، توفرت فيها كُـلُّ العوامل المطلوبة:
أولاً: الفرعُ الإبراهيمي، إسماعيلُ -عَلَـيْهِ السَّـلَامُ- وذريته من بعده، وفي هذا الفرع حفظ اللهُ هذا الامتدادَ للدين الإلهي ضمن هذا الفرع، كان هناك عبرَ الأجيال مَن يحافظ على هذه القيم، من هو مستودعٌ لهذه المبادئ والقيم العظيمة، من يجسِّدُها، من يلتزمُ بها جيلاً بعد جيل، بالرغم من وُجُودِ الانحرافات التي بلغت إلى أسوأِ مستوى، إلى حَـدِّ الإخلالِ بمبدأ التوحيد لله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى- والقيم الإلهية، لكن بقي ضمن هذا الفرعِ هذا الامتدادُ لتلك القيم ولتلك المبادئ وصولاً إلى عبدالمطلب جَدِّ النَّبِيّ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْـهِ وَعَلَى آلِــهِ-، الذي عُرِفَ بأنه كان ملتزماً بالتوحيد، وكان إبراهيمياً على مِلة إبراهيمَ -عَلَـيْهِ السَّـلَامُ-، فيما تحكيه السِّيرُ والأخبارُ، وكان على درجة عالية من القيم والمبادئ والأَخْــلَاق التي عُرِفَ بها، ثم كان ابنُه عبدُالله، والد النَّبِيِّ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْـهِ وَعَلَى آلِــهِ- كذلك، الشابُّ الذي عُرِفَ وتميَّزَ بما هو عليه من القيم والأَخْــلَاق والطُّهر، ثم أتى النَّبِيُّ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْـهِ وَعَلَى آلِــهِ- ابتعثه اللهُ -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-، فوجودُ هذا الفرع من نسل إبراهيمَ -عَلَـيْهِ السَّـلَامُ- كان أولَ العوامل الرئيسية، وأولَ الركائز الأَسَاسية في إعدادِ مَكَّـةَ المُكَـرَّمةِ لتكونَ المنطلَقَ لختم الرسالات الإلهية.
العاملُ الآخرُ: المركَزُ الديني في مَكَّـةَ: بوجود البيت الحرام، بوجودِ مشاعر الحج هناك، وبقيت فريضةُ الحج قائمةً في أوساط الأجيال جيلاً بعد جيل، من بعد نَبِـيِّ الله إبراهيمَ -عَلَـيْهِ السَّـلَامُ- بعد أن أمره اللهُ كما قال -جَـلَّ شَأْنُــهُ-: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُـلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُـلّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحج: الآية27]، بقي الحجُّ متوارثاً بين الأجيال بكلها، وبقيت مَكَّـةُ كمركَزٍ ديني لها في المنطقة بكلها بين الوسط العربي بكله، حُرمةٌ عظيمة، وقداسةٌ كبيرة، وأصبحت هي التي يحجُّ إليها الناسُ ويأوون إليها {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}[البقرة: من الآية125]، كما قال الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-، فبقيت هي محطَّ الأنظار في الوسط العربي بكله، يُقبِلُ الناس إليها، تحظَى بالحُرمةِ والقدسية والمكانة الكبيرة في قلوب الناس.
إضافةً إلى ذلك: الاستقرار الاقتصادي والأمني الذي تميَّزت به، بينما كان محيطُها بكُلِّه يعيشُ حالةَ المشاكل الكبيرة على المستوى الأمني: هناك حروبٌ بشكل مستمرٍّ بين القبائل العربية في محيط مَكَّـةَ، وحالة من الخوف والمشاكل المستمرّة، وكذلك حالة من الاضطراب الذي عَمّ، وحالة من الفوضى الكبيرة، ثم إضافةً إلى ذلك على المستوى الاقتصادي: كانت هناك مشاكلُ وأزماتٌ ومعاناةٌ اقتصاديةٌ بالذات في شِبهِ الجزيرة العربية، القبائلُ التي تعيشُ هناك كقبائلَ أكثرُها تعيشُ حالةَ البداوة، وتعيشُ الظروفَ الصعبةَ، في مَكَّـةَ كان هناك استقرارٌ اقتصاديٌّ، دعوةُ إبراهيمَ -عَلَـيْهِ السَّـلَامُ- وضمن التدبير الإلهي؛ لأَنَّ كُـلَّ المسألة هي أتت ضمنَ التدبير الإلهي، بدءاً من مسألة الكعبة والبيت الحرام كركيزة إيْمَــانية، ثم يكون إلى جانبِها ركيزةٌ أُخرى إسماعيل -عَلَـيْهِ السَّـلَامُ-، قبله إبراهيم إماماً للناس، ثم إسماعيل -عَلَـيْهِ السَّـلَامُ-، ثم يستمرُّ هذا الدور، ثم يأتي كذلك هذه الظروف التي هُيِّـئت بتدبيرٍ من الله، وبأمرٍ من الله، وبتشريعٍ من الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-، فحظيت تلك البيئةُ بحالةٍ من الاستقرار الأمني والاقتصادي التي لا توجدُ في غيرها، وبالتالي يجتمعُ الناسُ إليها لمشاعر الحج، يستفيدون منها -كذلك- على المستوى الاقتصادي، يصلُ الكلُّ إليها من المناطق العربية المختلفة للحج، يعودون منها فيتناقلون الأخبارَ، مركَزٌ اجتماعيٌّ أَيْـضاً، ومركزٌ إعلاميٌّ مهمّاً جِـدًّا، فتوفرت فيها كُـلُّ الظروف الملائمة لأَنْ تكونَ هي المنطلَقَ الذي تنطلقُ منه رسالةُ الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-.
في ذلك الجو نفسه، في تلك البيئة نفسِها، بين تلك الأُمَّــةِ المتواجدة في مَكَّـةَ، هناك أَيْـضاً تعطُّشٌ وإظهارٌ للرغبة بنيل شرفِ الهِدايةِ الإلهية والرسالة الإلهية، بما أنَّ أهلَ الكتابِ كانوا في أصقاعٍ أُخرى ومناطقَ أُخرى يحاولون أن يتطاولوا على الناسِ من حولهم بأنهم هم أهلُ الكتاب، وفيهم الرُّسُلُ والأنبياء، كان العربُ في مَكَّـةَ وكانت قريش تتمنى لو أنَّ اللهَ يبعَثُ فيها رسولاً، أَو يجعلُ فيها كتاباً، بل نقل القُــرْآنُ الكريمُ فيما يتعلَّق بهذه الأُمنيات قولَ الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأمم}، كانوا في أُمنيتهم وفي رغبتهم التي يظهرونها في أن يأتيَ منهم نذيرٌ، وأن يحظوا بهذا الشرف الكبير، وألّا يبقوا في حالةِ الأمِّيَّة التي يعيشونها: لا كتابَ لهم، لا نَبِـيَّ لهم، لا مشروعَ لهم، كان يصلُ بهم الحالُ أن يقسموا بالله {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}: أبلغَ الأَيْمَان، {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأمم}: أن يتفوَّقوا على الأممِ الأُخرى في الاهتداءِ بهدى الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-، والاتِّباع للنذير والرسول، لكن اللهَ -جَـلَّ شَأْنُــهُ- قال: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الأرض وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الأولينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}[فاطر: 42-43].
يقولُ اللهُ -جَـلَّ شَأْنُــهُ- عنهم أيضاً: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ}[الصافات: الآية167]: كانوا قبلَ بعثةِ النَّبِيِّ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْـهِ وَعَلَى آلِــهِ-، {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأولينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}[الصافات: 167-169]، كانوا يزعمون أن لو بقيَ بينهم كتابٌ من كُتُبِ الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-، وهدى يتمسَّكون به، لكانوا على هذا النحو الذي يتميَّزون به على بقية الأمم، {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}، لما أتى هذا الذكرُ وهذا الهدى ماذا فعلوا؟ {فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[الصافات: الآية170]، فإذاً كانت البيئة مهيأة لأَنْ تكونَ هي المنطلَقَ لهذه الرسالة الإلهية.
المشكلةُ عندما أتت هذه الرسالة الإلهية في هذه الظروف المهيَّأة لانطلاقتها، لم يحظَّ ذلك المجتمع بشَرَفِ حمل هذه الرسالة، والنهوضِ بهذه المسؤولية العظيمة والمهمة، ونيلِ هذا الشرف الكبير في حمل راية الإسلام.
الرسولُ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْـهِ وَعَلَى آلِــهِ- عندما بعثه اللهُ بالرسالة استفاد من كُـلِّ هذه الظروف لتصلَ رسالتَه ويصلَ صداها إلى بقية المجتمعات التي تأتي إلى مَكَّـةَ للحج، فعلمت به، وسمعت منه، وتعرَّفَ عليه، ونقلت خبرَه وخبرَ رسالته، والمبادئَ التي يعلنُها في هذه الرسالة الإلهية، نقلتها إلى بقية المجتمعات، واستفاد أَيْـضاً من هذا القدر من الاستقرار الذي لم يكن متهيِّئاً في بقية المجتمعات ليبدأَ بهذه الرسالة الإلهية، ويتحَرَّكَ بدايةَ حركته التي تحتاجُ في بدايتها إلى هذا القدر من الاستقرار.
ثم أَيْـضاً استفَادَ من هذا المركَزِ الديني الذي تركِّزُ عليه المجتمعات الأُخرى، وهي متطلعةٌ إليه، استفاد من كُـلِّ هذه العوامل، وبدأ بإعلان الرسالة الإلهية والصدعِ بها والتبليغِ لها، واجَهَ المشاكلَ والتحدياتِ في ذلك المجتمع، فإذا أتينا لدراسةِ واقع هذا المجتمع، ما هو المانعُ له عن استقبال هذه الرسالة التي هي رسالةٌ عظيمةٌ، ورسالةُ هدى، ورسالةُ حَــقٍّ، مع أنهم كانوا يتمنون أن يأتيَ منهم رسولٌ، وأن يأتيَ فيهم نَبِـيٌّ، وأن يُبعَثَ فيهم نذيرٌ، وكانوا أَيْـضاً يتمنون ويزعمون لو أنَّ عندَهم {ذِكْرًا مِنَ الأولينَ}، أنهم كما يزعمون لكانوا {عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}، فلماذا كانت ردةُ الفعل من جانب الكثير منهم سلبية؟ {فَكَفَرُوا بِهِ}، {مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الأرض وَمَكْرَ السَّيِّئِ}، ما هي العواملُ التي تؤثِّرُ على بعضِ المجتمعات فتحولُ بينها وبين القبول بالحق، وبين الإيْمَــانِ بالحق، والاهتداءِ بهدى الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-؟ رسالةُ الله في أصلها رسالةٌ جذَّابةٌ وعظيمةٌ، مبادئُها مبادئُ عظيمةٌ، والحَقُّ فيها واضحٌ، والقيمُ والأَخْــلَاقُ التي تدعو إليها هي منسجمةٌ مع الفطرة البشرية، دينُ الله هو دينُ الفطرة، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}[الروم: من الآية30]، ما الذي يؤثِّرُ على بعض المجتمعات فتتخذَ المواقفَ السلبية التي تصلُ أحياناً ليس فقط إلى مستوى التنكر والنفور من تلك المبادئ والقيم الإلهية، والابتعاد عن الرسالة الإلهية، والتنصُّلِ عن النهوض بهذا الشرف العظيم، إنما إلى مستوى المحاربة لهذه الرسالة الإلهية، والسعي إلى القضاء على كُـلّ من يحمل هذه الرسالة ويدعو إليها.
هناك مجموعةٌ من العوامل في مقدِّمتها ثلاثةُ عوامل كانت بارزةً إلى حَــدٍّ كبيرٍ:
العاملُ الأولُ في تلك البيئة هو: الارتباطُ بالملأ المستكبر، الذي له دوافعُه في الكفرِ بهذه الرسالة، والتصدّي لهذه الرسالة الإلهية، ولهذا عندما قال اللهُ -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-: {مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الأرض}، الذين استكبروا هم الملأ في المقدِّمة، الملأ: البعضُ من القيادات السلطوية التي تتمتعُ بالمال والسلطة والنفوذ بين أوساط المجتمع، ورأت في الرسالةِ الإلهيةِ أنها تؤثِّرُ على هذا النفوذ، لماذا تؤثِّرُ على هذا النفوذ؟؛ لأَنَّه نفوذٌ استغلالي قائمٌ على الظلم، على الطغيان، على الاستعباد، على الإذلال، على الممارسات الإجرامية، وبالتالي يتعارَضُ بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ مع رسالة الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى- التي تحرّرُ الإنسانَ، والتي تحمي هذا الإنسانَ من الاستعباد والاستغلال، والتي تبني المجتمعَ المسلمَ ليكونَ مجتمعاً حراً عزيزاً كريماً، والتي تبني واقعَ هذا المجتمع على أَسَاسٍ من العدل، الرسالةُ الإلهية بمبادئها العظيمة وقِيَمِها وأَخْــلَاقِها المهمة، يرى فيها السلطويون المستكبرون مشكلةً، فيتحَرّكون للتصدي لها، والمحاربة لها.
عندما نتأمَّلُ مثلاً في واقعِ النَّبِيِّ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْـهِ وَعَلَى آلِــهِ- ما قبل البعثة بالرسالة والصدع بها، هناك نقطةٌ من أَهَـمِّ النقاط التي يجبُ أن نستوعبَها جيَدًا، رسولُ الله -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْـهِ وَعَلَى آلِــهِ- كان موحِّداً لله، كان يدينُ بالتوحيد، كان إبراهيمياً، وبالتالي لم يكن يشتركُ مع تلك البيئة وذلك المجتمع في عبادة الأصنام، والملأ في ذلك المجتمع والمجتمع بشكلٍ عام يعرفون هذه الحقيقة: أنَّ رسولَ الله هو من الموحِّدين لله، وهو لا يدينُ بالشرك كما هو حالُ الآخرين.
رسولُ الله -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْـهِ وَعَلَى آلِــهِ- قبل البعثة بالرسالة، منذُ نشأته، منذ طفولته، ثم النشأة في مراحل الشباب، وصولاً إلى البعثة بالرسالة الإلهية والصدع بها، كان أَيْـضاً ملتزماً ومستقيماً على مكارم الأَخْــلَاق، وكان معروفاً بتميزه في ذلك، فكانت أَخْــلَاقُه هي مكارمَ الأَخْــلَاق، وكان مستقيماً وطاهراً وزكياً، ومبتعِداً عن الرذائل والمفاسد، فمعروفاً أَيْـضاً بالعِفَّة، معروفاً بالأمانة، معروفاً بالصدق، فهو كان موحِّداً لله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-، وكان أَيْـضاً على المستوى الروحي له عبادتُه والتي كثيرٌ منها هي حالةُ التفكر، وكانت له مواسمُ معينةٌ يعتزلُ فيها للعبادة لله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-، فهو معروفٌ في أوساط المجتمع بكل ذلك، وكل ذلك لم يكن سبباً لمشكلةٍ له مع قومه، يعني: لم ينزعجوا منه ويحاربوه؛ بسَببِ كُـلِّ هذا: بسَببِ أنه من الموحِّدين لله، أَو بسَببِ أنه يتفرغ للعبادة لله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-، أَو بسَببِ أنه يلتزمُ بمكارم الأَخْــلَاق، ومعروفٌ بمكارم الأَخْــلَاق، ويتخلَّقُ بمكارم الأَخْــلَاق، وأنه يختلفُ عن ذلك المجتمع فيما هو عليه ذلك المجتمعُ من ممارساتٍ وانحرافاتٍ وفساد، ولا يشاركهم تلك الخرافاتُ وتلك الممارساتُ والسلوكياتُ السلبيةُ، يختلفُ عنهم في كُـلِّ ذلك، لم يكن هذا-في نفسه- يسبّبُ مشكلةً للنبيِّ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْـهِ وَعَلَى آلِــهِ- مع قومه، ويُدخِلُه معهم في صراع شديد، لكن عندما بُعث بالرسالة الإلهية حصلت المشكلةُ مع الملأ منهم، ومع الكثير من أتباع أولئك الملأ الذين ارتبطوا بهم وتأثَّروا بهم، لماذا؟
هذه مسألةٌ تفيدُنا -أيها الإخوة والأخوات- حتى الآن في نظرتنا إلى الإسلام، في نظرتنا إلى الرسالة الإلهية كيف هي؛ لأَنَّ البعضَ من المحرِّفين والمنحرفين يحاولون أن يقزِّموا الرسالةَ الإلهية، وأن يُفَرِّغوها من محتواها المهم، ومن لُبِّها الحقيقي كمشروع إلهي يحرّرُ الإنسانَ، يبني الحياةَ على أَسَاسِ منهج الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-، يحاولون أن يُبعِدوا عن هذه الرسالة تلك الأُسُسَ المهمة والعظيمة والرئيسية التي يرَون فيها مشكلةً مع المستكبرين في كُـلِّ زمن، ثم يحاولون أن يقدِّموا شكلاً آخرَ للرسالة الإلهية وللإسلام، وكأنها مُجَــرَّدُ طقوس عبادية، وكأن الإسلامَ أَيْـضاً مجموعةٌ من الأَخْــلَاقِ الطيِّبة التي يلتزمُ بها الإنسانُ كسلوك، هذا جزءٌ من الإسلام، جزءٌ من الدين الإلهي، جزءٌ من الرسالة الإلهية، لكنه ليس كُـلّ الإسلام، ليس كُـلّ الرسالة الإلهية، مع الجانب الروحي مع العبادات الروحية إذَا فُصِلَ هذا وذاك عن جوهر هذه الرسالة كمنهجٍ للحياة، إذَا فُصِلَ عن جانب العدل في هذه الرسالة، عن المبادئ التي تحرّرُ الإنسانَ من العبودية للطواغيت، عن المبادئ التي تحمي هذا الإنسانَ من استغلال المستكبرين والظالمين والمتسلطين، تصبِحُ تلك الطقوسُ وتلك الأَخْــلَاقياتُ مفصولةً عن تأثيرها الفعلي في واقع هذه الحياة، غيرَ مُجديةٍ في واقع هذه الحياة، ذات تأثير محدود وبسيط جِـدًّا في واقع هذه الحياة؛ ولذلك كان بالإمْكَان أن يتأقلمَ المشركون في مَكَّـةَ مع النَّبِيِّ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْـهِ وَعَلَى آلِــهِ- في حالة أن كان اهتمامُه على ما كان عليه ما قبل البعثة بالرسالة الإلهية، ينحصرُ في طقوسٍ عبادية معينة، ويستمرُّ في برنامجِه: يخلو في غار حراء للتعبُّد والتفرغ والتفكر، ويتنسَّكُ لله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-، ويختلفُ معهم في مسألة الشرك والتوحيد، ويتميَّزُ عنهم في أَخْــلَاقه الكريمة، كانت مسألة يمكن أن يتحمَّلوها، ولكن البعثةَ بالرسالة الإلهية بمبادئها العظيم، بجوهرها ولُبِّها الرئيسي كان بالنسبة لهم مزعجاً جِـدًّا، فلم يتحملوا ذلك أبداً.
العاملُ الأول -كما قلنا- يعودُ إلى المستكبرين، والمستكبرون انزعجوا لماذا لم يكن الرسولُ واحداً منهم، واحداً من أولئك المستكبرين، يتصورون المسألةَ مجرَّد زعامة، مجرَّد سلطة، مجرَّد مركَزٍ اجتماعي ومنصِب معيّن؛ للتمتع من خلاله بالسلطة والنفوذ والتأثير والمصالح والاستغلال الذي يعيشونه، فكانت كلمتُهم المعروفةُ التي نقلها لنا القُــرْآن الكريم: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}[ص: من الآية8]، هذه عندهم مشكلة كبيرة: كيف ينزل هذا الذكر (يعني: القُــرْآن الكريم، والرسالة الإلهية) إلى رسولِ الله محمد -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْـهِ وَعَلَى آلِــهِ- الذي لم يكن واحداً من أولئك الملأ المتسلِّطين، الأثرياء، الذين يمتلكون السلطةَ والثروةَ وذلك النفوذ المبني على ذلك: المبني على سلطة وثروة مادية هائلة.
وكان المجتمعُ أَيْـضاً من حولهم ينظُرُ إليهم هم من موقعهم في السلطة، والثروة، والنفوذ، والاستغلال، ينظر إليهم على أنهم هم الكبار الذين يتَّبعهم، الذين يتأثَّر بهم، يقتنع بما هم عليه، يلتزم بما هم عليه، يقتنع بأقوالهم، بأفكارهم، بسياساتهم، يسيرُ وَفْقَ توجُّـهاتهم، هذه كانت نظرةً مؤثِّرةً على المجتمع في نفس الوقت، وأثَّرت إلى حَــدٍّ كبيرٍ، حتى كان المعيارُ الماديُّ هو المعيارَ المؤثِّرَ في أوساط الكثير من أبناء المجتمع آنذاك، يعني: ينظرون إلى الإنسانِ كعظيمٍ بقدر ما يمتلكُ من ثروة ونفوذ وتأثير وسلطة، وليس بقدر ما هو عليه من الحَقِّ، وما يمتلكُه من قِيَمٍ، وما يتخلقُ به من أَخْــلَاق، الرصيد الأَخْــلَاقي والقيمي لا يمثِّل بالنسبة لهم وزناً في أوساط المجتمع، ينظرون في مسألة الاتّباع، في مسألة التأثر، في مسألة القناعة إلى تلك الفئة المستكبرة، بالرغم من أنها فاقدةٌ للمبادئ والقيم، يأتي شخصٌ معيَّنٌ يمتلكُ ثروةً، يمتلكُ سلطةً، يمتلكُ نفوذاً في أوساط المجتمع مبنياً على تلك السلطة والثروة، ينظرون إليه مهما كان مفلِساً على مستوى المعرفة، على مستوى المبادئ، مهما كان منحطّاً على المستوى الأَخْــلَاقي، ومفلِساً على المستوى الإنساني والأَخْــلَاقي، لا يلتفتون إلى ذلك، ينظرون إليه إلى أنه كبيرٌ بقدر ما لديه من ثروة وسلطة ونفوذ، فينشَدُّون إليه، ويتأثَّرون به، ويتَّجهون في الاتّجاه الذي هو عليه، وهذه حالةٌ سلبيةٌ جِـدًّا، لا يزالُ تأثيرُها يمتدُّ في واقع الناس، في الواقع البشري إلى اليوم، ولم يزال كذلك في حالة من الامتداد، لا ينقذُ الناسَ من هذا التأثر إلَّا الاستيعابُ للقيم والمبادئ الإلهية، والاهتداء بهدى الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-.
ولذلك نقَلَ القُــرْآنُ الكريم كيف كان يقولُ ذلك المجتمع: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القُــرْآن عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف: الآية31]؛ لأَنَّهم ينبهرون بعظمةِ القُــرْآن الكريم، مع أنهم كفروا به، لكنهم كانوا منبهرين به، وكانوا في قرارة أنفسهم يدركون أنه من الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-، وأنه ليس صناعةً بشريةً، ولا إعداداً بشرياً؛ فلذلك كانوا منبهرين به، لكن كان عندهم هذه العُقدة: لماذا لم ينزل على أحدِ أولئك الزعماء؟ قالوا: (مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) يعني: مَكَّـةَ أَو الطائف، (عَظِيمٍ)؛ لأَنَّ العظمةَ عندهم كانت تُقاسُ بالماديات: مَن هو ذو الثروة الكبيرة، والإمْكَانات الهائلة فهو -بنظرهم- العظيمُ الذي يتَّبعونه، الذي يسيرون وراءه، وهكذا نجدُ هذه مشكلةً كبيرةً أثَّرت عليهم: النظرة المادية، الارتباط بالملأ المستكِبر والزعامات المستكبرة التي صدَّتهم عن الإيْمَــان بهذا الهدى، وعن نيلِ هذا الشرفِ العظيم، مع أنَّ هذه الرسالة في أصلها، في جوهرِها، في مبادئها، في قيمها، في أَخْــلَاقها.. جذَّابةٌ، وتنسجمُ مع الفطرة، ولحملِها والإيْمَــانِ بها الشرفُ الكبيرُ الذي تنالُ به الأُمَّــةُ التي تؤمنُ بها وتلتزمُ بها السيادةَ في الواقع البشري، أن يكون لها الدورُ العظيمُ في الواقع البشري، أن تتأهَّــلَ لقيادة البشرية، قيادةً قائمةً على أَسَاس الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قيادةً قائمةً على التحَرُّك بالبشرية لتكونَ في مسيرةِ حياتها -للنهوض بمسؤوليتها في الاستخلاف في هذه الأرض- لتكونَ وفق منهج الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-، كان الرسولُ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْـهِ وَعَلَى آلِــهِ- يَعِدُهم بهذا الشرف العظيم، بهذا الفضل الكبير، ويذكِّرُهم به، ولكن -الكثير منهم- لم يلتفتوا إلى ذلك، وبقي الكثيرُ منهم مُصِرّاً على موقفه وعناده وكفره، إلى درجةِ أنَّ الكثيرَ منهم وصل إلى مستوى الخذلان، وصل إلى المستوى الذي عبَّر عنه القُــرْآنُ الكريم بقولِ الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أكثرهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}[يس: الآية7]، إلى هذه الدرجة السيئة جِـدًّا والخطيرة للغاية التي وصلوا بها إلى هذا المستوى: مستوى العناد الشديد الذي عبَّروا عنه هم في دعائهم عندما قالوا كما نقل القُــرْآن عنهم ذلك: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ} يدعون الله {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَو ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال: الآية32]، وصلوا إلى هذه الدرجة في موقفهم السلبي جِـدًّا من هذا الهدى ومن هذا الحق، وعنادهم الشديد جِـدًّا.
ولذلك كانت تلك البيئةُ معدَّة من الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى- لانطلاقة الرسالة، لكن ذلك المجتمع لم يتهيأ لأَنْ يحظى بشرف حمل هذا المشروع الإلهي والنهوض به، فأتت سُنَّة الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى- في الاستبدال، استبدال هذا المجتمع بمجتمع آخرَ يحظى بهذا الشرف الكبير، يفوزُ بهذه المنزلة العظيمة، وبهذه المهمة العظيمة والمقدَّسة، كان هذا المجتمعُ هو مجتمعَ الأنصار في يثرب (الأوس والخزرج)، الذين وَفَدَ وفدٌ منهم إلى مَكَّـةَ، وسمع بدعوة النَّبِيّ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْـهِ وَعَلَى آلِــهِ- وتأثَّروا، وأسلموا، وعادوا أَيْـضاً إلى قومهم، ثم في الموسم القادم أتى وفد أكبر، وهذا الوفد أَيْـضاً دخل في الإسلام، وبعث معهم الرسول -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْـهِ وَعَلَى آلِــهِ- سفيراً أَو رسولاً من عنده إلى المدينة ليقوم بدور التهيئة، ثم عندما أتى الأمر من الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى- بالهجرة من مَكَّـةَ، وأتم النَّبِيّ دوره في مَكَّـةَ، وأتى قول الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى-: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ}[الذاريات: الآية54]، تهيأت ظروفٌ أُخرى ومجتمعٌ آخر ومرحلةٌ جديدةٌ للنهوض بهذه الرسالة، والتحَرُّك بهذه الرسالة في الواقع البشري، فكانت مرحلة مهمة.
المجتمعُ الجديدُ نقل القُــرْآنُ الكريمُ ما يُمَيِّزُه وما هيَّأه ليكونَ على درجة جيدة من التقبل لهذا الدور العظيم، يقول الله -سُبْحَـانَـهُ وَتَعَالَـى- عن مجتمع الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: الآية9]، مجتمعُ الأنصار كان مجتمعاً خَيِّراً، مِعطاءً، صبوراً، وهذه من أَهَـمِّ الصفات، منسجماً مع الآخرين، لم يكن مجتمعاً أنانياً، ولا مستكِبراً، ولا يبني مواقفَه على أَسَاس من الارتباطات المادية، كان مجتمعاً متخلِّصاً من تلك السلبيات الخطيرة جِـدًّا.
نكتفي بهذا المِقدارِ..
نَسْأَلُ اللهَ –سُبْحَانَــهُ وَتَعَالَى- أن يوفِّقَنا وإيّاكم لما يُرضيه عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَــمَ شُهْدَاءَنا الأبرارَ، وَأَنْ يشفِــيَ جرحانا، وَأَنْ يفــرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بنصرِه.. إِنَّـهُ سَـمِيْـعُ الدُّعَـاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.