ويبقى الحسين (5) … بناءُ القوة لمواجهة الجبت والطاغوت تستلزمُ بناءَ العقل والنفس والجسد
أم مصطفى محمد
على مر التاريخ لم تكن هناك استراتيجيةٌ عليا سخّرت جميعَ إمْكَانياتها؛ لتحقيقِ هدفها في خلق حياة أفضل ونجحت مثلما نجحت الاستراتيجيةُ العليا عند الإمام الحسين -عَلَيْــهِ السَّلَامُ- والتي كانت كربلاء أولَ منصة لعرضها أمام الفكر الإنساني ، فالاستراتيجيةُ العليا التي انتهجها سيدُ الشهداء -عَلَيْــهِ السَّلَامُ- قد نجحت في خلق الروح المعنوية للتغيير في النفس والمجتمع بمراتبَ عالية عَجِزَت كثيرٌ من التيارات الفكرية والمدارس الثقافية والدينية عن إيجاد بديل لها؛ كونها قد حقّقت الهدفَ الأعلى المتمثل بالإصلاح ، وهذا الهدفُ لم تحقّقه استراتيجيةٌ مثلما حقّقته الاستراتيجيةُ العليا لعاشوراء ، وهذه تُعد ميزةً فريدةً اختصت بهذه المعركة ، فعاشوراء كانت فريدةً في كُـلّ جزئياتها بما فيها الاستراتيجية العسكرية وما تضمنته من تكتيك وهجوم ودفاع ، فضلاً عن استخدام الحربِ النفسية والإعلامية والعقدية ، فلقد كانت تلك المعركةُ أُنموذجاً فريداً في هذه الحياة ، حيث كانت الاستراتيجيةُ العليا عند الإمام الحسين -عَلَيْــهِ السَّلَامُ- هي إصلاحَ الأمة الإسلامية؛ وذلك لتفشي الفساد فيها وانحسار المعروف وتولي المنكر في جميع مرافق الحياة ، الأمر الذي تطلب منه إعداداً خاصاً؛ لتحقيق هذا الهدف الذي شمل مجموعةً من الوسائل والآليات ، فكانت بذلك الحرب العسكرية التي تجلت فيها كذلك الحربُ العقدية والفكرية والنفسية والاجتماعية والإعلامية .
إن أولَ عاملٍ من عوامل الإصلاح الذي قام به الإمامُ الحسين -عَلَيْــهِ السَّلَامُ- كان متمثلاً بإظهاره للأسباب والعوامل التي أدّت إلى تراجُعِ الأمة وانحراف مسارها من خط الرسالة المحمدية وذلك من خلال الخطبتين الاحتجاجيتين اللتين حاجج بهما الإمام الحسين -عَلَيْــهِ السَّلَامُ- جيشَ العدوّ ، فلقد لعبت تلك الخطبتان دوراً مهماً في إرشاد كُـلّ باحث ومفكر وقارئ إلى العوامل التي تعملُ على تغيير المجتمع الإسلامي والتي أسهمت في إخراج هذه المجاميع من الجُنْد الهادفين لقتاله -عَلَيْــهِ السَّلَامُ- ، فها هو -عَلَيْــهِ السَّلَامُ- يُظهر من خلال تلك الخطبتين أن هذه العواملَ الانثروبولوجية لو طُبِّقت على بيئةٍ أُخرى لأنجبت مثلَ هذه المجاميع الفاسدة والهدامة ولعاثت في الأرض الفسادَ ، ولعلنا نجدُ اليوم السيد القائد حفظه الله قد عمد إلى التركيز في محاضراته الإيمانية على نفس العوامل التي تناولها الإمام الحسين -عَلَيْــهِ السَّلَامُ- في خطبتيه والتي تبين سبب انحراف الأمة الإسلامية عن مسار الرسالة المحمدية الأصيلة منذ وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وحتى يومنا هذا والتي كانت هي السبب الرئيسي لما يلقاه اليوم المستضعفون من تنكيل وعذاب على أيدى المستكبرين الظالمين ، فالمتأمل في معركة كربلاء يجد أن هذه المعركة قد كشفت عواملَ التردي الاجتماعي والفكري للأمة الإسلامية وبيّنت سبل معالجة هذه الانحرافات الفكرية والنشوئية في الأسرة والمجتمع وهذا العلاج هو مرهونٌ بصلاح التوحيد لله تعالى وإن أي تردي في الحياة إنما سببه انحراف الفكر من نواة التوحيد .
إن مما اختصت به السلطاتُ الحاكمة بناءَ جيوشها بناءً عسكرياً من خلال التدريب على فنون القتال واستخدام الأسلحة وتجهيز هذه الجيوش بأحدث ما تتوصلُ إليه عقولُ الحرب والمعارك ، فضلاً عن البناء النفسي للمقاتلين وغالباً ما تتوقفُ قوةُ الجيش على هذه المرتكزات إلا أنها تكونُ مكشوفةً لإظهار قوتها وضعفها في ساحة المعركة فهي الفيصل في إظهار ميزان القوى ومواطن الضعف ، ولقد أرشد القُــرْآنُ الكريمُ قبل الدراسات العسكرية على أهميّةِ البناء الحربي للجيش يقولُ عز من قائل: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) وبناء القوة يستلزم بناء العقل والنفس والجسد وتهيئة الوسائل التي يتم بها هذا البناء؛ كي يتكونَ لدينا البنيانُ المرصوص والذي أشارت إليه الآيةُ الكريمةُ في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ) ، فهذا البنيانُ قد أظهرته معركة الطف كاستراتيجية قتالية فريدة في ظهورها وممارستها حتى أعجزت الخصمَ الذي يفوقها عدداً وعُدَّةً بمئات المرات من أن يحقّق نصراً عسكرياً سريعاً وفي دقائق معدودات فواقع المعركة يكشف عن أن هذه الألوفَ المجتمعة والمقاتلة اضطرت للمواصلة في القتال ساعات عديدة حتى أعيت القادةَ قبل الجند على تحقيق نصر عسكري حقيقي ، ولعل التاريخَ يعيدُ نفسَه في كون هذا العدوان رغم عَدَدِه وعتاده لم يستطع على امتداد أربع سنوات أن يحقّق نصراً حقيقياً على أرض المعركة وما كان ذلك إلا لكون النصر من عند الله ، وما كان اللهُ لينصُرَ هؤلاء الظالمين .